متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
1 - من معالم الرأي
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

1 - من معالم الرأي:

إذا أردنا أن ننسب الرأي إلى أصوله فسنجد أن أهم أصوله عمر بن الخطاب. فقد كانت شخصيته من أبرز شخصيات الصحابة في هذا الباب يقول الدكتور عبد الحميدة متولي: لم يقتصر عمر فحسب على الاجتهاد أو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب أو سنة إنما ذهب إلى مدى أبعد من ذلك. إذ كان يعمد إلى الاجتهاد أو بعبارة أخرى. استعمال الرأي ليبحث عن وجهة العدالة أو المصلحة حتى رغم وجود نص من الكتاب أو السنة. فكان لذلك لا يفسر النص طبقا لحرفيته. وإنما يفسره طبقا لحكمته ولو أدى هذا التفسير إلى عدم تطبيق النص (1)، فمثلا قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم)، لقد رأى عمر أن الحكمة التي أدت إلى تقريب ذلك الحكم الشرعي قد زالت. والأمثلة في هذا الباب كثيرة (2)، وكثير من الصحابة كما ذكر الإمام محمد عبده " كانوا إذا رأوا المصلحة في شئ يحكمون به وإن خالف

____________

(1) أزمة الفكر السياسي الإسلامي / د عبد الحميد متولي، تقديم الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر ص 121.

(2) سيأتي ذكر ذلك في موضعه.

الصفحة 311
السنة. كأنهم يرون أن الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة لا بجزئيات الأحكام وفروعها (1)، ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: وكانوا إذا لم يجدوا نصا في القرآن والسنة يدل على حكم ما عرض لهم من الوقائع استنبطوا حكمه. وكانوا في اجتهادهم يعتمدون على ملكتهم التشريعية التي تكونت لهم من مشافهة الرسول، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامة. فتارة كانوا يقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص. وتارة كانوا يشرعون ما تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة. ولم يتقيدوا بقيود في المصلحة الواجب مراعاتها. وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نص فيه فسيحا مجاله وفيه متسع لحاجات الناس ومصالحهم (2).

كانت هذه بداية الرأي. فما هي محطة النهاية؟ يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: في عهد الصحابة لما تعدد رجال التشريع منهم وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة وإن هذا الاختلاف كان لا بد أن يقع بينهم لأن فهم المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر ولأن السنة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء وربما وقف بعضهم منها على ما لا يقف عليه الآخر لأن المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع.

فلهذه الأسباب اختلفت فتاويهم وأحكامهم في بعض الوقائع والأقضية... ولما آلت السلطة التشريعية في القرن الثاني الهجري إلى طبقة الأئمة المجتهدين اتسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع ولم تقف أسباب اختلافهم عند الأسباب الثلاثة التي بنى عليها اختلاف الصحابة بل جاوزتها إلى أسباب تتصل بمصادر التشريع وبالنزعة التشريعية وبالمبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص. وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط بل كان اختلاف أيضا في أسس التشريع وخططه وصار لكل فريق منهم مذهب خاص يتكون من أحكام فرعية استنبطت بخطة تشريعية

____________

(1) المنار / محمد رشيد رضا 310 / 4.

(2) خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي / خلاف ص 40.

الصفحة 312
خاصة (1)... ثم جاء عهد التقليد الذي بدأ من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب. حين طرأت على المسلمين عدة عوامل سياسية وعقلية وخلقية واجتماعية أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي إلى فتور ووقفت حركة الاجتهاد والتقنين وأماتت في العلماء روح الاستقلال الفكري فلم يردوا المعين الذي لا ينضب ماؤه وهو القرآن والسنة بل راضوا أنفسهم على التقليد ورضوا أن يكونوا عالة على فقه الأئمة السابقين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأقرانهم. وحصروا عقولهم في دوائر محدودة من فروع مذاهب هؤلاء الأئمة وأصولها وحرموا على أنفسهم أن يخرجوا عن حدودها وبذلوا جهودهم في ألفاظ أئمتهم وعباراتهم لا في نصوص الشارع ومبادئه العامة. وبلغ من كونهم إلى أقوال أئمتهم أن قال أبو الحسن الكرخي من علماء الحنفية: ككل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ "، ثم يقول الشيخ خلاف عن أسباب وقوف حركة الاجتهاد: أهم العوامل التي أدت إلى هذا الوقوف والتزام تقليد السابقين أربعة:

أولا - انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وأفرادها. فهذا الانقسام شغل ولاة الأمور بالحروب والفتن واتقاء المكايد وتدابير وسائل القهر والغلبة وشغل الناس معهم فدب الانحلال العام وكان لهذا الانحلال أثره في وقوف حركة التشريع.

ثانيا - أنه لما انقسم الأئمة المجتهدون في العهد الثالث إلى أحزاب وصار لكل حزب مدرسة تشريعية بها نزعتها وخطتها. عني تلاميذ كل مدرسة أو أعضاء كل حزب بالانتصار لمذهبهم وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل والإشادة بزعمائهم ورؤسائهم. فانشغل علماء المذاهب بهذه الأمور وانصرفوا عن الأساس التشريعي الأول وهو القرآن والسنة. وبهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته.

وصار الخاصة كالعامة أتباعا مقلدين.

____________

(1) المصدر السابق 72.

الصفحة 313
ثالثا - أنه لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية ولم يضعوا نظاما كفيلا بأن لا يجترئ على الاجتهاد إلا من هو أهل دبت الفوضى في التشريع والاجتهاد وادعى الاجتهاد من ليس أهلا له وتصدى لإفتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم. وبهذا تعددت الفتاوى وتباينت وتبع هذا تعدد الأحكام في الأقضية حتى كان القضاء يختلف في الحادث الواحد في البلد الواحد فتستحل دماء وأموال في ناحية من نواحي المدينة وتستباح في ناحية أخرى منها وكل ذلك نافذ في المسلمين وكله يعتبر من أحكام الشريعة.

فلما فزع من هؤلاء العلماء حكموا في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد وتقيد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة السابقين فعالجوا الفوضى بالجمود.

رابعا - إن العلماء فشت فيهم أمراض خلقية حالت بينهم وبين السمو إلى مرتبة الاجتهاد فلقد فشا بينهم التحاسد والأنانية... فماتت روح النبوغ.

وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم وثقة الناس بهم فولوا وجههم مذاهب الأئمة السابقين (1).

لقد كانت البداية البحث عن المصلحة. فجاء الخلاف وانقسام الدولة الإسلامية وتناحر ملوكها وولاتها. ثم تجرأ على الفتوى اتباع الدوائر المختلفة الذين عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم وضرب التحاسد والأنانية وجوه العديد من العلماء. وعندما جف الوقود الذي يدفع بأصحابه نحو المستقبل ولوا وجوههم نحو الخلف حيث مذاهب السابقين. وإذا كان الأوائل قد اختلفوا في الفتوى نظرا لاختلاف البيئة. فإن الاختلاف من بعدهم أوسع لأن البيئة الواحدة تمزقت إلى ألف بيئة ومعطيات العصر ألقت بآلاف المسائل، فبماذا يجدي النظر إلى الخلف لحل مشكلات الحاضر؟ ألا يفتح ذلك الباب للدخول في سنين الأولين. وخصوصا أن عندهم من المصالح ما لا يخفى على أحد وما يغري العامة والخاصة على تقليدهم واتباعهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.

____________

(1) المصدر السابق ص 96 - 99.

الصفحة 314
والخلاصة: أن البحث عن المصلحة مطلب فطري. ولكن كلما كان الباحث عن المصلحة لا مصلحة له فيما يبحث - بمعنى أن يكون لا مطمع له في مال أو جاه أو غير ذلك نظير فتواه - أصابت فتواه دائرة الفطرة. وأيضا كلما كان الباحث عن المصلحة عالما بالكتاب الذي لا يمسه إلا المطهرون وبالسنة التي يشهد لها الكتاب. ساقت فتواه الناس إلى صراط الله الذي لا اختلاف فيه. فإذا لم يتوفر الطهر والعلم والعدل في الباحث عن مصالح الناس. كان الناس من سنن الأولين أقرب.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net