متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثانيا - يوم غدير خم
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثانيا - يوم غدير خم:

بعد حجة الوداع عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هو ومن معه. وكان قد أحث يوم الحج على التمسك بالكتاب والعترة وحذر الأمة من الاختلاف والافتراق وقتل بعضهم بعضا. وفي هذا الحج أخذ الناس عنه صلى الله عليه وسلم مناسكهم. وما أعلنه الرسول وما حث الناس عليه، كان على مستوى المساحة الواسعة للأمة. وهذه المساحة تختلف عن المساحة الأم.

بمعنى أن الأمور التي تتعلق بالقيادة لا تعلن إلا في دائرة مساحة القيادة. لذا نراه صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة عندما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) لم يأت بأفراد المساحة الواسعة وإنما تحدث أمام ناس

الصفحة 176
بأعينهم. وقال كما في الحديث الصحيح: " أيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي "، كما مر من قبل. والأمور التي تتعلق بالقيادة بعد حجة الوداع تقام الحجة فيها على ساحة القيادة أولا. وهذه المساحة هي رؤوس قريش بالمدينة. وذلك لأن قريشا هي النواة التي تدور حولها المساحة الواسعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم " (1)، وفي رواية: " صالحهم تبع لصالحهم وشرارهم تبع لشرارهم " (2)، فقريش بذور منها شجر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المرء مع من أحب " (3).

والنبي في طريقه من حجة الوداع. كان على علم تام من ربه. مما سيحدث لأمته من بعده. كان يعلم أن في أمته من سيستمتع كما استمتع الذين من قبلهم وسيخوض كما خاضوا. وسيترتب على ذلك الحبط والخسران والبغي والافتراق، وكان يعلم أن مقدمة هذا كله ستكون من دائرة قريش وليس من الدائرة الواسعة، لذا نراه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وجه إشاعات من الضوء على سبيل الخير ليهرع الناس إليه، فأوصى بالكتاب والعترة، وأعلن أن عليا منه وهو منه ولا يؤدي عنه إلا هو أو علي. وهذا الاعلان. هو نفس الاعلان يوم سورة براءة في العام التاسع الهجري. وبعد أن سلط الضوء على سبيل الخير. سلطه على الجانب الآخر كي يحذر الناس من مقدمات الوقوع قبل الوقوع. ثم بين كيفية النهوض بعد الوقوع. كما سنبين فيما بعد.

ومن أشعة الضوء على الجانب الآخر من قريش. عن أبي مطير قال:

أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يعظ الناس ويأمرهم وينهاهم فقال: أيها الناس خذوا العطاء ما كان عطاء. فإذا

____________

(1) رواه البخاري عن ابن عمر ك بدء الخلق ب، مناقب قريش (الصحيح 264 / 2) وابن أبي عاصم عن أبي هريرة (كتاب السنة 534 / 2).

(2) رواه أحمد عن علي وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 226 / 24).

(3) رواه البخاري ك الآداب (الصحيح 77 / 4) وصححه الترمذي (الجامع 596 / 4).

الصفحة 177
تجاحفت قريش على الملك وكان عن دين أحدكم فدعوه " (1)، فهو في حجة الوداع كان يعلم أن قريشا ستدفع لتشتري الدين من الناس. أليس هذا في حاجة إلى إقامة حجة دافعة عليها؟ وفي رواية: " خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا كان إنما هو رشا فاتركوه. ولا أراكم تفعلون. يحملكم على ذلك الفقر والحاجة. ألا إن رحى بني مرج قد دارت. وإن رحى الإسلام دائرة. وإن الكتاب والسلطان سيفترقان. فدوروا مع الكتاب حيث دار. وستكون عليكم أئمة أن أطعتموهم أضلوكم. وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال.

كونوا كأصحاب عيسى نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير. موت في طاعة.

خير من حياة في معصية (2)، قال صاحب عون المعبود في شرح سنن أبو داوود: معنى حديث ترك أخذ العطاء. إذا رأيت قريش تخاصموا على الملك.

وتقاتلوا عليه. وقال كل واحد منهم: أنا أحق بالملك أو الخلافة منك. وتنازعوا في ذلك وأصبح هذا العطاء عن دين أحدكم، أي يعطوه لكم عوضا عن دينكم.

فاتركوا أخذه " (3).

باختصار الحديث عن القيادة لا يكون تفصيله إلا على أرضية قريش. فإذا كان علي ولي كل مؤمن بعد رسول الله. فلا بد أن يعلن هذا أولا عند الأعقاب التي ستتصارع على الملك ليكون في ذلك حجة عليها. ومن أراد أن يفهم هذا المعنى عليه أولا أن يسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في قوم من البشر وليسوا من الملائكة. وهذا القوم كان النبي يتعامل معه وفقا لمصلحة الإسلام وكان لا يخاف إلا على الدعوة. ومن الدليل على ذلك. أن زيد بن حارثة كان عبدا للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم حرره واتخذه ابنا له.

وكان تحته زينب بنت جحش بنت عمة النبي. وكان النبي يعلم من ربه أن زينب ستكون من أزواجه. فجاء زيد إليه واستشاره في طلاقها. فنهاه النبي عن

____________

(1) رواه أبو داود حديث 2958.

(2) رواه الطبراني عن معاذ، وابن عساكر عن ابن مسعود (كنز العمال 216 / 1).

(3) عون المعبود 173 / 8.

الصفحة 178
الطلاق. ثم طلقها زيد بعد ذلك وتزوجها النبي. يقول تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) (1)، أي: لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟ إن النبي قال هذا خوفا من المنافقين والذين في قلوبهم مرض. ولقد أخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لو أظهره. عابه الناس وطعن فيه تيار الذين في قلوبهم مرض. فيؤثر ذلك أثرا سيئا في إيمان العامة وحركة الدعوة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن خشيته للناس خشية على نفسه. بل كانت خشية في الله. وهذا الخوف ليس خوفا مذموما لأن الخوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله تعالى. ومن المعلوم أن الله تعالى. فرض للنبي أن يتزوج زينب زوج زيد. ليرتفع بذلك الحرج من المؤمنين في التزويج بأزواج الأدعياء.

ألم يكن هذا الخوف على أرضية الصحابة؟ نعم كان على أرضيتهم لأن كل من سمع من النبي أو رآه فهو صحابي. فالنبي خاف من بعضهم على الدعوة.

فإذا كان قد خاف منهم في موقف كهذا. فكيف بموقف يترتب عليه قيادة هم من صاحبها في غليان؟ لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في بشر فيهم الصالح والطالح والمحسن والمسئ. والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوقت المناسب الذي يعلن فيه ولاية علي بن أبي طالب أمام قريش ومن حولهم في المقام الأول لأنهم خميرة الاختلاف وطلب الملك.. وفي أثناء ذلك نزل قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) (2).

فالآية تكشف عن أمر قد أنزل على النبي. وكان النبي يخاف الناس من تبليغه ويؤخره إلى حين يناسبه. ولولا مخافته. لم يحتاج إلى تهديده بقوله:

" وإن لم تفعل فما بلغت رسالته "، النبي كان يخاف ولكن لم تكن مخافته على

____________

(1) سورة الأحزاب: الآية 37.

(2) سورة المائدة: الآية 67.

الصفحة 179
نفسه. وكيف يخاف على نفسه وهو الذي بلغ عن ربه. (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا لله) (1)، كيف وهو الذي بلغ قوله تعالى: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (2)، كيف؟ وهو الذي تلى قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (3)، إن النبي لم يخف على نفسه. وإنما يخاف أن يتهموا الدعوة اتهاما يفسدها ويترتب على ذلك اختلافها واخترامها، وقد علم من ربه أن هذا سيحدث. ولذا فهو صلى الله عليه وسلم يأخذ بأسباب النجاة ليقيم الحجة. فهو يخاف على الدعوة وعلى الذين قدر لهم أن يعيشوا في زمانه، يرى فيه الإنسان الخير والشر فلا يدري أيهما يركب. ولله في عباده شئون.

قال المفسرون: قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " تفيد التهديد بظاهرها. وإعلامه صلى الله عليه وسلم وإعلام غيره ما لهذا الحكم من الأهمية. فالكلام في صورة التهديد. لبيان أهمية الحكم. بحيث أن هذا الحكم لو لم يصل إلى الناس. ولم يرع حقه. كان كأن لم يرع حق شئ من أجزاء الدين. والتهديد كما في ظاهر الآية. لا يعني أن القرآن يذكر في حق النبي احتمال أن يبلغ الحكم أو لا يبلغ. حاشا ساحة النبي صلى الله عليه وآله من ذلك. فالله تعالى يقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (4).

فإذا كانت سورة المائدة آخر سور القرآن نزولا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فما هو هذا الحكم النازل؟ إذا كان يختص بالوضوء والصلاة.

فالناس قد توضأوا وصلوا. وإذا كان يختص بصيام رمضان وإيتاء الزكاة. فالناس صاموا من قبل وزكوا. وإذا كان يختص بتعليم الناس مناسك الحج. فالرسول قد فرغ من حجة الوداع وأخذ الناس عنه مناسكهم والجميع تحت مظلة لا إله إلا الله

____________

(1) سورة الأحزاب: الآية 39.

(2) سورة آل عمران: الآية 175.

(3) سورة آل عمران: الآية 173.

(4) سورة الأنعام: الآية 124.

الصفحة 180
محمد رسول الله. فما هو هذا الحكم الذي واكبه تهديد من الله تعالى إذا لم يبلغ؟ قال المفسرون: لم يصرح القرآن باسم هذا الشئ الذي أنزل على النبي من ربه. وعبر عنه بالعنت وإنه شئ أنزل إليه. إشعارا بتعظيمه ودلالة على أنه أمر ليس فيه لرسول الله صنع ولا له من أمره شئ. ليكون هذا البرهان على عدم اختيار من النبي في كتمانه وتأخير تبليغه. ويكون له عذر في إظهاره على الناس.

وتلويحا إلى أنه مصيب في ما تفرس منهم وتخوف عليه. وإيحاء إلى أنه مما يحب أن يظهر من ناحيته صلى الله عليه وآله وبلسانه وبيانه.

هذا عن الحكم. أما قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) (1)، قال المفسرون: أخذ لفظ الناس. اعتبارا بسواد الأفراد. الذي فيه المؤمن والمنافق والذي في قلبه مرض. وقد اختلطوا من دون تمايز، فإذا خيف خيف من عامتهم. والعصمة في الآية. بمعنى الحفظ والوقاية من شر الناس المتوجهة إلى النبي أو مقاصده الدينية أو نجاح تبليغه.

والذي يجب أن تذكر به إن طريق تبوك في العام التاسع الهجري. أنتج جماعة من اثني عشر رجلا، أخبر الحديث الصحيح أنهم لن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وإنهم حرب على الله وعلى رسوله في الحياة الدنيا (1)، وأن الطريق من حجة الوداع إلى المدينة وزمنه ومكانه ضمن الحياة الدنيا...

وآية سورة المائدة التي نحن بصددها. ذهب في أسباب نزلها إلى كل مذهب. فهناك من قال إنها مكية. وهذا القول لا يلتفت إليه. لأن الآية بتمامها لا تنطبق على الأحداث التي ذكروها. فلم يكن من شأن اليهود ولا النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يجعله يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين. ولم يكن من شأن كفار قريش ومشركي مكة أن يفعل النبي ذلك أيضا. وهم أغلظ جانبا وأشد بطشا وأسفك للدماء

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 124.

الصفحة 181
وأفتك من اليهود وسائر أهل الكتاب. فهؤلاء لم يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن تبليغهم أو أخره. وإنما تعامل معهم على امتداد الرحلة بالذي تظهره كتب التفسير والحديث والتاريخ. وهؤلاء قد يأتي منهم خطر. ولكن هذا الخطر لا يأتي إلا بعد أن يتآكل الأساس. وتآكل الأساس مهمة المنافقين والذين في قلوبهم مرض - في المقام الأول - لقد رد ابن كثير على القول بأن الآية مكية فقال في تفسيره: إن هذه الآية مدينة. بل هي من أواخر ما نزل بها (1).

وقول ابن كثير بأن الآية أخر ما نزل. قد يفتح الأبواب على سؤال هو، ما هو الحكم الذي أنزل الله في آخر آية نزلت على رسوله وقال له: (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) إن القول بأن هذا الحكم يتعلق بالطهارة والغسل والتكفين. قول لا يلتفت إليه. وعلى أي حال. فهناك نبذة من الأخبار تدل على نزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب يوم غدير خم. وقبل أن نقدم أحداث يوم الغدير. حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أئمة الحفاظ عن جمع من الصحابة " من كنت مولاه فعلي مولاه " نلقي الضوء على الحديث ورواته.

قال ابن كثير في البداية: لما تفرغ النبي من بيان المناسك ورجع إلى المدينة. خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. بغدير خم تحت شجرة هناك. فبين فيها أشياء. وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه. وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه. وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري فجمع فيه مجلدين وأورد فيها طرقه وألفاظه. وكذلك الحفاظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة (2).

وقال الإمام أحمد بن حنبل: حديث من كنت مولاه. سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون صحابيا. شهدوا به لعلي بن أبي طالب عندما

____________

(1) تفسير ابن كثير 79 / 2.

(2) البداية والنهاية 408 / 5.

الصفحة 182
نوزع أيام خلافته. وصرح بتواتر هذا الحديث العديد من العلماء... وقال ابن حجر: حديث من كنت مولاه، كثير الطرق جدا، وقد استوعبها ابن عقدة في مؤلف مفرد وأكثر أسانيدها صحيح وحسن (1)، وقال الألباني في كتاب السنة:

حديث من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه حديث صحيح جاء من طرق جماعة من الصحابة. خرجت أحاديث سبعة منهم.

ولبعضهم أكثر من طريق واحد. وقد خرجتها كلها وتكلمت على أسانيدها في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2).

وحديث الغدير رواه جمع من الصحابة منهم: زيد بن أرقم، ومالك بن الحويرث، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري.

وجرير. وجندب الأنصاري، وطلحة وغيرهم، وسجل هذا الحديث في كتبهم العديد من الأئمة والحفاظ منهم: أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والضياء وابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن عساكر وأبو نعيم وسموية والخطيب والبزار وأبو يعلى والطبراني وابن رهوية. وابن أبي عاصم والمحاملي وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد في سبع صفحات.

وذكر الفخر الرازي عند تفسيره الآية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك)، قال: نزلت هذه الآية في فضل علي بن أبي طالب. فلما نزلت أخذ النبي بيده وقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعادي من عاداه "، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: " هنيئا لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة "، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي (3). وروى الواحدي في كتابه أسباب النزول عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية: (يا أيها الرسول بلغ...)، يوم غدير خم في

____________

(1) نظم المتناثر من الحديث المتواتر / الكناني ص 194.

(2) كتاب السنة / ابن أبي عاصم تحقيق نصر الدين الألباني 566 / 2.

(3) الفخر الرازي ص 48، 49 / 12.

الصفحة 183
علي بن أبي طالب.

وغدير خم يقع على الطريق بين مكة والمدينة. وهو على بعد ثلاثة أميال من الجحفة. وهناك حكمة بالغة في اختيار هذا الموقع لإقامة الحجة على قريش ومن حولهم. فالمنطقة صحراوية إلا من بعض الشجر. وقيل، كان هناك غيطة الغدير مضاف إليها، فالمكان معد لاستقبال من أراد الراحة من عناء سفر طويل.

واختيار هذا المكان لإبلاغ الحكم النازل. كي يكون المكان فريدا لإعلان حكم فريد. بمعنى. لو أعلن الحكم في حجة الوداع مثلا. وسئل الناس بعد ربع قرن على سبيل المثال. ماذا قال الرسول في حجة الوداع: سيقولون. قال كذا عند الحلق والتقصير وذبح الهدي ورمي الجمار وأوصى بكذا وكذا، وأما إذا كان المكان قد خصص لحكم واحد كغدير خم. فلو قيل: ماذا قال الرسول في الغدير؟ فلن تكون هناك إلا إجابة واحدة على سؤال محدد. وهذا ما فعله علي بن أبي طالب أيام خلافته فكان لا يقول إلا " نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام.. " (1)، فإفراد المكان بحكم. لهدف ومن وراء الهدف حكمة. وأما حديث الغدير فإننا نسوق منه ما رواه الإمام مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه. قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله. فيه الهدى والنور.

فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال:

وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي (2).

هذه رواية مسلم وفيها الخطوط العريضة. ومنها نعلم أن النبي يودع ويخبر

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (مجمع الزوائد 104 / 9).

(2) رواه مسلم ب فضائل علي (الصحيح 179 / 15) وأحمد (الفتح الرباني 185 / 1) وابن أبي عاصم (كتاب السنة 644 / 2).

الصفحة 184
بأنه أوشك على الرحيل من هذه الحياة الدنيا. ولهذا أوصى بالطريق الذي يسوق الناس إلى الصراط الذي يوصلهم إلى ربهم حيث السعادة الحقيقية، وروى الإمام النسائي رواية بزيادة: " إني قد تركت فيكم الثقلين. كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. ثم قال: الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (1)، وعن عمرو ذي مر وزيد بن أرقم معا. روى الطبراني: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره وأعن من أعانه " (2)، وروى ابن جرير عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس. إنه قد نبأني اللطيف الخبير. إنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر النبي الذي قبله.

وإني لأظن إني موشك، وإن أدعى فأجيب. وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون.

فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بغلت ونصحت فجزاك الله خيرا. قال:

ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن جنته حق وناره حق وإن الموت حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها. وإن الله يبعث من في القبور.

قالوا: نشهد بذلك وقال: اللهم فاشهد. ثم قال: أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين. وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن كنت مولاه فعلي مولاه.

اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. أيها الناس. إني فرطكم وأنتم واردون علي الحوض. حوض عرضه ما بين بصرى وصنعاء. فيه عدد النجوم قدحان من فضة. وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين. فانظروا كيف تخلفوني فيهما.

____________

(1) قال ابن كثير رواه النسائي وقال الذهبي وهذا حديث صحيح (البداية والنهاية 209 / 5) ورواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله (المستدرك 109 / 3) ورواه الطبراني عن ابن عمر وابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني وسعيد بن منصور عن أبي أيوب. والحاكم عن علي وأبو نعيم عن سعد (كنز العمال 610 / 11)، وقال ابن كثير رواه أحمد وهذا إسناده جيد رجاله ثقات (البداية 212 / 5).

(2) رواه الطبراني (الزوائد 104 / 9) والخطيب في الإفراد عن علي (كنز 131 / 13) والبزار وابن جرير وقال الهيثمي رجال إسناده ثقات (كنز العمال 158 / 13).

الصفحة 185
الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم. فتمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا. وعترتي أهل بيتي. وإنه قد نبأني اللطيف الخبير إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1).

ولقد وردت روايات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذ البيعة لعلي. كان يذكر كل من يدخل عليه خيمته أو من يراه في منطقة الغدير.

عن جابر بن عبد الله قال: كنا بالجحفة بغدير خم. وثم ناس كثير من جهينة ومزينة وخفار. فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خباء أو فسطاط. فأشار بيده ثلاثا. فأخذ بيد علي. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه (2) وعن البراء بن عازب أن عمر بن الخطاب لقي بن أبي طالب بعد ذلك فقال:

هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (3).

باختصار. شهد الغدير إعلان الحكم. وسمعته قريش ومن ناصرهم.

وانفرد المكان بهذا الحكم لتكون الحجة دامغة، وشاء الله أن تتفق الأمة على صحة هذا الحديث. وإذا كانت مقدمة الطريق مكة. حيث كانت حجة الوداع.

فإن مقدمة الطريق شاهد من فيها وسمع البلاغ الذي يستقيم مع المساحة الواسعة. وشاء الله أن يشهد غدير خم ما أعلنه الرسول في مكة أمام هذه المساحة مضافا إليه ما أعلنه أمام قريش، أوائل الناس في الخير والشر كما ورد في الحديث. قال ابن كثير: قال الذهبي: وجدت نسخة مكتوبة عن ابن جرير

____________

(1) رواه ابن جرير الطبري (كنز العمال 290 / 5) والطبراني (كنز العمال 189 / 1) وابن أبي عاصم عن علي باختصار (كتاب السنة 605 / 2) وقال في كنز العمال رواه ابن راهويه وابن جرير وابن أبي عاصم والمحاملي في أماليه عن علي وإسناده صحيح (كنز العمال 140 / 13) ورواه ابن عساكر (البداية والنهاية 249 / 5).

(2) رواه البزار (كنز 137 / 13) وقال ابن كثير قال الذهبي إسناده حسن (البداية والنهاية 213 / 5).

(3) رواه ابن أبي شيبة (كنز العمال 134 / 13) ورواه أبو يعلى (البداية والنهاية 210 / 5)، وقال ابن كثير رواه ابن ماجة عن البراء وقد روى هذا الحديث عن سعد وطلحة وجابر وأبي سعيد الخدري وجرير وعمر وأبي هريرة (البداية 350 / 5).

الصفحة 186
عن عائشة بنت سعد سمعت أباها يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الجحفة. وقد أخذ بيد علي فخطب يوم قال: " أيها الناس إني وليكم.

قالوا: صدقت. فرفع يد علي فقال: هذا وليي والمؤدي عني. وإن الله مولى من والاه ومعادي من عاداه (1)، لقد استقام البدء مع الختام. ففي حجة الوداع قال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤدي عني إلا أنا أو علي " (2)، وفي غدير خم قال كما مر: " هذا وليي والمؤدي عني "، لقد استقبلت مساحة القيادة الاعلان التام للبدء والختام. ودارت الرحى.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net