متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثانيا - البغاة والقمر
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثانيا - البغاة والقمر

بعد مقتل عثمان انطلق النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية. وفي الشام بدأ إعلام معاوية يعبأ الناس حول القميص. وعندما اطمئن معاوية لنتيجة سياسته الإعلامية. روى ابن كثير أنه بعث رجلا فدخل على علي بن أبي طالب.

وعندما قال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود.

كلهم موتور. تركت سبعين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وهو على منبر دمشق. فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان (1).

لقد كانت هذه رسالة مبكرة من معاوية بعد أن أراد أمير المؤمنين عزله من على الشام. وبدأ إعلام بني أمية يبث في الأمصار أن عثمان قتل مظلوما وأن عليا اشترك في دمه. وعندما علم أمير المؤمنين بهذا قال: " أولم ينه بني أمية علمها عن قرفي؟ أو ما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي؟ ولما وعظمهم الله به أبلغ من لساني. أنا حجيج المارقين. وخصيم الناكثين المرتابين. وعلى كتاب الله تعرض الأمثال. وبما في الصدور نجازي العباد قال ابن أبي الحديد ومعناه: أما كان في علم بني أمية بحالي ما ينهاها عن قرفي بدم عثمان. وذكر أن علمهم بها يقتضي ألا يقرفوه بذلك. وحاله التي يعلمها بنو أمية. هي منزلته في الدين التي لا منزلة

____________

(1) البداية والنهاية 230 / 7.

الصفحة 498
أعلى منها. وما نطق به الكتاب الصادق من طهارته وطهارة بنيه وزوجته في قوله: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " وذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام كما أن هارون معصوم عن مثل ذلك... فكيف ساغ لأعداء أمير المؤمنين. مع علمهم بمنزلته العالية في الدين التي لم يصل إليها أحد من المسلمين. أن يطلقوا ألسنتهم فيه وينسبوه إلى قتل عثمان أو الممالاة عليه. لاسيما وقد ثبت عندهم أنه كان من أنصاره لا من المجلبين عليه. ثم قال: إن الذي وعظهم الله تعالى به في القرآن. من تحريم الغيبة والقذف وتشبيه ذلك بأكل لحم الميت أبلغ من وعظى لهم. لأنه لا عظة أبلغ من عظة القرآن. ثم قال: أنا حجيج المارقين وخصيم المرتابين يوم القيامة وروي عنه أنه قال: أنا أول من يجثوا للحكومة بين يدي الله تعالى "، ثم أشار إلى ذلك بقوله: على كتاب الله تعرض الأمثال. يريد بذلك قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) (1)، ثم قال: إن كنت قتلت عثمان أو مالأت عليه. فإن الله سبحانه سيجازيني بذلك. وإلا فسوف يجازى بالعقوبة والعذاب من اتهمني به ونسبني إليه (2).

لقد أرادوا باتهام أمير المؤمنين في دم عثمان أمورا منها: إخراجه من دائرة التطهير التي ستظهرها رواية الحديث في عهده، وهم يريدون إخراجه من هذه الدائرة ليسهل عليهم مواجهته وتعبئة العامة من حولهم على اعتبار أنهم أولياء عثمان والأحق به. أي يجردونه من الرداء الذي وضعه عليه الله ورسوله. بينما يكون على أبدان بني أمية رداء تأويل قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) (3)، فيكونون هم في دائرة الدين. ويكون أمير المؤمنين واحدا من الناس حرص على الحكم ليجعله في أعقابه.

____________

(1) سورة الحج: الآية 19.

(2) ابن أبي الحديد 379 / 2.

(3) سورة الإسراء: الآية 33.

الصفحة 499
ولقد بلغ الإعلام الأموي مداه حتى أن الأمر قد التبس عند العديد من الصحابة فهذا زيد من أرقم يقول لأمير المؤمنين علي، أنشدك الله، أنت قتلت عثمان؟ فأطرق الإمام ساعة ثم قال: والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة ما قتلت ولا أمرت بقتله (1). وأمام طوفان الإعلام الأموي خطب الإمام علي في الناس فقال:

لو أمرت به لكنت قاتلا. أو نهيت عنه لكنت ناصرا. غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه. ومن خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير مني. وأنا جامع لكم أمره. استأثر فأساء الأثرة. وجزعتم فأسأتم الجزع.

ولله حكم واقع في المستأثر والجازع (2). وخلاصة هذا الكلام: أنه فعل ما لا يجوز وفعلتم ما لا يجوز. أما هو فاستأثر فأساء الأثرة. أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد. وأما أنتم فجزعتم مما فعل. أي حزنتم فأسأتم الجزع. لأنكم قتلتموه. وقد كان الواجب عليه أن يرجع عن استئثاره. وكان الواجب عليكم ألا تجعلوا جراءه عما أذنب القتل. بل الخلع والحبس وترتيب غيره في الإمامة. ثم قال: ولله حكم سيحكم به فيه وفيكم (3).

وأما هذه الأحداث طلب منه قوم من أصحابه أن يعاقب من أجلب على عثمان. ولكن من هؤلاء الذين سيعاقبهم الإمام؟ وهناك من مهد ومن أفتى ومن ناصر القتلة ومن خذل المقتول ومن قتل. ولهذا قال الإمام لأصحابه: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون. ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم!! دهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم (4) (لاحظ أن المجلبين هنا ليسوا في جيش الإمام) وهم خلالكم (5) يسومونكم (6) ما شاؤا. وهل ترون موضعا لقدرة على شئ تريدونه؟

____________

(1) رواه الحاكم (المستدرك 106 / 3).

(2) ابن أبي الحديد 363 / 1.

(3) ابن أبي الحديد 365 / 1.

(4) أي انضمت واختلطت بهم.

(5) أي بينكم.

(6) أي يكلفونكم.

الصفحة 500
إن هذا الأمر أمر جاهلية. وإن لهؤلاء القوم مادة. إن الناس من هذا الأمر إذا حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون. وفرقة ترى ما لا ترون. وفرقة لا ترى هذا ولا هذا. فاصبروا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها. وتؤخذ الحقوق مسمحة. فأهدأوا عني (1)، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري. ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة (2). وتسقط منه (3). وتورث وهنا (4) وذلة. وسأمسك الأمر ما استمسك وإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي (5). قال ابن أبي الحديد: واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه كان في نفسه عقاب الذين حصروا عثمان والاقتصاص ممن قتله. ولهذا قال: إني لست أجهل ما تعلمون. فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك. واعتذر بعدم التمكن كما ينبغي. وصدق في ذلك. فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه... ولا يأمن لو شرع في عقوبة الناس والقبض عليهم. من تجدد فتنة أخرى كالأولى وأعظم. فكان الأصوب في التدبير. والذي يوجبه الشرع والعقل. الامساك إلى حين سكون الفتنة... وكان يأمل أن يطيعه معاوية وغيره وأن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم. ويعينون قوما بأعيانهم. بعضهم للقتل. وبعضهم للحصار. وبعضهم للتشور. كما جرت عادة المتظلمين إلى الإمام والقاضي. فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى. ولكن الأمر لم يقع على هذا النحو. وعصى معاوية وأهل الشام. والتجأ ورثة عثمان إليه. وفارقوا أمير المؤمنين. ولم يطلبوا القصاص طلبا شرعيا. وإنما طلبوه مغالبة. وجعلها معاوية عصبية جاهلية. ولم يأت أحد منهم الأمر من بابه. وقد قال أمير المؤمنين لمعاوية فيما بعد: (فأما طلبك قتلة عثمان فادخل في الطاعة. وحاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله وسنة رسوله... وهذا عين الحق. ومحض الصواب لأنه يجب دخول الناس في طاعة الإمام ثم تقع المحاكمة

____________

(1) أي فاسكتوا.

(2) أي تضعف وتهد.

(3) منة / القوة.

(4) وهن / ضعف.

(5) ابن أبي الحديد 339 / 1، الطبري حوادث عام 35.

الصفحة 501
إليه (1). ولكن بني أمية ما كانوا يريدون حقا لأن الحق وضعهم ورفع غيرهم.

وجوهر الأمر لم يكن قتلة عثمان وإنما الملك وكان الإمام علي يعلم هذا ولهذا قال: " وسأمسك الأمر ما استمسك. فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي " أي: أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين للبيعة ما أمكنني وأدفع الأيام بمراسلتهم وتخويفهم وإنذارهم. واجتهد في ردهم إلى الطاعة بالترغيب والترهيب. فإذا لم أجد بدا من الحرب. فآخر الدواء الكي. أي الحرب. لأنها الغاية التي ينتهي أمر العصاة إليها.

لقد كان الإمام يعلم أن هؤلاء هدفهم الحكم وليس قميص عثمان إلا رمزا وشعارا، ولهذا قال: لو أعلم أن بني أمية يذهب ما في نفوسها. لحلفت لهم خمسين يمينا مردودة بين الركن والمقام. أني لم أقتل عثمان. ولم أمال على قتله (2) وقال: " أما بنو أمية هيهات هيهات أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو كان الملك من وراء الجبال. ليثبوا عليه حتى يصلوا " (3)، والإمام قال ذلك لأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا.

فعن ثروان قال: كنا جلوسا في المسجد. فمر علينا عمار بن ياسر. فقلنا له:

حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون بعدي قوم يأخذون الملك. يقتل عليه بعضهم بعضا. قلنا له: لو حدثنا غيرك ما صدقناه قال: فإنه سيكون (4) فالملك لو كان من وراء الجبال لوثب عليه بنو أمية. ولا يقتلون عليه من خالفهم إن كان من غيرهم فقط. وإنما يقتلون أيضا بعضهم بعضا عليه.

وفي نص سابق علمنا أن الإمام عليا أخذ على نفسه أن يراسل القوم

____________

(1) ابن أبي الحديد 340 / 3.

(2) اللالكائي (كنز العمال 91 / 13).

(3) ابن عساكر (كنز العمال 364 / 11).

(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 24 / 23) وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 292 / 7).

الصفحة 502
وينذرهم ويجتهد في ردهم إلى الطاعة. وقد فعل رضي الله عنه ذلك ليقيم على الظالمين الحجة أمام الله جل وعلا. وروى أنه كتب إلى معاوية: " أما بعد. فقد علمت إعذاري فيكم. وإعراضي عنكم. حتى كان ما لا بد منه ولا دفع له.

والحديث طويل. والكلام كثير. وقد أدبر ما أدبر. وأقبل ما أقبل. فبايع من قبلك. وأقبل إلي في وفد من أصحابك " (1)، لقد أقام الحجة وهو يعلم أن معاوية له يبايع. وكيف يبايع وعينه طامحة إلى الملك والرئاسة منذ أمره عمر على الشام. ومن خلفه وصية أمه وأبيه. وكيف يطيع عليا وبين علي بن أبي طالب وبين النبي صلى الله عليه وسلم مساحة واسعة من اللارواية ومساحة أوسع من القص وعليها من المحرضين على علي أكثر من عدد الحصى ويكفي الوليد بن عقبة الذي بعث إلى معاوية يقول:

فوالله ما هند بأمك إن مضى * النهار ولم يثأر بعثمان ثائر
أيقتل عبد القوم سيد أهله * ولم تقتلوه ليت أمك عاقر

يقول ابن أبي الحديد: وتالله لو سمع هذا التحريض أجبن الناس وأضعفهم نفسا وأنقصهم همه لحركه وشحذ من عزمه فكيف معاوية. وقد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام (2) ولم يكتف أمير المؤمنين برسالة واحدة إلى معاوية. وإنما بعث إليه بأكثر من رسالة بعد بيعته بخصوص دم عثمان. وفي رسالة قال له:

ولعمري يا معاوية. لئن نظرت بعقلك دون هواك. لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان. ولتعلمن أني كنت في عزله عنه. إلا أن تتجنى. فتجن ما بدا لك.

والسلام (3).

ولم يكف الإعلام الأموي عن الباطل بل بعث إلى مكة وبقية الأمصار بمن يحملون إذاعته ويعملون من أجل شق صف الأمة.

وفي هذا الوقت استأذن طلحة والزبير عليا في العمرة فأذن لهما فلحقا

____________

(1) ابن أبي الحديد 247 / 5.

(2) ابن أبي الحديد 248 / 5.

(3) ابن أبي الحديد 311 / 4.

الصفحة 503
بمكة (1) وبدأ أهل المدينة يحومون حول أمير المؤمنين، ليعرفوا رأيه في معاوية، وقتال أهل القبلة. أيجسر عليه أم ينكل عنه. ووجد أهل المدينة في زياد بن حنظلة التميمي ضالتهم المنشودة. فدسوا زيادا إلى علي وكان من الذين يدخلون عليه. وذات يوم قال أمير المؤمنين لزياد: يا زياد تيسر. فقال: لأي شئ. فقال الإمام: تغزو الشام فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه.

فقالوا: ما وراءك؟ قال: السيف يا قوم (2) وبدأ الإمام علي يجهز قواته ليضرب الفرقة وطلاب الملك عند المهد وقبل أن يستفحل الأمر. وخطب أهل المدينة.

فدعاهم إلى النهوض في قتال أهل الفرقة. وقال: إن الله عز وجل بعث رسولا هاديا مهديا بكتاب ناطق. وأمر قائم واضح. لا يهلك عنه إلا هالك. وإن المبتدعات والشبهات هن المهلكات. إلا من حفظ الله. وإن في سلطان الله عصمة أمركم. فاعطوه طاعتكم غير ملتوية. ولا مستكره بها. والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام. ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إليها.

إنهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون يفرقون جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم (3)، وبينما كان أمير المؤمنين يحشد القوة لمواجهة أهل الشام (4) جاءه الخبر أن مكة قد هاجت وأن أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير لهم رأي آخر، واشتد على أهل المدينة الأمر!!


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net