متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - معاوية وسياسة التشكيك
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

2 - معاوية وسياسة التشكيك:

سارت سياسة تعبئة الناس تحت لافتة " قميص عثمان " جنبا إلى جنب مع سياسة التشكيك في الأحاديث التي رويت في فضل أهل البيت ومناقب علي بن أبي طالب فمعاوية كان يدرك خطورة هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث التي حذر فيها النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن. ولعن فيها قبائل وبيوتا نظرا لخطورتها على الدعوة. لهذا رفع معاوية أمام هذه الأحاديث لافتة " أساطير الأولين " ولم يكتف معاوية بهذه اللافتة وإنما تاجر بقتل طلحة والزبير وهزيمة

____________

(1) الكامل 146 / 3، الطبري 243 / 5.

الصفحة 46
عائشة. وحاول أن يجذب علي بن أبي طالب إلى معركة كلامية. حول الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن دخول الإمام في هذه الدائرة سيجعله من وجهة نظر معاوية يفقد أصوات العامة في الأمصار مما يسهل على معاوية اختراق الساحة بعد ذلك. وبالجملة: لم يترك معاوية طريقا فيه هواه إلا وطرقه ووضع فيه العوائق.

وسياسة شكيك في الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظهرت معالمها في رسالة أرسلها معاوية إلى أمير المؤمنين علي يقول له فيها:

أما بعد. فدعني من أساطيرك. واكفف عني من أحاديث. وأقصر عن تقولك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترائك من الكذب ما لم يقل. وغرور من معك والخداع لهم. فقد استغويتهم. ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك. ويعلموا أن ما جئت به باطل مضمحل. والسلام " (1).

فكتب إليه أمير المؤمنين: أما بعد. فطالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان الرجيم الحق أساطير الأولين ونبذتموه وراء ظهوركم. وجهدتم بإطفاء نورا الله بأيديكم وأفواهكم. والله متم نوره ولو كره الكافرون. ولعمري ليتمن النور على كرهك. ولينفذن العلم بصغارك. ولتجازين بعملك. فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك. فكأنك بباطلك وقد انقضى. وبعملك وقد هوى.

ثم تصير إلى لظى. لم يظلمك الله شيئا. وما ربك بظلام للعبيد.

ولم تكتف الحملة الإعلامية للقاسطين على رفع لافتة " أساطير الأولين " وإنما قامت بتغذية الساحة بمادة إعلامية هدفها التقليل من شأن أمير المؤمنين في أول الطريق ليتمكنوا من سبه في نهاية الطريق. يقول معاوية في رسالة له إلى أمير المؤمنين: أما بعد فما أعظم الدين على قلبك. والغطاء على بصرك. الشره من شيمتك. والحسد من خليقتك. فشمر للحرب واصبر إلى الضرب. فوالله ليرجعن الأمر إلى ما علمت. والعاقبة للمتقين!!... " (2).

____________

(1) ابن أبي الحديد 769 / 4.

(2) المصدر السابق 769 / 4.

الصفحة 47
يقول ابن أبي الحديد: وأعجب وأطرب ما جاء به الدهر، وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة - أن يفضي أمر علي كرم لله وجهه إلى أن يصير معاوية ندا له ونظيرا مماثلا. يتعارضان الكتاب والجواب. ويتساويان فيما يواجه به أحدهما صاحبه. ولا يقول له علي كرم الله وجهه كلمة إلا قال مثلها. وأخشن مسا منها.

فليت محمد صلى الله عليه وسلم كان شاهد ذلك ليرى عيانا لا خبرا أن الدعوة التي قام بها. وقاسي أعظم المشاق في تحملها. وكابد الأهوال في الذب عنها. وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها. وشيد أركانها. وملأ الآفاق بها.

خلصت صفوا عفوا لا عدائه الذين كذبوه لما دعا إليها. وأخرجه عن أوطانه لما حصن عليها. وأدموا وجهه وقتلوا عمه وأهله. فكأنه كان يسعى لهم ويدأب لراحتهم، كما قال أبو سفيان في أيام عثمان.

وقد مر بقبر حمزة. وضربه برجله وقال: يا أبا عمارة: إن الأمر الذي اختلفنا عليه بالسيف أمسي في يد غلماننا اليوم يتلعبون به ثم آل الأمر أن يفاخر معاوية عليا. كما يتفاخر الأكفاء والنظراء! ثم أقول ثانيا لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ليت شعري. لماذا فتح باب الكتاب والجواب بينه وبين معاوية؟

وإذا كانت الضرورة قد قادت إلى ذلك فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة من غير تعرض للمفاخرة (1) والمنافرة. وإذا كان لا بد منهما. فهلا اكتفى بهما من غير تعرض لأمر آخر يوجب المقابلة والمعارضة بمثله. وبأشد منه (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (2)، وهلا دفع هذا الرحل العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الأحمق. هذا مع أنه القائل: من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. أي افتروا عليه

____________

(1) المصدر السابق 769 / 4.

(2) كان الإمام قد تفاخر في رسالة وقال: إن كنت صادقا فيما تسطر.. فدع الناس جانبا.

وتيسر لما دعوتني إليه من الحرب... واعف الفريقين من القتال. ليعلم أينا المرين على قلبه. المغطي على بصره، فأنا أبو الحسن، قاتل جدك وأخيك وخالك. (ابن أبي الحديد 770 / 4).

الصفحة 48
وقالوا فيه الباطل " (1).

وأقول: شاء الله أن يرد الإمام ردا يوجب المقابلة والمعارضة. وشاء الله أن نجد هذه الرسائل في أكثر من مصدر لتعلم منها أصول الحقيقة الغائبة. والإمام لا يضره سباب ألف سفيه أحمق. لأن هؤلاء لا يكتب لسبابهم وعروشهم الخلود. فانظر إلى الوراء منذ عهد آدم عليه السلام كم من كلاب نبحت على قافلة الأنبياء. لقد ذهب النباح كهباء ضائع في خلاء يصلي أصحابه لظى. وكتب الخلود لدعوة الرسل والأنبياء. وكذلك ترى سيرة الأئمة والهداة لقد رصدتهم ألسنة أصحاب السوء وشوهتهم الأقلام المأجورة. وفي النهاية ذهب أهل السوء والباطل ولم يكتب لأقوالهم الخلود ولم يبق إلا السائرون على طريق الفطرة.

وبعد التكذيب بالحديث بدأ إعلام معاوية يتاجر بمقتل طلحة والزبير وهزيمة عائشة. روي أن عمرو بن العاص قال لعائشة: لوددت أنك كنت قتلت يوم الجمل. فقالت: ولم لا أبا لك؟ فقال: تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ونجعلك أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب " (2)، ومن هذا نعلم أن المتاجرة بأهل الجمل لها جذور وأصول. وفي رسالة من معاوية إلى أمير المؤمنين علي يقول: معاوية:... دعوت الناس إلى نفسك. وأكرهت أعيان المسلمين على بيعتك. ثم كان منك بعدما كان من قتلك شيخي المسلمين أبا محمد طلحة وأبا عبد الله الزبير. وهما من الموعودين بالجنة. والمبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة. وإحلالها محل الهون. مبتذلة بين أيدي الأعراب وفسقة أهل الكوفة. فمن بين مشهر لها، وبين شامت بها. وبين ساخر منها. ترى ابن عمك كان بهذا لو رآه راضيا. أم يكون عليك ساخطة.

ولك عنه زاجرا. أن تؤذي أهله وتشرد بحليلته. وتسفك دماء أهل ملته. ثم تركك دار الهجرة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: " إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد " فلعمري قد صح وعده وصدق قوله.

____________

(1) سورة الأنعام: الآية 108.

(2) ابن أبي الحديد 770 / 4.

الصفحة 49
ولقد نفت خبثها. وطردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها. فأقمت بين المصرين. وبعدت عن بركة الحرمين. ورضيت بالكوفة بدلا من المدينة.

وبمجاورة الخورنق والحيرة. عوضا عن مجاورة خاتم النبوة... " (1).

ورد أمير المؤمنين عليه في رسالة طويلة منها:... فرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم. واليوم أنا استقمنا وفتنتم. وما أسلم مسلمكم إلا كرها. وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم حربا. وذكرت أني قتلت طلحة والزبير. وشردت بعائشة. ونزلت بين المصرين. وذلك أمر غبت عنه - فلا عليك. ولا العذر فيه إليك... " (2).

وقال ابن أبي الحديد: فأما الجواب المفصل فأن يقال: إن طلحة والزبير قتلا أنفسهما ببغيهما ونكثهما. ولو استقاما على الطريقة لسلما ومن قتله الحق فدمه هدر... وأصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا وفارقا الدنيا نادمين على ما صنعا. وكذلك نقول نحن... فهما من أهل الجنة لتوبتهما. ولولا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما. فإن الله تعالى لا يحابي أحدا في الطاعة والتقوى.

(ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة) (3)، وأما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة. والكلام في سلامتهما. وإذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما وتحقق... أما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها. والأخبار الواردة في توبتها أكثر من الأخبار الواردة في توبة طلحة والزبير. لأنها عاشت زمانا طويلا. وهما لم يبقيا. والذي جرى لها كان خطأ منها. فأي ذنب لأمير المؤمنين كرم الله وجهه في ذلك؟ ولو أقامت في منزلها لم تبتذل بين الأعراب وأهل الكوفة، على أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أكرمها وصانها وعظم من شأنها... ولو كانت فعلت بعمر بن الخطاب ما فعلت به. وشقت عصا الأمة عليه. ثم ظفر بها. لقتلها وفرقها إربا إربا. ولكن عليا كان حليما كريما.

____________

(1) الكامل / للمبرد ط ليدن ص 151 / 1.

(2) ابن أبي الحديد 178 / 5.

(3) ابن أبي الحديد 177 / 5.


الصفحة 50
وأما قوله: " لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبربك هل كان يرضي لك أن تؤذي حليلته ". فلعلي كرم الله وجهه أن يقلب الكلام عليه.

فيقول: " افتراه لو عاش. أكان يرضي لحليلته أن تؤذي أخاه ووصيه. وأيضا أتراه لو عاش أكان يرضي لك يا ابن أبي سفيان أن تنازع عليا الخلافة، وتفرق جماعة هذه الأمة. وأيضا أتراه لو عاش أكان يرضي لطلحة والزبير أن يبايعا. ثم ينكثا لا لسبب. بل قالا: جئنا تطلب الدراهم. فقد قيل لنا: إن بالبصرة أموالا كثيرة هذا الكلام يقوله لمثلهما.

فأما قوله: " تركت دار الهجرة " فلا عيب عليه إذا انتقضت عليه أطراف الإسلام بالبغي والفساد أن يخرج من المدينة إليها، ويهذب أهلها، وليس كل من خرج من المدينة كان خبثا. فقد خرج عنها عمر مرارا إلى الشام. ثم لعلي كرم الله وجهه أن يقلب عليه الكلام فيقول له: وأنت يا معاوية قد نفتك المدينة أيضا عنها. فأنت إذن خبث. وكذلك طلحة والزبير وعائشة الذين تتعصب لهم وتحتج على الناس بهم، وقد خرج من المدينة الصالحون. كابن مسعود وأبي ذر وغيرهما وماتوا في بلاد نائية عنها.

وأما قوله: " بعدت عن حرمة الحرمين، ومجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فكلام إقناعي ضعيف، والواجب على الإمام أن يقدم الأهم فالأهم من مصالح الإسلام. وتقديم قتال أهل البغي على المقام بين الحرمين أولى... (1).

إن خطاب معاوية ليس فيه علم يرى. وهو خطاب إعلامي في المقام الأول يخاطب به غوغاء الشام ومن على شاكلتهم على الرغم من أن الرسالة موجهة إلى أمير المؤمنين علي: وعلى هذا المنوال بعث معاوية برسالة أخرى إلى أمير المؤمنين علي يقول له فيها: أما بعد، يقول الله تعالى في محكم كتابه (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من

____________

(1) سورة الأنفال: الآية 42.

الصفحة 51
الخاسرين) (1)، وإني أحذرك الله أن تحبط عملك وسابقتك بشق عصا هذه الأمة وتفريق جماعتها. فاتق الله واذكر موقف القيامة. وأقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لو تمالا أهل صنعاء وعدن على قتل رجل واحد من المسلمين. لأكبهم الله على مناخرهم في النار " فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين وسادات المهاجرين. بل ما طحنت رحا حربه من أهل القرآن. وذي العبادة والإيمان. من شيخ كبير. وشاب غرير. كلهم بالله تعالى مؤمن. وله مخلص وبرسوله مقر عارف. فإن كنت أبا الحسن أنما تحارب على الإمرة والخلافة. فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين. ولكنها ما صحت لك. أني بصحتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها. ولم يرتضوا بها؟ وخف الله وسطوته. واتق بأسه ونكاله. وأغمد سيفك عن الناس. فقد والله أكلتهم الحرب... " (2).

وهذا أيضا خطاب إعلامي كتبه معاوية لتبدأ إذاعته في بثه بمجرد أن يتحرك حامل الرسالة في اتجاه أمير المؤمنين. ولقد رد أمير المؤمنين علي على هذه الرسالة وغيرها من باب إقامة الحجة.

فقال: أما بعد. فقد أتتني منك موعظة موصلة. ورسالة محبرة. فمقتها بضلالك. وأمضيتها بسوء رأيك. وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه. ولا قائد يرشده. دعاه الهوى فأجابه. وقاده الضلال فاتبعه. فهجر لا غطا. وضل خابطا.

فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها، واستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم. وأما تحذيرك إياي أن يحيط عملي وسابقتي في الإسلام. فلعمري لو كنت الباغي عليك. لكان لك أن تحذرني ذلك. ولكني وجدت الله تعالى يقول: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر

____________

(1) ابن أبي الحديد 180 / 5.

(2) سورة الزمر: الآية 65.

الصفحة 52
الله) (1)، فنظرنا إلى الفئتين. أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها. لأن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام. كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة. وأنت أمير لعمر على الشام. وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام. وأما شق عصا هذه الأمة. فأنا أحق أن أنهاك عنه. فأما تخويفك لي من قتال أهل البغي. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بقتالهم وقتلهم.

وقال لأصحابه: " إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله "، وأشار إلي وأنا أولى من اتبع أمره. وأما قولك: إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها. كيف وإنما هي بيعة واحدة. تلزم الحاضر والغائب. لا يثني فيها النظر. ولا يستأنف فيها الخيار. الخارج منها طاعن. والمروي فيها مداهن. فأربع على ظلعك، وانزع سربال غيك... (2).

لقد خاطبه، وفقا لثقافته وما سارت عليه الأمور بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليحاكمه بما ارتضوه واتفقوا عليه وهو أن الاختيار طريق الخلافة. فبين له أن الخلافة ليس بعد عقدها خيار لمن عقدها ولا لغيرهم. لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين. فيسقط الخيار فيها. ووفقا لهذا التعريف فقد لزمت أمراء الشام من قبل. وعليه فهي تلزم معاوية.

كان هذا بعضا من سياسة التشكيك في الحديث حتى يتم التعتيم مرة أخرى على مناقب أمير المؤمنين، وسارت سياسة التقليل من شأن أمير المؤمنين جنبا إلى جنب مع سياسة التشكيك في الحديث. ووصف بأن يفرق الكلمة ويقتل المتقين ويفارق المدينة. وكان هذا لهدف لا يخفي على الباحث عن الحقيقة.

وفي حياة أمير المؤمنين عتموا على مناقبه مرة، ثم أرادوا أن يعتموا عليها ويشوهوه مرة... وبعد وفاته سبوه على المنابر. وكما زج معاوية بأصحاب الجمل في حربه الإعلامية. زج أيضا بقضية الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان يريد من وراء هذا أن يقول أمير المؤمنين في أبي بكر.

____________

(1) ابن أبي الحديد 316 / 4.

(2) سورة الحجرات: الآية 9.

الصفحة 53
وعمر، بما لا يرضي الرأي العام لأن الغالب الأعم في الأمصار كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلا القليل... من خواص أمير المؤمنين، كان معاوية يريد أن يسجل عليه قوله أنهما غصباه حقه. فيجعل ذلك حجة عليه عند أهل الشام ويضيفه إلى ما وضعه في عقولهم من انتقاص علي كما زعم. كان يريد أن وينسبهما إلى الظلم ومخالفة الرسول في أمر الخلافة. فالحصول على تسجيل مثل هذا كفيل بأن يفسد عليه أهل العراق أيضا وهم جنده وبطانته وأنصاره. لأن الغالب الأعم فيهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين. لهذا لم يدخر معاوية جهدا من أجل فتح هذا الباب. فأرسل كتابا مع أبي مسلم الخولاني قصد أن يغضب عليا ويجرحه إذا قرأ ذكر أبي بكر وأنه أفضل المسلمين إلى أن يخلط خطة في الجواب بكلمة تقتضي طعنا في أبي بكر. فجاءه الرد من علي غير واضح غير بين. ليس فيه تصريح بالتظلم لهما وتارة يترحم عليهما. وتارة يقول: أخذا حقي وقد تركته لهما. فأشار عمرو به العاص مع معاوية أن يكتب كتابا ثانيا للكتاب الأول ليستفزا فيه عليا. ويحمله الغضب أن يكتب كلاما يتعلقان به في تقبيح حاله. فكتب معاوية إلى أمير المؤمنين كتابا أنفذه مع أبي أمامة الباهلي ومما جاء فيه: " لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه. ورمت إفساد أمره. وقعدت في بيتك واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته. ثم كرهت خلافة عمر.

وحسدته واستطلت مدته. وسررت لقتله. وأظهرت الشماتة بمصابه. حتى أنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه. ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان نشرت مقابحه. وطعنت في فقهه. ثم في دينه. ثم في سيرته ثم في عقله. وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك. حتى قتلوه بمحضر منك " وجاء فيها: " فدع اللجاج، والعبث جانبا، وادفع إلينا قتلة عثمان، وأعد الأمر شوري بين المسلمين ليتفقوا على من هو لله رضا. فلا بيعة لك في أعناقنا. ولا طاعة لك علينا ولا عتبي لك عندنا. وليس لك ولأصحابك عندي إلا السيف "، وجاء فيها: " فأما ما لا تزال تمن به من سابقتك وجهادك. فإني وجدت الله سبحانه يقول: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم

الصفحة 54
صادقين) (1)، ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشد الأنفس امتنانا على الله بعملها، وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة. فالامتنان على الله يبطل أمر الجهاد، ويجعله (كمثل صفوان عليه تراب...) الآية (2)، فهكذا نسج معاوية وابن العاص شباك الصيد التي تخدم أهواءهما كي يركبا على أعناق الأمة. ورد أمير المؤمنين وكان رده من محاسن الكتب. وجاء فيه: " أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمدا صلى الله عليه وسلم لدينه. وتأييده إياه لمن أيده من الصحابة. فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا. ونعمته علينا في نبينا. فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر أو داعي مسدده إلى النضال.

والمعنى: " فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا " موضع التعجب أن معاوية يخبر عليا كرم الله وجهه باصطفاء الله تعالى محمدا وتشريفه له. وتأييده له. وهذا ظريف لأنه يجري كإخبار زيد عمرا عن حال عمرو. إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي كرم الله وجهه كالشئ الواحد وقوله: " فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر " وهجر اسم مدينة. وهي بلدة كثيرة النخل يحمل منها التمر إلى غيرها (3). ثم قال الإمام في خطابه: " وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله. وإن نقص لم يلحقك ثلمه. وما أنت والفاضل والمفضول. والسائس والمسوس، وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم. هيهات لقد جن قدح ليس منها (4).

وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها (5). ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك (6).

____________

(1) ابن أبي الحديد 316 / 4.

(2) سورة الحجرات: الآية 17.

(3) سورة البقرة: الآية 264.

(4) ابن أبي الحديد 605 / 4.

(5) هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم.

(6) أي وطفق يحكم في هذه القصة أو في القضية من يجب أن يكون الحكم لها عليه لا له فيها.

الصفحة 55
وتعرف قصور ذرعك. وتتأخر حيث أخرك القدر (1) فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر (2). فإنك لذهاب في التيه. رواغ عن القصد " (3)، ثم كشف له أمير المؤمنين عن أمور يعرفونها فقال: " ومنا النبي ومنكم المكذب ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف، ومنا سيد شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار. ومناخير نساء العالمين، ومنكم حمالة الحطب، في كثير مما لنا وعليكم. فإسلامنا ما قد سمع. وجاهليتنا لا تدفع. وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا. وهو قوله سبحانه وتعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (4)، وقوله تعالى:

(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (5). فنحن مرة أولى بالقرابة، وتارة أخرى أولى بالطاعة، ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وسلم فلجوا عليهم - فإن يكن الفلج به. فالحق لنا دونكم. وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم. وزعمت أنى لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت. فإن يكن ذلك كذلك. فليست الجناية عليك. فيكون العذر إليك. وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت.

وأن تفضح فافتضحت. وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه. ولا مرتابا ببقينه. وهذه حجتي إلى غيرك قصدا. ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها. ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه. فأينا كان أعدي له وأهدي إلى مقاتله؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه، أمن استنصره فتراخي عنه وبث

____________

(1) أي ألا ترفق بنفسك وتكف ولا تحمل عليها ما لا تطيقه.

(2) مثل قولك: ضع نفسك حيث وضعها الله.

(3) أي ما الذي أدخلك بيني وبين أبي بكر وعمر وأنت من بني أمية لست هاشميا ولا تيميا ولا عدويا، ولست مهاجرا.

(4) أي تترك ما يلزمك فعله وتتحدث عن الصحابة وما جرى بعد موت النبي. ونحن إلى الكلام في غير هذا أحوج منا إلى الكلام في البيعة وحقن الدماء والدخول تحت طاعة الإمام (5) سورة الأنفال: الآية 75.

الصفحة 56
المنون إليه حتى أتى قدره عليه... " (1).

لقد فتح معاوية بابا فيه من الحجج الكثير. وكان الإمام لا يريد لهذا الباب أن يفتح على مصراعيه. لأنه كان في حاجة لحقن الدماء بالدخول تحت بيعته.

وعندما أصر معاوية قال الإمام في رسالته: " ألا ترى غير مخير لك. ولكن بنعمة الله أحدث " أي لست عندي أهلا لأن أخبرك بذلك. فإنك تعلمه. ومن يعلم الشئ لا يجوز أن يخبر به. ولكن أذكر ذلك. لأنه تحدث بنعمة الله علينا.

وقد أمرنا بأن نتحدث بنعمته سبحانه (2).

ويبدو أن حديث معاوية في هذا الباب الذي يعلمه. دفع بآخرين كي يذكروه إن كان قد نسي رغبة منهم في حقن الدماء. ومن هؤلاء محمد بن أبي بكر. فلقد بعث برسالة إلى معاوية ومما جاء فيها " إن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقا بلا عبث ولا ضعف في قوة: لا حاجة به إلى خلقهم. ولكنه خلقهم عبيدا وجعل منهم شقيا وسعيدا وغويا ورشيدا. ثم اختارهم على علمه. فاصطفى منهم محمدا صلى الله عليه وسلم. فاختصه برسالته. واختاره لوحيه. وائتمنه على أمره. وبعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب. ودليلا على الشرائع. فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة. فكان أول من أجاب وأناب، وصدق ووافق فأسلم وسلم. أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب. فصدقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم - ووقاه كل هول، وواساه بنفسه في كل خوف. فحارب حربه، وسالم سلمه " (3)، وقال محمد بن أبي بكر في رسالته: " وقد رأيتك تساميه وأنت أنت.. وهو هو السابق المبرز في كل خير... وأنت اللعين ابن اللعين. لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل وتجتهدان على إطفاء نور الله. وتجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال. وتحالفان في ذلك القبائل. على هذا مات أبوك. وعلى ذلك

____________

(1) سورة آل عمران: الآية 68.

(2) ابن أبي الحديد 599 / 4.

(3) ابن أبي الحديد 607 / 4.

الصفحة 57
خلفته. والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والشاهد لعلي مع فضله وسابقته القديمة أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن. ففضلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار. فهم معه كتائب وعصائب. يجالدون حوله بأسيافهم ويهرقون دماءهم دونه. يرون الفضل في اتباعه والشقاق والعصيان في خلافه.

فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي. وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيه وأبو ولده، وأول الناس له اتباعا وآخرهم به عهدا بخبره بسره ويشركه في أمره. وأنت عدوه وابن عدوه. فتمتع ما استطعت بباطلك وليمددك ابن العاص في غوايتك. فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى. وسوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا. واعلم أنك إنما تكابد ربك الذي قد أمنت كيده وأيست من روحه وهو لك بالمرصاد. وأنت منه في غرور بالله. وبالله وأهل رسوله عنك الغناء. والسلام على من اتبع الهدى " (1).

لقد أراد محمد بن أبي بكر أن يذكر معاوية لعله يعقل الأمور. وإذا كانت لهجة الخطاب بها قوة فإن هذه القوة دعوة ليتخطى معاوية حواجز النفس الأمارة بالسوء. وينتصر على نفسه فيدخل فيما دخل فيه الناس. لتحقن دماء المسلمين ويفوز برضا رب العالمين. فماذا كان جواب معاوية؟ لقد كتب إلى محمد بن أبي بكر: من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. سلام على أهل طاعة الله. أما بعد. فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه. وما اصطفى به نبيه. مع كلام ألفته ووضعته. لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف. ذكرت حق ابن أبي طالب وقديم سابقته وقرابته من نبي الله ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول. واحتجاجك علي وفخرك يفضل غيرك لا بفضلك.. فأحمد إلها صرف ذاك الفضل عنك. وجعله لغيرك. فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته. وأفلج

____________

(1) ابن أبي الحديد 632 / 1.

الصفحة 58
حجته (1). قبضه الله إليه فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه. على ذلك اتفقا واتسقا. ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما. فهما به الهجوم وأرادا به العظيم - فبايعهما وسلم لهما. لا يشركانه في أمرهما. ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضا وانقضى أمرهما. ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان.

يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما. فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي. وبطنتما له وظهرتما وكشفتما له عداوتكما وغلكما حتى بلغتما منه مناكما. فخذ حذرك يا ابن أبي بكر فستري وبال أمرك. وقس شبرك بفترك كقصر عن أن تساوي أن توازي من يزن الجبال بحلمه. ولا تلين على قسر قناته.

ولا يدرك ذو مدى أناته. أبوك مهد له مهاده وبنى ملكه وشاده. فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أولى. وإن يكن جورا فأبوك أسه ونحن شركاؤه. فبهديه أخذنا وبفعله اقتدينا ورأينا أباك فعل ما فعل فاحتذينا مثاله واقتدينا بفعاله. فعتب أباك بما بدا لك. أو دع. والسلام على من أناب ورجع من غوايته وناب " (2).

إن سياسة معاوية التي اعتمدها ليشكك بها في مناقب أمير المؤمنين علي.

لم تقف عند التشكيك والمتاجرة بحرب الجمل وإنما اندفعت نحو الخلافة لتسجل على أمير المؤمنين أي اعتراض يخدم القاسطين في بلوغ أهدافهم.

وعندما أدلى محمد بن أبي بكر بدلوه رغبة منه في الاصلاح. كانت رسالة معاوية التهديدية إليه. فمعنى الرسالة: أنك إذا تكلمت مس جذورك ما تقول. وما تقوله لن يبطل دم عثمان وستهتف الجماهير بالقصاص تكلمت أو صمت، ولن تجد الجماهير بديلا عن اختيار المسلمين لأنفسهم.

ولكن محمد بن أبي بكر تكلم بدليل أن خطابه وخطاب معاوية إليه بين أيدينا في أكثر من مصدر. ولقد ظهرت في الساحة قبل وبعد صفين أحاديث وأسئله حائرة. جاءت نتيجة لسياسة معاوية الإعلامية في هذا الباب. وما كان لهذه الأسئلة أن تطرح في هذا الوقت العصيب الذي يبحث فيه الإمام عن وحدة

____________

(1) أي قومها وأظهرها.

(2) ابن أبي الحديد 632 / 1.

الصفحة 59
الأمة. لولا أن معاوية فتح لها الباب بغية أن تصب نتائجها المرجوة في سلته.

ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن. صحيح أن هناك من هاجر إلى معاوية وكان الدافع إلى هجرتهم الحصول على الأموال. وليس الاقتناع بما يقول، ولكن الأهم أن أهل البصائر فارقوه بعد أن عرفوه. يقول أمير المؤمنين له في رسالة أثناء تلك الحملة الإعلامية: وأرديت (1) جيلا من الناس كثيرا (2).

خدعتهم بغيك (3). وألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظلمات. وتتلاطم بهم الشبهات. فجاروا (4). عن وجهتهم (5). ونكصوا على أعقابهم. وتولوا على أدبارهم. وعولوا على أحسابهم (6). إلا من فاء من أهل البصائر. فإنهم فارقوك بعد معرفتك. وهربوا إلى الله من موازرتك. إذ حملتهم على الصعب. وعدلت بهم عن القصد، فاتق الله يا معاوية في نفسك. وجاذب الشيطان قيادك. فإن الدنيا منقطعة عنك. والآخرة قريبة منك " (7).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net