متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
10 - أحاديث أم المؤمنين عائشة و أدوار من حياتها
الكتاب : نظرات في الكتب الخالدة    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

- 10 - أحاديث أم المؤمنين عائشة وأدوار من حياتها
----------------------------- ص 132 -----------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم

( أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدى هدى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) .
بهذه الكلمات كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يفتتح مجالسه العلمية بين أقرانه من الصحابة وتلاميذه من التابعين ، وهو حين يبدأ بها مقاله العلم إنما يعني أسمى ما يقصد إليه علماء الدين ، وطلاب الحقيقة من حيث السعي وراء الحق وحده ، والابتعاد عن الضلالة والزيغ وهجر القول وفحشه . وأنه لا سبيل إلى ذلك بالاستمساك بركني الدين الحنيف وهما : كلام الله سبحانه وكلام رسوله عليه السلام .

أما ( الأول ) فلأنه الحق الأسمى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، كيف لا ، وهو كلام الله سبحانه المعجز للبشر الدال على نبوة محمد عليه السلام .

وأما ( الثاني ) فلأنه كلام هذا النبي الأمي الأمين الكريم الناطق بكتاب الله تعالى ، فهو لا ينطق إلا عن وحي ، ولا يقول إلا عن صدق ، ( إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ) ، وقد نعته سبحانه في محكم آياته ( وإنك لعلي خلق عظيم ) .

- ص 133 -

فكل ما جاء عن هذين الطريقين فهو الحق الصراح الذي لا جدال فيه ولا مرية وكل ما جاء عن غير هذين الطريقين فهو عرضة للنقد والتقويم ، والاستحسان والاستهجان ، والتعديل والتجريح .

ولعل القارئ الحصيف قد وقف على ما أعنيه من هذه المقالة ، وهو أن هذه الكلمات الحكيمة التي كان يفتتح بها هذا الصحابي الجليل مجالسه كان يقصد بها أمرا عظيما في مجال ( التشريع الإسلامي ) وهو العكوف على الكتاب والسنة .

أما الكتاب : فهو واضح ظاهر متفق على ألفاظه وترتيبه اتفاقا توفيقيا لا جدال فيه ، وأما السنة : فينبغي أن تؤخذ بالتواتر عن الثقات الذين لا يتواطأون على الكذب على رسول الله .

وشئ آخر يجمل بنا أن نستخلصه من هذه الكلمات الصادقة الحكيمة وهو أن هذين المصدرين قد ارتفعا عن مقام النقد والتقويم والتعديل والتجريح ، وأن ما سواهما ينبغي أن يخضع لميزان النقد ، وأن نحكم فيه عقولنا وأن نزنه بميازين الكلام ، حتى نميز سقيمه من صحيحه ، وغثه من سمينه ، وصريحه من مزيفه .

ونحن في إبان ذلك لا يهولنا أمر المتكلم مهما بلغت منزلته من المجتمع ومكانته من الناس ، لأن المعنى عندنا هو الحقيقة ، وكلمة الحتى ، وليس شئ أكثر من هذا ، ولو كان ذلك المتكلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأن ( الصحابة ) رضي الله عنهم - مهما بلغوا من درجة العدالة والضبط والدقة في المحافظة على ألفاظ الرسول وعباداته - فإنه يجوز عليهم

- ص 134 -

ما يجوز على سائر البشر من حيث الخطأ والنسيان ، فمنهم المعيب والمخطئ ، و منهم صحيح الذاكرة والنساء ومنهم خالص القصد والعقيدة ومن في عقيدته دخل أو زيغ ، ومنهم الجلة المقربون من حضرة الرسول الأعظم ومنهم المنافقون والخارجون عن الجماعة بنص القرآن . ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ( 1 ) .

وليس في ذلك ما يهولنا أو يزعزع عقيدتنا في الصحابة ، أو يضعف من موقعنا من حملة لواء هذه الرسالة الكبرى ، إذ ليس هناك جماعة ظهرت على وجهة الأرض إلا وفيها هذه الأنماط البشرية المختلفة ، ابتداء من درجة العدل الثقة إلى درجة السفيه الوضاع والمناطق المارق ، وذلك قدر أجمعت عليه ( القرائن التاريخية ) وأيدته ( قوانين الاحصاء في دراسة الجماعات الإنسانية منذ آدم حتى اليوم إلا أن ناموس التطور في عقلية الجماعات الدينية وفي أساليب الدعوة إلى الله بلغت منتهاها في شخص محمد وصحبه فلم يكن هناك نبي جاء بأعظم مما جاء به ، ولم تكن هناك جماعة أصدق عزما ولا أكثر عددا من جماعته فكان صلوات الله يمثل - حقا - نقطة الكمال فيما انتهت إليه الرسالات السماوية ، كما في ذاته الشريفة ، فهو سيد الأنبياء ، وإمام المرسلين . . وكمال في دستوره وقرآنه لأنه جامع لما جاء قبله من شرائع . . وكمال في أصحابه لأنه كان بهم أكثر أولي العزم

 

 1 - التوبة : الآية 101

 
 

- ص 135 -

المرسلين تابعا ( 1 ) وفي ذلك يقول : صلوات الله عليه : ما من نبي إلا وأعطى ما آمن به البشر إلا أنا ، فقد أعطيت هذا القرآن وأرجو أن أكون به أكثرهم تابعا .

ولكن هذا الكمال الذي عرف به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يناقض أن يكون من بين الجماعة نفر أخلوا بما أمر به صلوات الله عليه من استمساك بأهداب الشريعة واعتصام بما جاء به محمد من هدى . . كما أن ذلك في نفس الوقت لا يمنع من أن نضع هذه الصفوة من الجماعة أو هذا الرعيل الأول من المسلمين تحت نواميس النقد .

فهذه الصفوة لم تكن من نمط واحد من العدالة ، كما أنها لم تسلم من الدخيل عليها ، ولا من التظاهر بالإسلام المخفي للكفر ، على الرغم مما كان يهدف إليه صلوات الله من هدية البشر جميعا ، وما يرجوه من الوصول بهم إلى أسمى درجات الهداية وأعلى منازل الصديقين .

وقد أشار الله في محكم آياته إلى ما كان يعتلج في صدر هذا الرسول الأعظم من رغبة صادقة عنيفة في أخذ الناس جميعا إلى طريق الله ، وميل في السلوك بهم كل سبيل يحقق لهم معاني الهداية ، بلا استثناء فرد واحد من البشر .

 

› 1 - أولوا العزم من الرسل هم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وقد رتبهم الناطق وفق درجاتهم في قوله : محمد إبراهيم وموسى كليمة * فعيسى فتوح هم أولوا العزم فاعلم .

 
 

- ص 136 -

وقد أشار الله إلى هذا الخلق العظيم في مواضع كثيرة فقال في موضع : ( فذكر إنه أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ( 1 ) .
وقال في آخر : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( 2 ) .
وقال في ثالث ( فذكر إن نفعت الذكرى ( 3 ) . إلى عشرات الآيات التي تشير إلى إصرار هذا المصلح الأكبر ، ورغبته الشديدة في هداية الناس جميعا ، وإشفاقه عليهم من أن يسلكوا غير سبيل الهداية ، وهو في هذا النهج القويم لا يرضى وواحد منهم خارج عن الجماعة .

وقد أثنى الله على رسوله فيما كان يهدف إليه من مثالية في الدعوة إلى الله ، فقال عز من قائل : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وواساه فيما لم يتحقق له من هداية الناس جميعا ، وفيما كان يرجوه من إنقاذهم من ضلال الكفر ، وظلام الجهل بما قدمه له من قصص إخوانه الأنبياء والمرسلين في العصور السوالف وأن هذه سنة الله في خلقه ، ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ( 4 ) كل هذا يدلنا دلالة قاطعة على أن جلال الإسلام في مبادئه ومثله وليس في أشخاصه ، وأن جلال الإسلام لا يتأثر بالأشخاص مهما تواطأوا على تأييده أو تواطأوا على هدمه .

 

 1 - الغاشية : الآية 21 و 21 . 2 - القصص الآية 56 . 3 - الأعلى : الآية 9 . 4 - الأحزاب : الآية 62

 
 

- ص 137 -

أقول ، ولو أهل الأرض جميعا ومثلهم معهم أجمعوا على حرب الإسلام ومناصبته العداء ما نقصوه شيئا من جلاله ، ولو أن أهل الأرض جميعا ومثلهم معهم اعتنقوا مبادءه ما زادوه جلالا على جلاله فسر هذا الإسلام في مبادئه المثالية ، وسر هذه المبادئ مشخص في ذات المبادئ نفسها وليس في الأشخاص وهذه الفئة لا يدركها إلا الراسخون في العلم .

ومن ثم فإنه لا يضير الإسلام بحال من الأحوال أن يعرض الصحابة للنقد ، وأن يتناول الباحثون أقوالهم وسير حياتهم وسلوكهم بالتفنيد والتحليل بل إن الإسلام الذي وضع مبادئ العدالة في الأحكام ومبادئ المساواة بين الأشخاص يبيح ذلك النقد وذلك التحليل ، بل يحث عليه ويأمر به ما دام ذلك النقد قصد به السعي وراء الحقيقة والدعوة إلى الطريق السوي وما لنا نذهب بعيدا عن هذا الذي نقصد إليه ونتوخاه ! ! .

وقد رسم لنا المصلح الأكبر محمد عليه السلام هذا المنهاج العادل في الحكم على الناس جميعا ، حين حثنا بطريق مباشر وغير مباشر أن نستمسك بكلمة الحق لذاتها دون مراعاة للأشخاص ، وأن ننصر الحق وإن كان في جانب الضعيف الحقير ، وأن نكيد للباطل وإن كان في جانب القوي العظيم ، وأن لا نفرق بين الشريف والوضيع في تنفيذ حدود الله تعالى وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن أسامة بن زيد - وهو حب رسول الله وابن حبه - استشفع عنده في امرأة من أشراف قريش سرقت ، ولكن المصلح الأكبر أبى أن يعطل حكم الله فيها ، وأرسل قالته المشهورة الخالدة : ( أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم ، إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف

- ص 138 -

تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وهكذا أبى محمد ، مؤسس قواعد المثالية والعدالة والمساواة على وجه الأرض أن يعطل حدود الله من أجل هذه المرأة المخزومية مها بلغت من المكانة في نسبها والعزة في قومها وكم أثنى رسول الله على جماعة من أصحابه غلب عليهم الضعف والوهن وأرهقهم الفقر وقلة ذات اليد ، ولكنهم ارتفعوا بإيمانهم حتى جاوزوا عنان السماء بفضل إخلاصهم للدعوة وتفانيهم في حب صاحب الشريعة ، وحب آله من بعده ، منهم سلمان ، وعمار ، وأبو ذر ، والمقداد ولو كان هذا التفاضل يقوم على أساس العلو في النسب ، والعزة في القبيلة ، والكثرة في المال والبهرجة في المظاهر لما قال صلوات الله وسلامه عليه في حق سلمان الفارسي ( سلمان منا أهل البيت ( 1 ) ذلك لأن نسب التقوى ، وصلة الروح ، ودرجة الإيمان تقطع ما دونها وتعلو على ما سواها من القيم .

 

 1 - وجاء في صحيح مسلم أن أبا سفيان وهو شيخ قريش - أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : والله ما أخذ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال يا أبا بكر : لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك الحديث تجده في : صحيح مسلم 7 / 172

 
 

- ص 139 -

وهكذا ألغى الرسول الأعظم الحواجز الطبقية بين الناس قبل أن يلغيها فلاسفة الاشتراكية بمئات السنين ، وهكذا كان ينصر الضعيف التقي على القوي الجائر حين أرسى بين الناس ميزان العدل وجعلهم جميعا سواء أمام هذا الميزان وقد جاءت النصوص مبشرة بذلك في القرآن وفي الحديث القدسي ، وفي الحديث النبوي فما جاء في القرآن : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( 1 ) .

وجاء في الحديث القدسي : ( من أطاعني أدخلته الجنة ولو كان عبدا حبشيا ومن عصاني أدخلته النار ولو كان شريفا قرشيا ) .

ولا يكاد يوجد حديث نبوي إلا وفيه جانب من هذه المثل العادلة وقد أشار الرسول في ( أحاديث المغيبات ) أن من أصحابه من سيسلك سلك الجادة ، وأن منهم من سيحيد عنها ، وأن منهم من سيبغى عليه ، ويجار عليه ، وأن منهم الباغي ، والجائر : فخاطب بن ياسر رضي الله عنه : ( يا عمار ستقتلك الفئة الباغية ) .

وخاطب عليا : يا علي أتدري من أشقى الأولين والآخرين قال الله ورسوله أعلم

 

 1 - الحجر الآية 13 .

 
 

- ص 140 -

قال : أشقى الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين الذي يطعنك ( 1 ) وفي هذا كله إشارة لا تقبل الجدل على أن أصحابه - من حيث التفاوت في الدرجات هم كسائر البشر ، سواء منهم الألمعي الكامل ، ومنهم الناقص الخارج ، فضلا عن كونهم ليسوا سواء في صدق الصحبة ومراتب الدعوة أفبعد ذلك يتلمس المتلمسون دستورا أعظم من هذا الدستور يستندون عليه في جواز نقد الصحابة ؟ !

إن الصحابة والناس جميعا سواء في نظر هذا الدين الحنيف إنما يتفاضلون بالتقوى ، وبمقدار ما أحرزوه من توفيق في تطبيق هذا المبادئ فالصحابي لا تتفق صحبة في شئ إذا لم يستمسك بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من شرائع ومبادي ومثل عليا والمعاصرون - أمثالنا - لا يضرهم في شئ بعد ما بينهم وبين رسول الإسلام من قرون وأزمان سحيقة إذا صح فهمهم لهذا المبادئ وصدقت عزيمتهم في الاستمساك بأهدابها السامية فكم من قريب وهو بعيد ، وكم من بعيد وهو قريب ! !

أقول : إنما مثلنا ومثل أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم في الدعوة إلى الحق وفي وجوب تبليغ ما جاء به إلى الأجيال المتلاحقة - هو سواء نعم ! وليس للصحبة من منقبة أعظم من شرف المشاهدة لصاحب الشريعة والأخذ عنه ولكن ينبغي أن نعلم أن هذه الصحبة لها وجهان متميزان ، فهي : نعمة عظمي ، وحجة دامغة على صاحبها في آن واحد

 

 1 - ابن قتيبة الإمام والسياسة 1 / 119 طبعة القاهرة .

 
 

- ص 140 -

وأعني بذلك أنه لو كان لهذه الصحبة موضع شفاعة لصاحبها أو حصانة تنفى عنه التعرض للنقد ، أو تصونه من محنة الامتحان والابتلاء والحكم عليه أو الحكم له ، لما خاطب صلوات الله وسلامه عليه فاطمة الزهراء - وهي بضعة من جسده الشريف وسيدة نساء العالمين بلا مدافع - بقوله : ( يا فاطمة بنت رسول الله سليني بما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئا . . . ( 1 ) قال ذلك حين نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) .

نعم ! إن المبادئ المثالية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم في العدالة والمساواة تضع الناس جميعا في موضع واحد حينما تأخذ في تطبيق الأحكام عليهم وبالأمس القريب خرج الأستاذ المحقق السيد مرتضى العسكري إلى العلماء والباحثين وهو حين يقدم هذا الكتاب إلى القراء إنما يعني بذلك صنفا معينا من القراء ، وهم الخيرة الخالصة والنخبة الممتازة الذين تطمح نفوسهم إلى كلمة الحق خالصة نزيهة ، وتشتاق أفئدتهم إلى تعمق التاريخ الإسلامي ، والتبصر بتاريخ التشريع وهو حين يتجه إلى هذا البحث العميق يجد أمامه من النصوص في حياة السيدة عائشة مستندا راسخا يستند إليه ويدعم به آراءه ، من حيث الدراسة الحرة التي تهدف إلى الحق وحده مهما كان ذلك الحق مرا عند قصار النظر وعند من أساءوا الحكم على الصحابة فجعلوا لكل طبقة منهم ميزانا خاصا في نقدهم والحكم عليهم ، مع أن عدالة الأحكام التي

 

 1 - صحيح مسلم 1 / 13 باب وأنذر عشيرتك الأقربين .

 
 

- ص 142 -

علمنا إياها إمام المرسلين تقتضي توحيد الميزان ، وتقتضي توحيد وضع المحكومين عليهم أمام هذا الميزان إن كلمات محمد الخالدات في المساواة والعدالة في الأقوال والأفعال تعتبر - في نظر المنهج العلمي الحديث - دستورا أصيلا نعتمد عليه في أبحاثنا العلمية حين ننقد الأشخاص ، وحين نزن أقوالهم ، فنتناسى إبان حكمنا عليهم مكانة الأشخاص مهما كانت مكانتهم ، ونذكر الأقوال والأفعال وحدها مهما كانت شخصية صاحبها وأعني بما أقوله - أن رسول الإسلام وخاتم النبيين علمنا - بطريق غير مباشر - أن نسلك في البحث العلمي جانب ( الموضوعية ) وأن نتجنب كل ما يمت إلى ( الذاتية ) في البحث علمنا صلوات الله عليه هذه الأصول العلمية وقررها في مجال البحث العلمي قبل أن يتشدق بها دعاة المذاهب التجريبية وفلاسفة العلوم الحديثة في أوروبا ، وفي أمم الغرب قاطبة .

والأستاذ العسكري في كتابه هذا يسلك سبيل الباحثين المعياريين والمقنين الذين يتناولون قضايا البحث العلمي في صورة منتظمة مستأتية رتيبة وقد أبان في صدر هذا الكتاب كثيرا من العقبات التي تعترض الباحثين وأخطرها انقياد الباحث إلى عواطفه حين يؤثر حزبا على حزب وشخصا على آخر كلما وجد في هذا أو ذاك هواه الشخصي ، على حين يكون الحق بخلاف ذلك كذلك أفصح عن الحالات التي يكون فيها الباحث مغرضا في بحثه مستترا خلف ستار لطيف يخفى وراء كلمة الحق وأكثر ما يكون ذلك عند الباحثين الذين يحاولون التوفيق بين رأيين متناقضين فالتوفيق من حيث الظاهر والمتبادر إلى العقول جميل ، ولكن الحق لن يجتمع في رأيين متناقضين أبدا

- ص 143 -

وقد استطاع السيد العسكري أن يتخلص في بحثه هذا من العيوب التي تعترض سبيل الباحث العلمي فنظر في بحثه نظرة موضوعية مجردة عن الأشخاص وأقدارهم وعن جميع الغايات إلا غاية واحدة ، وهي الحق لذاته ، ومن ثم استطاع أن يترك العاطفة جانبا وأن يطرح الأهواء وراءه ظهريا ، فالتزم في بحثه هذا حكم العقل وحده كما أنه تحرز من التعصب الأعمى ، فلم يتعصب لرأي على رأي ولا لحزب على حزب ، ولو كان في هذا الحزب مذهبه وليس جمال البحث في أنه وضع دستورا لهذا البحث ، وإنما الجمال الحقيقي الذي يلفت نظر الباحثين ويستولي على إعجابهم فضلا عن تقديرهم - هو : أنه استطاع أن يطبق هذا الدستور تطبيقا عميقا في بحثه هذا ، وأن يقف من أحاديث أم المؤمنين موقفا حازما يجلي الحقيقة في أبهى حللها حين آثر الحقائق على أقدار الأشخاص وقديما لفت نظري وأنا أخرج كتابي ( الإسراء والمعراج ) في ضوء المنهج العلمي الحديث ، أن ألتقي بحديث مروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - تنفي فيه كون الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد معا ، وتصر على أنها كانا بالروح ، وقد وافقها على هذا الرأي جماعة من الصحابة منهم معاوية ابن أبي سفيان ( 1 ) .

فكانت هذه عندي أول ثلمة داخلني فيها الشك في صحة بعض ما روي لنا عن أم المؤمنين من أحاديث فحفزني ذلك على أن أبحث عن بعض ما جاءنا من هذه الأحاديث ، ولكن يأبى الله إلا أن ينفرد الأستاذ العسكري بنقد أحاديث أم المؤمنين عائشة وأن يتناول دراسة أسانيدها

 

 1 - الدكتور حامد حفني داود : الإسراء والمعراج في ضوء المنهج العلمي الحديث ص 36 .

 
 

- ص 144 -

ومتونها في صورة علمية مفصلة ، فأغناني فيما جاء به مئونة البحث المقنع حين سلك فيه المسلك الذي يرضى المنهج العلمي الحديث وإن القرائن التاريخية لتدلنا على ما جاء في بعض أحاديثها من ضعف لا يداخلنا فيه الشك فهذه الأحاديث التي تروى عن خلافة الشيخين دون التعرض لذكر على ينبغي أن نقف منها موقف الحذر الشديد والتثبت التام وكذلك الأحاديث التي تروى عن فضائل الشيخين وفضائل عثمان ، وسيرة الإمام علي ، لأنه - مما لا شك فيه - كان للعاطفة في هذا المجال دور خطير فموقفها من أبي بكر موقف الابنة من والدها ، كما أن موقفها من عمر موقف يختلف بكثير عن موقفها من على الذي يعتبر منافسا للشيخين وفي خروجها على عثمان وتحريضها على قتله ثم مطالبتها بدمه والثأر له لون من التردد في الرأي يحملنا على الشك في أحاديثها عنه ، وكذلك موقفها ضد علي ومساندتها لخصومه وانضمامها إلى طلحة وزبير والناكثين لعهدهما في موقعة الجمل فيه شئ كثير من التحامل على شخصية الإمام الورع ، وفيه دعوة إلى التفرقة في صفوف الجماعة الإسلامية ، وفيه تنفيس عن شئ في النفس ، حتى أثر عنها أنها سجدت لله شكرا يوم انتهى إليها نبأ مقتل الإمام ( 1 ) ثم قالت متمثلة :

فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر

 

 1 - أبو الفرج الإصبهاني مقاتل الطالبين ص 43 .  السيد العسكري : أحاديث أم المؤمنين عائشة : ص 203 .

 
 

- ص 145 -

فكل حديث لها يمت إلى شئ من هذه الأحداث الكبرى يحب أن نقف منه في حذر شديد ، وأن نقنع نفوسنا بكلمة الحق مجردة عن الأشخاص والأهواء وقد يكون من حق الصحابة أن يخطئوا ، فكل إنسان - كائنا من كان - من حقه أن يصيب وأن يخطئ في الأمور الظنية ما دام يجتهد اجتهاده الخاص ولكن ليس من حق الباحثين أن يلغوا عقولهم وتفكيرهم المنطقي ، أو أن يتصاغروا أمام الشخصيات الكبرى فيخفوا كلمة الحق ، وكذلك ليس من حقهم أن يضعوا اجتهاد المخطئ واجتهاد المصيب في درجة واحدة من القبول والامتناع ، بل يجب علينا أن نتثبت من ذلك كل التثبت لكل من بلغ درجة الاجتهاد وما دام كل مجتهد محاسب على اجتهاد ، بين يدي الله سبحانه .

ولكن الضائر حقا - في نظر المنهج العلمي الحديث - أن نقف نحن من علي وعائشة موقف المتحامل المغرض ، وأن نضعهما في منزلة واحدة من العدالة ، وأن نسوي بين من اجتهد وأصاب - وهو علي رضي الله عنه - وبين من اجتهد وأخطأ - وهو عائشة ، أو معاوية ، أو غيرهما من الصحابة المتحاملين على الإمام علي لقد كان ( رضي الله عنه ) أمة وحده ، لا لمحض كونه باب مدينة العلم ، ولا لكونه وصي محمد عليه السلام ، ولا لرزانة لسانه ، أو قوة جنانه ، وشجاعته في الحق ، وإرسائه قواعد هذا الدين الحنيف ليس غير ، ولكن لشئ خطير هو مناط ذلك كله ، ألا وهو مراقبة الله سبحانه في جميع أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ، حتى لقد كان يضيق على نفسه ويشق

- ص 146 -

عليها من أجل تحقيق المصلحة العامة للمسلمين وإيثاره دنياهم ومصلحتهم على ودنياه ومصلحته ، ولو كان في ذلك أشد الضيق على نفسه ولقد كان في خلافته مثلا أعلى ، نزاهة في الطعمة ، وعدالة في الأحكام عزوفا عن الدنيا سعى غيره إلى الخلافة ، وسعت الخلافة إليه ، وآثر غيره مصلحة نفسه ومصلحة أقاربه ، وآثر هو مصلحة المسلمين على نفسه وعلى أقاربه ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( 1 ) وتبجح غيره على فقراء الصحابة وعدولهم على حين ساواهم هو وأنزلهم منزلة النفس والولد ، وليس أقل من أن يقال مزج غيره المصلحة العامة بالمصلحة الخاصة ، ولكنه أبى أشد الإباء إلا أن يعمل للمصلحة العامة وحدها ، متحرزا كل التحرز من أن يعمل أو يجتهد لمصلحته الشخصية.

روى ( ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ) أن عقيل بن أبي طالب قدم على أخيه ( علي ) بالكوفة فقال له علي : مرحبا بك وأهلا ، ما أقدمك يا أخي ؟ قال : تأخر العطاء عنا ، وغلا السعر ببلدنا ، وركبنا دين عظيم ، فجئت لتصلني فقال علي : والله ! ما لي ترى شيئا إلا عطائي فإذا خرج فهو لك

 

 1 - الحشر : الآية 9 .

 
 

- ص 147 -

قال عقيل : أشخوص من الحجاز إليك من أجل عطائك ! وماذا يبلغ مني عطاؤك ؟ وماذا يدفع من حاجاتي ؟ فقال الإمام : الورع رضي الله عنه : هل تعلم لي ما لا غيره ؟ أم تريد أن يحرقني الله في نار جهنم في صلتك بأموال المسلمين ( 1 ) .

ولا شك أن عقيلا الذي لم يسعه عدل الإمام الورع ارتحل إلى معاوية الذي لا يميز بين الحلال والحرام ، ويعتبر بيت المال وأموال المسلمين جميعا ملكا له وحده ! ! فهذه صورة واضحة تدلنا مثالية ( علي ) في الورع وإيثاره المصلحة العامة على نفسه وأهله وأقاربه وهي - وأيم الله - مثالية لم يبلغ مبلغها أحد غيره من الصحابة ، ولله دره حين كان يردد قالته المشهورة ( يا دنيا غري غيري ) ما أحسب صحابيا إلا وفي اجتهاده نظر إلا ( عليا ) فقد كان في اجتهاده أمة وحده أقول ذلك وأشهد به في كل ما عرض أمامه من الأحداث السياسية في الإسلام : اجتهد عمر في الخلافة فألبس أبا بكر رداءها ، واحتج لذلك بأنه أراد درء الفتنة ، ثم تحمل مسئولياتها من بعده واعترف هو بهذا الذي صنع

 

 1 - الدكتور حامد حفني داود مجلة الإسلام السنة 13 العدد 14 تنظيم الصدقة في الإسلام .

 
 

- ص 148 -

في أكثر من موضع ( 1 ) وحين عرض بعض الصحابة مبايعة ابنه عبد الله ابن عمر من بعده قال : يحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد أما ( علي ) فإنه أقام الحجة على الشيخين حين كان منصرفا إلى ما هو أعظم من ذلك وهو تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته فلزمت الحجة أبا بكر وعمر بما اجتهدا فيه دون علي ، وصار ( علي ) صاحب حق فيما أخذ به دونهما واجتهد ( عبد الرحمن بن عوف ) في انتخاب أحد الرجلين على وعثمان للخلافة وذلك من بين الستة الذين اختارهم عمر ، فقرأ علي على فعثمان نص العهد والميثاق ، وبدا بعلي لعلة يعرفها اللماحون فقبل ( علي ) من العهد والميثاق ما تستطيعه طاقته البشرية بين يدي الله ورسوله وما تطمئن له نفسه وقبل عثمان نص العهد والميثاق بما تستطيبه نفسه وبما لا تستطيبه حتى لا تفلت الخلافة من يده فكان ( علي ) - فيما ارتضاه لنفسه من ميثاق ابن عوف أحرص على الله ورسوله ومصلحة المسلمين من حرصه على منصب الخلافة ، وكان ( عثمان ) أحرص على ذلك المنصب من حرصه ما سواه والله أعلم ، إن كان على

 

 1 - جاء في صحيح البخاري : كان بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها أنظر : صحيح البخاري 208 نسخة السلطان عبد الحميد - المؤلف -

 
 

- ص 149 -

يقين مما ألزم به نفسه من حجة أو كان الأمر أدخل عليه إدخالا ، فإن ذلك من أفعال القلوب التي ينبغي ألا نحكم عليها ، ونكتفي منها بالظاهر دون الباطن ومن ثم كان في اجتهاد ( عبد الرحمن ) و ( عثمان ) نظر على حين أصاب ( علي في اجتهاده ) .

لما خرج من ورطة إقامة الحجة على نفسه فيما هو الغيب من الأمور عنه وأجهدت ( عائشة ) فأيدت ( عثمان ) ثم خرجت عليه فكان في اجتهادها نظر ، بينما اطمأن ( على إلى مبدئه بعد أن أقام الحجة على منافسه فلم يخرج على ( عثمان خروج ( عائشة ) عليه واجتهد ( علي ) بعد مقتل عثمان ، فلم يقبل من طلحة والزبير المبايعة له إلا أمام الناس وبإجماع المسلمين في المسجد فقام وخطب الناس : ( إني قد كنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وإنه ليس لي أمر دونكم ، ألا إن مفاتح مالكم معي ألا وإنه ليس لي أن آخذ من درهم دونكم ، . . . ثم قال : أرضيتم ؟ قالوا : نعم قال : اللهم أشهد عليهم ثم قبل بيعتهم على ذلك ( 1 ) .

وهكذا أقام ( علي ) الحجة عليهم ، وأصاب فيما أجتهد فيه حين برأ منهم الذمة وأصبح مطلوبا لهذا الأمر لا طالبا له فكل من خالفه بعد هذه الخطبة ناكث ، وكل من حافظ على بيعته له مؤمن صادق الإيمان : وذلك اجتهاد لا يعادله اجتهاد صدقا وإخلاصا ونزاهة عما في بيت المال ، وعما لي أيدي المسلمين

 

 1 - ابن جرير الطبري تاريخ الأمم والملوك 5 / 152 - 153 .

 
 

- ص 150 -

ثم اجتهدت ( عائشة ) مرة ثانية حين طالبت بدم عثمان وخرجت في صحبة طلحة والزبير اللذين نكثا العهد ، ونقضا البيعة لعلي ، فأخطأت الاجتهاد حتى قيل أنها ما خرجت للمطالبة بدم عثمان إلا لتفرقة الجماعة الإسلامية حول علي ، ولو كانت البيعة لغير علي ما خرجت وأصاب ( علي ) حين لم ينكث عهده ونكث هؤلاء عهودهم وأصاب حين دافع عن نفسه في موقعة الجمل لا باعتباره ( عليا ) بل باعتباره خليفة المسلمين والذائد عن حياض هذه الجماعة الإسلامية ، ولو كان دفاعه لاعتبار في شخصه أو لهوى في نفسه لما رد أم المؤمنين إلى المدينة معززة مكرمة فكان اجتهاد ( عائشة ) رضي الله عنها ثاني ثلمة حدثت في صرح الإسلام بعد اجتهاد عمر في توجيه الخلافة الإسلامية وليس الذي نقول بدعا من القول ، أو ضربا من التحامل ، وإنما هو حقائق مقرة أجمع عليها العدول من المجتهدين وثقات المؤرخين وقد أحدث اجتهادها ضجة في نفوس أهل الحق ابتداءا من عصر الصحابة إلى يومنا هذا .

وما هي أم سلمة ضرتها ، وأختها في الإسلام والعشرة والصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترسل إليها كتابا حكيما تطلب إليها فيه العدول عن الخروج وتنهاها عن الفرقة : ( من أم سلمة زوج النبي صل الله عليه وآل وسلم إلى عائشة أم المؤمنين فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد هتكت سدة بين رسول الله صل الله عليه وآل وسلم وأمته ، وحجابا ومضروبا

- ص 151 -

على حرمته ، قد جمع القرآن ذيولك فلا تسحبيها ، وسكن خفارتك فلا تبتذليها ، والله من وراء هذه الأمة ، لو علم رسول الله صل الله عليه وآل وسلم أن النساء يحتملن الجهاد عهد إليك ، أما علمت أنه قد نهاك عن الفراطة في الدين ؟ فإن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إن انصدع جهاد النساء غض الأطراف وضم الذيول وقصر الموادة ، ما كنت قائلة لرسول الله صل الله عليه وآل وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصبة قلوصك قعودا من منهل إلى منهل ؟ وغدا تردين على رسول الله صل الله عليه وآل وسلم وأقسم لو قيل لي : يا أم سلمة ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى رسول الله صل الله عليه وآل وسلم هاتكة حجابا ضربه علي ، فاجعليه سترك ، وقاعة البيت حصتك فإنك أنصح لهذه الأمة ما قعدت عن نصرتهم ، ولو أني حدثتك بحديث ( 1 ) سمعته من رسول الله صل الله عليه وآله لنهشت نهشي الرقشاء المطرقة والسلام ) ( 2 ) فهذا النص برهان آخر على في اجتهاد عائشة من خطأ ، وما في خروجها من زعزعة وحدة الجماعة الإسلامية ، فضلا عن أنها لم تجد فيما خرجت إليه من يساندها في الخروج من أمهات المؤمنين ثم اجتهد ( معاوية ) في المطالبة بدم عثمان ، كما اجتهدت أم المؤمنين من قبل ، ولكن اجتهاده لم يكن لأجل مصلحة الجماعة الإسلامية ، ولا

 

 1 - يشير إلى قوله ( ص ) : من أحاديث للمغيبات - وهو قول عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لنسائه : كأني بإحداكن قد تنبحها كلاب الجواب وإياك أن تكوني أنت يا حميرا .
 2 - ابن عبد ربة العقد الفريد 3 / 96 .

 
 

- ص 152 -

لأجل المعاني الإنسانية ، وإنما ليجد من وراء ذلك القصد مطية رخيصة يصل بها إلى منصب الخلافة عنوة - فكان اجتهاده باطلا ، وذلك أسوا مراتب الاجتهاد إن صح لنا أن نسمي ذلك النوع اجتهادا وأصاب على حين نبه الجماعة الإسلامية إلى بطلان معاوية في موقفه فأصاب وأصاب كل من انحاز إلى جماعته ، على حين أساء معاوية إلى الجماعة الإسلامية وكذلك أساء كل من سلك مسلكه وورد مورده فما من محارب قتل في جيش علي رضي الله عنه دفاعا عن مثله ومبادئه إلا وهو شهيد مجتهدا كان أو مقادا ، وما من محارب قتل في جيش معاوية دفاعا عن مزاعمه إلا وهو عاص مجتهدا كان أو مقلدا ذلك لأنه من الفئة الباغية التي قتلت عمار بن ياسر كما نص عليه الحديث النبوي .

وقد جهل السطحيون من المسترقين والمحدثين فهم هذه المواقف الخالدة التي أصاب فيها ( علي ) مواطن الاجتهاد على حين أخطأها غيره ، وذلك قدر لا حاجة لنا به إلى إماطة اللثام - في هذا المقام - وقد أفردنا له كتابنا ( دحض مفتريات المستشرقين ) ، وما علم هؤلاء المستشرقون أن ( عليا ) يؤثر دينه على دنيا الناس ، ويقدم مراقبة الخالق سبحانه على مجاملة المخلوقين جهل هؤلاء السطحيون من المستشرقين وصغار الباحثين هذه المعاني العميقة السامية لأن السياسة في نظرهم هي انتهاز الفرصة التي تقوم على المخاتلة ، والمؤاربة و الكذب ، والنفاق والمد والجزر ، والامتناع في موضع القبول ، والقبول في موضع الامتناع ، وهي عند الإمام الورع والمثالي الحجة شئ

 

( 1 ) ( دراسات في الخلافة الإسلامية )

 
 

- ص 153 -

أسمى من ذلك ، هي مثل عليا ، قوامها الكياسة والعقل ، وأساسها المجاهرة بالحق ، وهدفها المصلحة العامة للإنسانية جمعاء .

أقول : إن مثل علي وخصومه مثل رجلين ارتفع الأول بروحه إلى كلمة الحق فآثر النور على الظلام والمثل الباقية على الماديات والمظاهر الخلابة الفانية ، وانحدر الثاني إلى الأرض فلم يرق شيئا فحيم عليه الظلام وطغت عليه ماديات الحياة فتغير بتغيرها ، وتلون بتلونها ، وفنى بفنائها وشتان ما بين الرجلين ، لا يستويان مثلا فالأستاذ العسكري - كافأه الله على كلمة الحق - لا يبغي من وراء هذا البحث العلمي النزيه الدقيق أن يثير ثائرة المسلمين على عائشة رضي الله عنها على الرغم مما أخطأت فيه من اجتهاد - وإنما يرجو من وراء ذلك - خالصا لله وحده تصحيح المفاهيم والأوضاع التاريخية التي تحجرت في عقول كثير من الناس ، فأخطأوا فهم الصحابة ، ولم يميزوا بين الحق والباطل من الأقوال وجهلوا الكثير من دعائم التاريخ والتشريع الإسلامي ، وهو يلتمس - جاهدا - من وراء ذلك أن يفهم الناس أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضوء في ضوء العلم وحده بعيدا عن العاطفة والحزبية والعصبية ، وإنهم لو استطاعوا ذلك أو شيئا من ذلك ليسهل عليهم أن يدركوا سر الاختلاف مصنوعا ، صنعه الحكام الذين كانوا يؤثرون حزبا على حزب ، ويصنون ما شاؤوا أن يصنعون من الأحاديث من أجل تدعيم ملكهم وإقامة حزبهم ، ولو كلفهم ذلك حمل بعض الصحافة على تحريف عن موضوع وتأويل ما جاء عن الرسول أو على الأصح انتحال الكذب على الصحابة والتقول باسمهم بكل ما يرونه فيه مؤيدا لأهوائهم ، ومد عما لملكهم

- ص 154 -

وقبل أن أختم هذه الكلمة العلمية الخالصة لوجه الحق - أحب أن أهمس في أذن البحاثة الأستاذ العسكري - أن يجعل من هذه الدراسات العلمية أساسا متينا لما هو أعظيم من ذلك ، وهو محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية في صورة يقرها العلم وتشفع لها الرابطة الإسلامية الموحدة وعساه بما جبل عليه من ميل للبحث ، وصبر على الدرس - أن يحاول ذلك قريبا فلسنا نعرف فرقا جوهريا بين السني المنزه ، والشيعي المعتدل ولا شك أن كلا منهما يزين صاحبه ويكمل ما عنده من نقص ، ما دامت الغايات خالصة والأهداف واحدة ، والله من وراء القصد .

القاهرة في : 17 شوال سنة 1381 ه‍


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net