متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
1 - من معالم الغروب
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

1 - من معالم الغروب:

بينا فيما سبق أن الصحابة قوم من الناس. لهم ما للناس وعليهم ما عليهم. ليس لهم على غيرهم من المسلمين كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير. بل وربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم. لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات. ويكفي أن فيهم اثنى عشر رجلا حربا لله ولرسوله في الحياة الدنيا. وإن فيهم أصحاب المسجد الضرار. وفيهم من قال فيهم عمر بن الخطاب عندما استأذنه الزبير في الغزو: ها أنا ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم. وسنذكر بعض الآيات الكريمة.

التي تبين حاله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كيف كانت. وقد بينا ذلك ونحن نتحدث عن دائرة الرجس والذين في قلوبهم مرض لأن هؤلاء هم أصحاب المصلحة في عرقلة الطريق وإضلال الناس. وهؤلاء كان لهم موقف ثابت من الرسول ودعوته على امتداد الزمان. وبما أن علي بن أبي طالب أقرب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أخذ القسط الأكبر من العداء ووضع العراقيل أمام خطاه. ونحن لن نعرف حجم هذه العراقيل. إلا إذا وضعنا أيدينا على طبيعة القوم في عهد النبوة. فتخاذلهم وحبهم للدنيا والرسول في وسطهم.

يفسح الطريق لفهم تخاذلهم وحبهم للدنيا عندما جاء دور علي بن أبي طالب.

وآيات تخاذلهم في الحروب كثيرة في كتاب الله. فالقرآن يشهد بأنهم التووا عليه صلى الله عليه وسلم يوم بدر وكرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم وذلك قبل أن تتراءى الفئتان. قال تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) (1)، قال المفسرون: المعنى: إن الله تعالى حكم في أمر الأنفال بالحق مع كراهتهم لحكمه. كما أخرجك من بيتك بالمدينة إخراجا يصاحب الحق. والحال أن فريقا من المؤمنين لكارهون لذلك ينازعونك في الحق بعدما تبين لهم إجمالا. والحال إنهم يشبهون جماعة يساقون إلى

____________

(1) سورة الأنفال: الآية 5 - 6.

الصفحة 241
الموت. وهم ينظرون إلى ما أعد لهم من أسبابه وأدواته... ومن هذا نعلم أن المجتمع كان فيه من يجادل في الحق. وعلى هذا لا يكون من العسير أن يجادل هؤلاء علي بن أبي طالب أو غيره إذا كانوا قد جادلوا الرسول.

ويوم أحد شهد القرآن أنهم عصوا أمره صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، حيث أقامهم على الشعب في الجبل. وهو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه. وهم أصحاب عبد الله بن جبير. فإنهم خالفوا أمره وعصوه فيما تقدم به إليهم. وروى أصحاب التفاسير أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم " ولكنهم رغبوا في الغنيمة عندما شاهدوا النساء يشتدون على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن (1). ففارقوا مركزهم، حتى دخل الوهن على المسلمين بطريقهم. لأن خالد بن الوليد كر في عصابة من الخيل فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه فما أحس المسلمون بهم إلا وقد غشوهم بالسيوف من خلفهم فكانت الهزيمة. وذلك قوله تعالى: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) (2)، وعن ابن مسعود قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا. حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد (3).

والذين يحبون الدنيا لا يمكن بحال أن يلتقوا مع علي بن أبي طالب على خط واحد له هدف واحد. والذين يحبون الدنيا لم تنته حياتهم. بموت الرسول صلى الله عليه وآله. بل استمر عطاؤهم على خنادق الصد حربا لله ولرسوله في الحياة الدنيا. ولم تكن المعصية يوم أحد فقط. وإنما كانت أيضا في غزوة تبوك. فبعد أن أكد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الأوامر. خذلوه وتركوه. كما بينا من قبل أساليبهم في ضرب القوة العسكرية للدعوة. وهذا

____________

(1) تفسير ابن كثير 414 / 1.

(2) سورة آل عمران: الآية 152.

(3) تفسير ابن كثير 413 / 2.

الصفحة 242
النمط البشري نزل فيه قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) (1)، وهذه الآية خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين. وفيها أوضح دليل على أن أصحابه المصدقين لدعوته كانوا يعصونه ويخالفون أمره وهذا النمط المتخاذل عاتبهم الله ووبخهم بقوله تعالى: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) (2).

كان هذا في ميادين القتال، وفي داخل المسجد لم يختلف الأمر كثيرا.

فالذين أحبوا الدنيا في المعركة أحبوها أيضا والرسول صلى الله عليه وسلم قائم يخطبهم يوم الجمعة. وهذا إن دل على شئ. فإنما يدل على الاستهانة بما هو من أعظم المناسك الدينية. ويكشف أنهم لم يقدروها حق قدرها ولا نزلوها منزلتها. ولقد اتفقت الروايات على أنه ورد المدينة عير معها تجارة وذلك يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فضرب أصحاب التجارة بالطبل والدف لإعلام الناس. فانفض أهل المسجد إليهم وتركوا النبي قائما يخطب وذلك في قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) (3)، أيستبعد على هذا النمط بعد ذلك أن يصادر الحكمة والبلاغة وأن يترك من هو دون الرسول إذا قام فيهم أو ساقهم إلى ما فيه سعادتهم الحقيقية.

ومن دائرة حب الدنيا ننتقل إلى دائرة تفسير النصوص وفيها نرى أن العديد منهم كان يفتح أبواب الرأي والنبي في وسطهم. ولقد حذرهم النبي من هذا.

لأن هذا الباب إذا فتح فسيدخل منه أمور لم يرد لها ذكر في الكتاب والسنة.

روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصوات رجلين اختلفا في آية. فخرج يعرف في وجهه الغضب وقال: " إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في

____________

(1) سورة التوبة: الآية 38.

(2) سورة التوبة: الآية 42.

(3) البخاري ك البيوع (الصحيح 2 / 2) ابن كثير في التفسير 367 / 4.

الصفحة 243
الكتاب " (1)، وفي رواية عند الإمام أحمد قال النبي لبعض أصحابه: " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض. بهذا أهلك من كان قبلكم " (2)، وروى الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " أيتلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم " (3)، وروى ابن أبي عاصم أنه قال لهم: " ألهذا خلقتم؟ أم بهذا أمرتم.

لا يضربوا كتاب الله بعضه ببعض. انظروا ما أمرتم به فاتبعوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه " (4)، وروى الدارقطني: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من باب البيت وهو يريد الحجرة. فسمع قوما يتراجعون بينهم في القرآن. يقولون:

ألم يقل الله في آية كذا وكذا. فقال لهم: أبهذا أمرتم. أبهذا عنيتم إنما هلك من قبلكم بأشباه هذا ضربوا كتاب الله بعضه بعضا أمركم الله بأمر فاتبعوه ونهاكم عن شئ فانتهوا (5).

فهل انتهوا؟ إن التاريخ يقول إن المسيرة شهدت للرأي أعلاما. واتفق على أن الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. أطبقوا إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك. كإسقاطهم سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم. وهذان الأمران يدخلان في باب الدين وفيهما نصوص صريحة. وقد عملوا بآرائهم أمورا لم يكن لها ذكر في الكتاب والسنة.

وعملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة. ولم يقفوا مع موارد النصوص حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد فرجح كثير منهم القياس على النص، حتى استحالت الشريعة وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة. وأكثر ما يعملون بآرائهم فيما يجري مجرى الولايات والتأمير والتدبير وتقرير قواعد الدولة. وما كانوا ليقفوا مع نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم وتدبيراته

____________

(1) مسلم ك العلم (الصحيح 218 / 16).

(2) أحمد عن ابن عمر (كنز العمال 193 / 1).

(3) مسلم (الصحيح 175 / 1).

(4) ابن أبي عاصم. وقال الألباني إسناده حسن وأخرجه أحمد وابن ماجة (كتاب السنة 177 / 1).

(5) الدارقطني وابن عساكر (كنز العمال 383 / 1).

الصفحة 244
إذا رأوا المصلحة في خلافها. كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا، وكأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله. وتقدير ذلك القيد " افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة " (1)، وهكذا حذر النبي من تأول غير الراسخين في العلم. لأن تأولهم يفتح الأبواب للذين في قلوبهم زيغ. فيدقون أوتاد الفتن ويقيمون خيام الهلاك التي أقيمت من قبل للأمم السابقة. وكما حذر النبي من الرأي والتأويل الذي لا يستند على كتاب الله وسنة رسوله. حذر أيضا من السلوك في طريق الخشوع الزائف. لأن هذا النوع من الخشوع من فضيلة ضرب كتاب الله بعضه ببعض. فأصحاب الخشوع الزائف شربوا من إناء الذين في قلوبهم زيغ. ولأن حركة أصحاب الخشوع الزائف تضيق الطريق أمام أصحاب الخشوع الحق. بتلبيس الأمور على الناس فإن النبي صلى الله عليه وآله عاتب أصحاب هذا الخشوع ووبخهم وذمهم في أكثر من موضع. روى الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله رخص في أمر فتنزه عنه ناس من الناس فبلغ ذلك النبي فغضب ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه.

فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية (2)، وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة فصام حتى بلغ كراع الغميم (3) وصام الناس معه فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت. فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه. فأفطر بعضهم وصام بعضهم. فبلغه أن ناسا صاموا فقال: أولئك العصاة (4)، وروى الإمام أحمد: إن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ الناس. فرفع رجل صوته بالبكاء. فقال النبي: من هذا الذي لبس علينا إن كان صادقا شهر نفسه وإن كان كاذبا محقه الله " (5)، وروى أحمد أيضا عن ابن الأدرع قال: انطلقت مع

____________

(1) ابن أبي الحديد 807 / 3.

(2) البخاري ك الآداب (الصحيح 66 / 4) مسلم (الصحيح 90 / 5).

(3) موضع بين مكة والمدينة.

(4) الترمذي وصححه (الجامع 80 / 3).

(5) أحمد في كتاب الورع ص 79.

الصفحة 245
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على رجل يصلي مجهرا بالقرآن. فقال النبي: عسى أن يكون مرائيا. قلت: يصلي يجهر بالقرآن!! (1)، فترك النبي صلى الله عليه وسلم يدي ثم قال: إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة (2).

وروى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله أعتم ذات ليلة العشاء حتى رقد الناس واستيقظوا. فجاء عمر بن الخطاب وأنذر الناس بالصلاة وصاح: الصلاة. وفي رواية: قال عمر: نام النساء والصبيان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما كان لكم أن تنذروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة "، وذلك حين صاح عمر (3) ومن الطريف قول بعضهم: أن صياح عمر كان لغيرته على الدين وذلك عندما وجد أن النبي لم يخرج للصلاة وأن النساء والصبيان قد ناموا.

وروى الإمام البخاري ومسلم أن رجلا اشتكى للنبي أن يتأخر عن الصلاة من أجل فلان (4) الذي يطيل بهم في الصلاة. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس إن منكم منفرين. فأيكم ما صلى بالناس فليوجز فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة " (5)، من هذا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واجه كل صور الخشوع الزائف أو المبالغ فيه أو الذي لا يستمد وقوده من النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك لأن تحت هذه المظلة تنتعش تزكية النفوس. وتزكية النفوس بغير حق واضح. سلاح فعال يستخدم في أعمال الصد عن سبيل الله.

فأصحاب دائرة الذين في قلوبهم مرض أو زيغ إذا ضربوا كتاب الله بعضهم ببعض. احتمى تلاعبهم بالنصوص بملابس الخشوع الزائف. وهنا تكمن الخطورة. وذروة التحذير من هذا النمط البشري. كانت فيما رواه أبو سعيد

____________

(1) أي إنه رجل صالح.

(2) رواه أبو يعلى وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 632 / 6).

(3) مسلم عن عائشة وابن عمر كتاب المساجد. وقت العشاء (137 - 138 / 5 الصحيح) (4) في رواية أنه معاذ بن جبل.

(5) رواه البخاري كك الأحكام (الصحيح 236 / 4).

الصفحة 246
الخدري. أن أبا بكر رضي الله عنه. جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: يا رسول الله: إني مررت بوادي كذا وكذا، فإذا رجل تخشع حسن الهيئة يصلي. فقال له النبي: اذهب إليه فاقتله. فذهب إليه أبو بكر. فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله رأيته يصلي متخشعا فكرهت أن أقتله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: اذهب فاقتله. فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع فقال: يا رسول الله رأيته يصلي متخشعا فكرهت أن أقتله فقال النبي:

يا علي اذهب فاقتله فذهب فلم يره فرجع علي فقال: يا رسول الله إني لم أره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقييهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شر البرية (1).

وهذا الرجل المتخشع الحسن الهيئة هو ذو الثدية. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى هذا المارق من قبل في المسجد كما في حديث أنس عند أبي يعلى. ويومئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ولكن خشوعه غر الشيخين أبو بكر وعمر. كان هذا في المرة الأولى. ثم جاءت الثانية عندما رآه أبو بكر يصلي في بعض الأودية. فأخبر النبي فأمره فورا بقتله. وفي هذا دليل على أن الخاشع محكوم عليه من قبل. ولكن رياء هذا المارق بتخشعه في صلاته غر بشيخين مرة أخرى فكرها قتله وآثرا استحياءه. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم من ربه أن هذا الخاشع المارق سيكون له فقه خاص به مهمته الصد عن الإسلام بالإسلام وعن الكتاب بالكتاب.

ولما كان الأمر متعلقا بالإسلام وكتابه فإن الله تعالى أخبر رسوله أن نهاية هذا المارق ستكون بيد أعلم الناس بالأعلام وكتابه علي بن أبي طالب.

ولقد قاتله علي بن أبي طالب فيما بعد وهو بين أتباعه. وعندما قتله أعلن على قواته الحقيقة الكبرى ومفادها أن هذا الرجل لم يكن إلا شيطان من

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 227 / 6) وابن كثير في البداية (299 / 7).

الصفحة 247
الشياطين. وذلك فيما ذكره ابن كثير أن سعد بن أبي وقاص قال بعد موقعة النهروان " قتل علي بن أبي طالب شيطان الردهة " (1)، وقال علي بعد الموقعة:

" أخبرني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ثلاثة أخوة من الجن هذا أكبرهم " (2)، وظهور الشياطين على هذه الصورة أمر غير مستغرب. فلقد روى الإمام مسلم " إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث " (3).

وروى مسلم أيضا: " إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا " (4)، ولما كان ظهور الشياطين حقيقية. ولما كانوا سيحدثون الناس بأحاديث يكذبون فيها على رسول الله. ويقرأون عليهم قرآنا ليشتعل الجدال ويأتي الاختلاف والافتراق. كما في قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) (5)، ولما كانوا سيظهرون بلباس الخشوع ويصلون وسوف يغتر بخشوعهم الكثير. كان من عدل الله تعالى أنه قطع الطريق عليهم بتحديده تعالى دائرة الطهر التي يجلس فيها الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأهل هذه الدائرة لا يكذبون كما أنهم أعلم الناس بكتاب الله. ولقد فرض الله مودتهم. وأهل هذه الدائرة يتعاملون مع الدنيا على أنها قنطرة إلى الآخرة. ولا يأكلون في الدنيا إلا ما فرضه الله لهم من سهم ذي القربى كما أنهم دخلوا دائرة الأمان وذلك لإخبارهم أنهم سيكونون مع النبي صلى الله عليه وآله عند الحوض، وسيكونون معه في مكان واحد في الجنة. من هذا كله يمكن القول بأنه يستحيل عليهم أن يكذبوا فأي غنيمة ينالوها إذا كذبوا. أما الشياطين وأتباعهم فالكذب نقطة ارتكاز في نفوسهم. لأنهم

____________

(1) ابن كثير في البداية (298 / 7).

(2) رواه أحمد وقال في فتح الباري سنده جيد وله شاهد من حديث جابر عند أبي يعلى ورجاله ثقات (فتح الباري 299 / 12)، وأخرجه الحاكم (المستدرك 533 / 4).

(3) رواه مسلم (الصحيح 9 / 1 ط اسطنبول).

(4) رواه مسلم (الصحيح 10 / 1 ط استانبول).

(5) سورة الأنعام: الآية 121.

الصفحة 248
يريدون وإذا أعطوا لا يشبعون فالنبي أمر بقتل المارق يوم إن كان متخشعا في صلاته. وكان يعلم من ربه أن هذا المارق له يوم مؤجل وما فعل النبي هذا إلا من باب الأخذ بالأسباب.

بعد أن علم أن الأمة ستختلف وتفترق من بعده. ولقد أخذ صلى الله عليه وسلم بالأسباب فحذر الناس من الإمارة لأنه علم أن الأمة ستسند الأمر إلى غير أهله. وحذر من بني أمية ونفى الحكم بن أبي العاص لما علم من ربه ما يضمروه للدعوة. وبعد أن شاهدهم ينزون على منبره نزو القردة. ويوم فتح مكة. أهدر النبي دم عبد الله بن أبي السرح وأمر بقتله ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة. وذلك عندما علم من ربه أن ابن أبي السرح ستجري على يديه فتن تقود إلى فتن حالكة الظلام. فماذا فعلوا مع ابن أبي السرح. لقد فر هذا الرجل إلى أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان. وغيبه عثمان عنده حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما اطمئن أهل مكة. فاستأمنه له فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طويلا. ثم قال: نعم فلما انصرف عثمان قال النبي لمن حوله: ما صمتت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال رجل: فهلا أومأت إلي يا رسول الله. فقال النبي: إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة أعين (1)، وبعد وفاة النبي توارى ذو الثدية وابن أبي السرح وبني أمية وبني الحكم وراء أشجار الزينة. يدونون فقههم بعد أن محيت آثار التحذير منهم وذلك عندما منع الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواية الحديث. وألغي سهم المؤلفة قلوبهم الذي ضربه الله على ضعاف الإيمان المنافقين وأشباههم ليعرفوا به.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب رغم علمه بأن الذي يطلب من الله دفعه عن الأمة. واقع لا محالة لأن الله أعلم بالقلوب وأعلم بالطريق الذي ستختاره كل نفس من النفوس. والأخذ بالأسباب رغم هذا العلم.

هو في حقيقته تعلق بالله. لأن الله نسب الهداية في كل مكان إلى نفسه

____________

(1) راجع ترجمة ابن أبي السرح (الإستيعاب 378 / 2، الإصابة 309 / 2، أسد الغابة 173 / 3).

الصفحة 249
بصورة مطلقة. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بإراقة دماء واحد من الناس بالإضافة إلى أنه أخذ بالأسباب. إلا أنه أيضا يدب الحياة في جسد التحذير بمعنى أن الناس عندما يعلمون أن فلانا قد استباح النبي صلى الله عليه وسلم دمه أو نفاه. فإن التحذير يكون إعلاما على رأس المحذر منه فيتعامل معه الناس بحرص ولا يملكوه أعناقهم. فالأخذ بالأسباب من ناحية الرسول هو تحذير وحجة في نفس الوقت.

مما سبق يمكن للباحث أن يرى صفحة المجتمع الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم - وعلى هذه الرؤية يمكن القول بأن الصحابة قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما عليهم. فيهم من يحب الدنيا ويعمل لها. وفيهم من يحب الآخرة ويعمل لها. وفيهم من كان يتلعب بالنصوص ويضرب كتاب الله بعضه ببعض. وفيهم أصحاب الخشوع الخيالي الزائف. ومن هؤلاء شيطان من الشياطين تلون وتشكل وزين وزخرف ثم جاءته ضربة فيما بعد من سيف العمود الرئيسي لدائرة الطهر فأردته قتيلا. ومن هذا كله يمكن أن نلقي بالقبول أن علي بن أبي طالب قد واجه صعوبات جمة وأن طريقه قد وضع عليه العديد من العقبات. ولم تكن العقبات تأتيه من جانب هؤلاء فقط. وإنما جاءته أيضا من الأعراب اتباع كل ناعق. الذين لا يعرفون من دينهم شيئا. وهؤلاء جاء ذكرهم فيما رواه البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا " (1)، وروى الترمذي والإمام أحمد أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم عندما مروا بسدرة: يا نبي الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها. فقال النبي: " الله أكبر. هذا كما قلت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. إنكم تركبون سنن من قبلكم (2)، وقولهم هذا كان في العام الثامن

____________

(1) البخاري (الصحيح 61 / 4) ك الآداب ب، يكون من الظن.

(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 475 (4) وأحمد وابن جرير وابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير 243 / 2) وابن أبي عاصم وقال الألباني حديث صحيح (كتاب السنة 38 / 1) والشافعي والبيهقي (كنز العمال 170 / 11).

الصفحة 250
الهجري. أي قبل وفاة النبي بسنتين ونصف تقريبا. فهؤلاء الذين لا يعرفون من الدين شيئا. والذين يريدون ذات أنواط. هؤلاء أنماط بشرية لا يمكن تجاهل وجودها عند قراءة صفحة المجتمع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net