متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
6 - مشاهد من ميدان القتال
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

6 - مشاهد من ميدان القتال:

لقد كان هناك من خذل الإمام من البداية، عندما علموا أن الأمر سيكون لمعاوية في النهاية. وكان هناك أيضا الذين علموا بنهاية الإمام ولكنهم أخذوا بالأسباب نحو الحياة الكريمة. ومنهم من كان يعلم أن الفئة الباغية ستقتله في هذه المعركة لا محالة، ولكن لم يمنعه ذلك من أن يسير وراء أمير المؤمنين.

باختصار: كان هناك من يأخذ بالأسباب لينظر الله إلى عمله وهو يسير نحو

____________

(1) راجع بحوثنا في المسيح الدجال وصدر منها خمس بحوث.

(2) سورة آل عمران: الآية 7.

الصفحة 86
غايته. أما نتيجة هذا العمل فعند الله أمرها.

  • من هؤلاء (يزيد بن قيس الأرجي):

    لقد حرض الناس فقال: إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا امتناه. وإن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا، ليكونوا جبابرة فيها ملوكا. فلو ظهروا عليكم لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا. ألزموكم بمثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه الضال. يجيز أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجده، يقول هذا لي ولا إثم علي. كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمه، وإنما هو مال الله عز وجل، أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا. فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا يأخذكم في جهادهم لوم لائم. ثم فإنهم ما ازدادوا إلى يومهم إلا شرا (1).

  • ومنهم (عبد الله بن بديل):

    قال في الناس: إلا أن معاوية ادعي ما ليس أهله، ونازع هذا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب قد زين لهم الضلالة وزرع في قلوبهم حب الفتنة. وليس عليهم الأمر، وزادهم رجسا إلى رجسهم، وأنتم على نور من ربكم، وبرهان مبين. فقاتلوا الطغاة الجفاة ولا تخشوهم. فكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب الله عز وجل طاهرا مبرورا؟ " أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين "، وقد قاتلناهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، وهذه ثانية، والله ما هم في هذه بأتقى ولا أزكي ولا أرشد قوموا إلى عدوكم، بارك الله عليكم، فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه (2).

    وروي: كان على عبد الله بن بديل بصفين ومعه سيفان فكان يضرب

    ____________

    (1) الطبري 10 / 6، الكامل 152 / 3.

    (2) الطبري 9 / 6، الكامل 151 / 3، الإصابة 40 / 4.

    الصفحة 87
    أهل الشام وهو يقول:

    لم يبق إلا الصبر والتوكل * ثم التمشي في الرعيل الأول
    مشى الجمال في حياض المنهل * والله يقضي ما يشاء ويفعل (1)

    وروي أن الصحابي الجليل عبد الله بن بديل هو ونفر من أصحابه على الموت، فاقتحم هو وأصحابه قبة معاوية وكان عدد أصحابه بين المائتين والثلثمائة. وعندما أرسل إليه الأشتر أن يقاتل بين الناس لأن في هذا بقاء له ولأصحابه أبى. وانطلق نحو معاوية وكان حول معاوية رجال كالجبال يقول الطبري: كان في يده سيفان وخرج أمام أصحابه. فأخذ كلما دنا منه رجل ضربه فقتله حتى قتل سبعة، ودنا من معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحبط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتى قتل وقتل ناس من أصحابه ورجعت طائفة (2).

  • ومنهم (أويس بن عامر القرني):

    أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون حجة على التابعين كي ينصروا عليا، روي الإمام مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن خير التابعين رجل يقال له أويس " (3)، وقال الحاكم: أويس لم يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره رسول الله ودل على فضله (4)، وقال النووي: هو من دلائل النبوة لأنه أخبر عن اسمه واسم أبيه ونعته وقبيلته، وإنه يجتمع بعمر، وكل ذلك غيب، فكان ذلك. ولفظ مسلم " يأتي عليكم أويس بن عامر مع إمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، وكان به برص. فبرأ منه إلا موضع الدرهم. له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره... "، وقال لعمر:

    ____________

    (1) الإصابة 40 / 4.

    (2) الطبري 13 / 6.

    (3) مسلم في فضل أويس (الصحيح 95 / 16).

    (4) الحاكم (المستدرك 402 / 3).

    الصفحة 88
    " فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " (1).

    وعندما التقى بعمر قال له عمر: لا تفارقني. فأملس منه (2)، وكان عمر قد سأله: أين تريد؟ قال: الكوفة. فقال عمر: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك. قال: لا. أكون في غبراء الناس أحب إلى (3).

    وعن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي وأكثر من ربيعة ومضر. قال الحسن: إنه أويس.

    وقال أبو بكر بن عياش: قلت لرجل من قوم أويس بأي شئ بلغ هذا؟ قال:

    فضل الله يؤتيه من يشاء (4)، وظل أويس في الكوفة زاهدا في عالم اكتنز الذهب والفضة، وجارت فيه الولاة، وفي عهد علي خرج الزاهد ليقف تحت لواء سيد الزاهدين، عن الأصبغ بن نباته قال: شهدت عليا يوم صفين وهو يقول: من يبايعني على الموت! فبايعه تسع وتسعون. فقال علي: أين التمام؟ أين الذي وعدت به؟ فجاء رجل عليه أطمار صوف. محلوق الرأس فبايعه على الموت والقتل. فقال: هذا أويس القرني، فما زال يحارب بين يديه حتى قتل (5).

    وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادي رجل من أهل الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من خير التابعين أويس القرني (6). وهكذا كان أويس حجة على نهاية جيل وبداية جيل آخر. وروى الإمام الحاكم: لما كان يوم صفين. نادي مناد من أصحاب معاوية: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم.

    فضرب دابته حتى دخل معهم. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ____________

    (1) مسلم (الصحيح 95 / 16)، (كنز العمال 75 / 12).

    (2) أي تخلص وأفلت (كنز العمال 4 / 14).

    (3) رواه مسلم وابن سعد وأبو عوانة وأبو يعلى وأبو نعيم والبيهقي والروباني (كنز العمال 4 / 14).

    (4) الحاكم (المستدرك 405 / 3).

    (5) الحاكم (المستدرك 403 / 3).

    (6) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (الفتح 445 / 22).


    الصفحة 89
    وسلم يقول: خير التابعين أويس القرني (1).

    إن كان ورقة تسقط علمها عند الله، وكل خطوة في حركة التاريخ عليها حجة من الله، وما من بصمة إلا ولها جذور، وما خلق الله شيئا إلا لهدف.

    وعلى امتداد أيام صفين ضرب الزاهد بسيفه فماذا كان يريد هذا الزاهد؟ وما معنى أن الله سبحانه يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الزاهد ومكانته؟

    وما المقصود من وراء هذا؟ ولماذا قاتل مع علي بالذات؟ وما هي أهدافهما؟ إن هذه أسئلة وغيرها يتركها الباحث دون إجابة لمن أراد أن يتفكر ويتدبر.

    والآن كيف كانت نهاية هذا المقاتل الزاهد؟ يقول ابن حجر في حديث صحيح الإسناد، نادى منادي علي: يا خيل الله اركبي وابشري، قصف الناس، فانتضى أويس سيفه حتى كسر جفنه فألقاه، ثم جعل يقول:

    يا أيها الناس تموا تموا ليتمن وجوه، ثم ينصرف حتى يرى الجنة.

    فجعل يقول ذلك ويمشي. حتى إذا جاءته رمية فأصابت فؤاده فقتل (2)، وعن يحيى بن معين قال: قتل أويس القرني بين يدي علي بن أبي طالب يوم صفين (3).

    ويبدو أن وجود أويس في معسكر علي بن أبي طالب لم يرق للبعض وفقا لأمور سياسة غير خافية. وكان العلماء يخافون من الحكام. يقول النووي في حديث " خير التابعين أويس "، هذا صريح في أنه خير التابعين. وقد يقال: قد قال أحمد بن حنبل وغيره. أفضل التابعين سعيد بن المسيب. والجواب: إن مرادهم أن سعيدا أفضل في العلوم الشرعية. كالتفسير والحديث والفقه. لا في الخير عند الله!!؟ (4). وقال ابن الصلاح: حديث خير التابعين قاطع للنزاع.

    ولكن في رأي السخاوي. إن تفضيل أحمد لابن المسيب، لعله أراد الأفضلية في

    ____________

    (1) الحاكم (المستدرك 402 / 3) وابن سعد (الخصائص الكبرى 220 / 2).

    (2) الإصابة 117 / 1.

    (3) الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 402 / 3).

    (4) النووي شرح مسلم (الصحيح 95 / 16).

    الصفحة 90
    العلم لا الخيرية (1). وهكذا اختلفوا مع وجود نص صريح، كما اختلفوا من قبل في مولى المؤمنين.

    وربما يعود ذلك إلى الخوف والله أعلم. أما اختيار سعيد بن المسيب. فإن لابن المسيب تاريخه الذي لا ينكره عليه باحث. ولكن هذا الاختيار يقتضي أن ننظر في الأحداث بجملتها. وابن المسيب عندما سمع من عامر بن سعد حديث " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لم يطمئن وذهب بنفسه إلى سعد وراجعه فأقسم له سعد أنه سمعه من رسول الله (2)، وابن المسيب عندما يتأكد بنفسه من صحة حديث. فلا غبار على هذا، ولكن ابن أبي الحديد قال وهو يتحدث عن المنحرفين عن علي بن أبي طالب " وكان سعيد بن المسيب منحرفا عن علي " (3).

    وقتل أويس بن عامر القرني بين يدي علي بن أبي طالب، وهو يأخذ.

    بأسباب الحياة الكريمة. وبعد قتل أويس ازدادت المعركة ضراوة، واقتتلوا كأشد القتال، وكثرت القتلى بينهم. وتحاجزوا عند الليل.

  • ومنهم (عمار بن ياسر):

    ولقد ذكرنا ما ورد فيه على امتداد هذا البحث، فعمار كان الميزان على امتداد معارك أمير المؤمنين. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي عندما ذكر عمار: أما أنه سيشهد معك مشاهد أجرها عظيم، وذكرها كثير، وثناؤها حسن " (4)، وكان عمار حجة على الذين انحرفوا عن أمير المؤمنين أو اعتزلوه في وقت لا يجب فيه الاعتزال. روي أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال: إن الله قد أمننا أن يظلمنا ولم يؤمنا أن يفتننا.

    أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع. قال: عليك بكتاب الله. فقال: أرأيت أن

    ____________

    (1) تبسيط علوم الحديث / المطيعي ص 203.

    (2) رواه مسلم (الصحيح 174 / 15).

    (3) ابن أبي الحديد 809 / 1.

    (4) رواه أبو نعيم (كنز العمال 723 / 11).

    الصفحة 91
    جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق (1). ومن قبل رأينا كيف أوصى حذيفة بالتزام عمار. والنبي صلى الله عليه وسلم وضع حول عمار مناقب لهدف حتى لا يكون للناس حجة في عدم التزام علي والقتال تحت رايته.

    وعمار، كما ورد في البخاري، أجاره الله من الشيطان " (2)، وكما ورد عند الإمام أحمد: " ما عرض عليه أمران قط إلا اختار الأرشد منهما " (3)، وأيضا:

    " من عادي عمار عاداه الله " (4). وكما ورد عند البزار والطبراني: " أبو اليقظان على الفطرة لا يدعها حتى يموت " (5)، وكما ورد عن ابن عساكر: عمار خلط الله والإيمان ما بين قرنه إلى قدمه وخلط الإيمان بلحمه ودمه يزول مع الحق حيث زال. وليس ينبغي للنار أن تأكل منه شيئا " (6).

    وعمار عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعهد قال له: يا عمار إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع علي ودع الناس.

    إنه لن يدلك على ردي ولن يخرجك من الهدى (7).

    وعندما حدد النبي صلى الله عليه وسلم الراية والدليل قال: أبشر يا

    ____________

    (1) ابن كثير وقال رواه ديزيل (البداية 296 / 7)، والطبراني (كنز العمال 721 / 11).

    (2) البخاري (الصحيح 305 / 2) في فصل عمار.

    (3) أحمد والحاكم والترمذي وصححه (الفتح الرباني 330 / 22)، (الجامع 668 / 5).

    المستدرك 388 / 3).

    (4) أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (الفتح 329 / 22)، (الزوائد 293 / 9) وابن عساكر والطبراني وابن حبان وابن أبي شيبة بلفظ آخر (كنز العمال 533 / 13، 722، 726 / 11) والحاكم (المستدرك 389 / 3).

    (5) البزار والطبراني ورجالهم ثقات (الزوائد 295 / 9).

    (6) ابن عساكر (كنز العمال 72 / 11).

    (7) الديلمي (كنز العمال 614 / 11).

    الصفحة 92
    عمار تقتلك الفئة الباغية " (1).

    والقتل لم يكن من أجل القتل، ولكن لكل قتل أسبابه، ويمكن ملاحظة هذه الأسباب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (2)، ثم يتعدى التحذير أرض المعركة ويشمل مساحة أوسع وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: " ستقتلك الفئة الباغية وأنت مع الحق. فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " (3).

    هذا هو عمار، جندي علي بن أبي طالب! فماذا قال عمار على أرض صفين؟

    روي أن عمارا خرج إلى الناس فقال: اللهم إنك تعلم إني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته - اللهم إنك تعلم أني لو أعلم رضاك في أن أضع ظبة سيفي في صدري، ثم انحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ولو أعلم أن عملا من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته.

    وقال عمار: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبتغون دم ابن عفان ويزعمون أنه قتل مظلوما. والله ما طلبتهم بدمه. ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرؤها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم. ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم. فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوما. ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا. وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون. ولولا هي ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت. وإن تجعل لهم الأمر. فادخر لهم بما

    ____________

    (1) الترمذي وصححه (الجامع 679 / 5).

    (2) أحمد والبخاري وابن عساكر والطبراني (الفتح الرباني 331 / 22)، (كنز العمال 722، 724 / 11).

    (3) ابن عساكر (كنز العمال 351 / 11).

    الصفحة 93
    أحدثوا في عبادك العذاب الأليم (1)، وروي أن عمارا شاهد عمرو بن العاص في أرض المعركة فقال: يا أهل العراق أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله، وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين؟ فلما رأى الله عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم. وهو فيما نرى راهب غير راغب، ثم قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فوالله إنه زال بعده معروفا بعداوة المسلم وهوادة المجرم، فاثبتوا له وقاتلوه، فإنه يطفئ نور الله ويظاهر أعداء عز وجل (2)... وعندما سمع ابن العاص هذا زال وذهب يبحث له عن خدعة يختفي ورائها من هذا العار.

    وروي أن قيسا بن عبادة قال لعمار: أرأيت قتالكم رأيا رأيتموه، فإن الرأي يخطئ ويصيب أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمار: " ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة ". أي أن تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص قتال البغاة مع علي بن أبي طالب لم تكن لفئة دون فئة، ولكن لأمر شمل الناس كافة. ثم انتقل وهو يجيب قيس إلى أمر آخر فقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة (3) سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم في صدورهم " (4).

    ولا ندري ما هو الدافع الذي جعل عمار يذكر المنافقين في هذا الموضع؟

    ومن المعروف أن عمارا وحذيفة كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك. يوم أن أرادت تيارات الهدم والتخريب أن يغتالوا النبي صلى الله عليه وسلم

    ____________

    (1) الطبري 21 / 6 ذ، الكامل 157 / 3، البداية والنهاية 267، 292 / 7.

    (2) الطبري 7 / 6، الكامل 150 / 3.

    (3) الدبيلة / نار تظهر في أكتافهم.

    (4) مسلم كتاب صفات المنافقين (الصحيح 124 / 17) أحمد (الفتح الرباني 140 / 23) وابن عساكر (كنز العمال 351 / 11).


    الصفحة 94
    فقيس حدث عمارا عن القتال. أهو من الرأي أم فيه عهد؟

    فأجاب عمار على السؤال. ثم تحدث عن جماعة التخريب وهو لم يسأل عنها.

    فهل يا ترى سقط السؤال من الناسخ؟ أم أن عمارا له مقصود خفي علينا وظهر لقيس. أم أن عمارا كان يقصد شيئا لا يعلمه إلا الله عز وجل؟

    وروي أن عمارا قال وهو يشير إلى راية معاوية: لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. وهذه الرابعة (1). ما هي بأبر ولا أتقي (2). وقال: فالذي نفسي بيده لو ضربونا حي يبلغوا بنا سعفات هجر، لعرفت أن مصلحينا على الحق وأنهم على الضلالة - وفي رواية - لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل (3)، وروي أن رجلا جاء إلى معسكر عمار فقال: أيكم عمار بن ياسر؟ فقال عمار: أنا عمار، قال: أبو اليقظان؟

    قال: نعم. قال: إن لي إليك حاجة. أفأنطق بها سرا أو علانية؟ قال: اختر لنفسك أيهما شئت. قال: لا بل علانية، قال: فانطق (4)... ثم بدأ الرجل يتحدث عن حاله في القتال، وأنه قد دخله الشك في صحة هذا القتال. لأن الأطراف يصلون صلاة واحدة ويقرؤون كتابا واحدا، وإنه ذهب إلى علي بن أبي طالب فذكر له ذلك فقال له: لقد لقيت عمار بن ياسر؟ فقال الرجل: لا، فقال له أمير المؤمنين: فألقه. فانظر ماذا يقول لك عمار فاتبعه. وأخبر الرجل عمارا بأنه جاءه لذلك.

    " فقال عمار: أتعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي؟ فإنها راية عمرو بن العاص. قاتلتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات

    ____________

    (1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7) وابن سعد (الطبقات 253 / 3).

    (2) الطبري 22 / 6.

    (3) رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح الرباني 141 / 23) والحاكم وصححه (المستدرك 384 / 3) البداية والنهاية 267 / 7، الطبري 21 / 6، مروج الذهب 422 / 2، ابن أبي الحديد 260 / 2 الطبقات الكبرى 257 / 3.

    (4) ابن أبي الحديد 260 / 2.

    الصفحة 95
    وهذه الرابعة. فما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن. ثم قال عمار للرجل: أشهدت بدرا وأحدا ويوم حنين؟ أو شهدها أب لك فيخبرك عنها؟

    قال: لا. قال: فإن مركزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين. وإن مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب. فهل ترى هذا العسكر ومن فيه؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا. مفارقا للذي نحن عليه. كانوا خلقا واحدا فقطعته وذبحته. والله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور. أفترى دم عصفور حراما؟ قال: لا. بل حلال. قال: فإنهم حلال كذلك. أتراني بينت لك؟ قال: قد بينت لي. قال فاختر أي ذلك أحببت.

    فانصرف الرجال. فدعاه عمار ثم قال: أما أنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا: لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا. والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر. لعلمنا أنا على حق. وإنهم على باطل.

    وروي: جاء رجل إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء القوم الذي نقاتلهم، الدعوة واحدة، والرسول واحد، والصلاة واحدة، والحج واحد فماذا نسميهم؟ قال: سمهم بما سماهم الله في كتابه. قال: ما كل ما في الكتاب أعلمه. قال: أما سمعت الله تعالى يقول: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) - إلى قوله - (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) (1). فلما وقع الاختلاف. كنا نحن أولى بالله. وبالكتاب وبالنبي وبالحق. وهم الذين كفروا وشاء الله قتالهم. فقاتلهم بمشيئته وإرادته (2).

    لقد كان عمار يقاتل وهو يعلم أن نتيجة القتال في نهاية المعركة ستكون لصالح معاوية، وكان يعلم أنه مقتول لا محالة بين صفين في هذه المعركة.

    ____________

    (1) سورة البقرة: الآية 253.

    (2) ابن أبي الحديد 260 / 2.

    الصفحة 96
    وبالرغم من ذلك كان يأخذ بأسباب الحياة الكريمة. لينظر الله إلى عمله وماذا يفعل ابتغاء مرضاته تعالى. كان يقول: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أقتل بين صفين (1). وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن " (2). وروي أن عمارا تقدم وقد جنحت الشمس للغروب، ومعه ضح من لبن ينتظر غروب الشمس أن يفطر، فقال غربت الشمس وشرب الضح: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آخر زادك من الدنيا ضح من اللبن (3)، وكان عمار يتذكر هذا على امتداد أيام صفين، وتقدم عمار فقاتل ثم رجع.

    وفي اليوم رجع عمار إلى موضعه فاستسقي. فأتته امرأة من نساء بني شيبان من مصافهم بعس فيه لبن. فدفعته إليه. فقال: الله أكبر الله أكبر، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة، صدق الصادق. وبذلك أخبرني الناطق. وهو اليوم الذي وعدت فيه. ثم قال: أيها الناس. هل من رائح إلى الله تحت العوالي (أي تحت الرماح) والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله.

    وتقدم وهو يقول:

    نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله
    ضربا يزيل الهام عن مقيله (4) * ويذهل الخليل عن خليله

    أو يرجع الحق إلى سبيله (5).

    وروي أن الذي سقاه هو أبو المخاريق (6)، وأنه بعد أن شرب اللبن نادي:

    ____________

    (1) رواه البزار وإسناه حسن (الزوائد 365 / 9) وابن عساكر عن مولاة عمار (كنز العمال 531 / 13).

    (2) رواه أحمد (الزوائد 243 / 7) والحاكم (المستدرك 385 / 3) والطبراني (الزوائد 296 / 9)، البداية والنهاية 268 / 7، ابن أبي الحديد 810 / 2.

    (3) الحاكم (385 / 3 المستدرك).

    (4) المقيل / الموضع ومكان القيلولة.

    (5) مروج الذهب 422 / 2، ابن أبي الحديد 810 / 2.

    (6) الطبري (الزوائد 243 / 7).

    الصفحة 97
    إني لقيت الخيار وتزوجت الحور العين. اليوم نلقى الأحبة محمدا وحزبه (1).

    وروى عن سعيد بن عبد العزيز أن عمار بن ياسر أقسم يوم أحد فهزم المشركون، وأقسم يوم الجمل فغلبوا أهل البصرة، وقيل له يوم صفين لو أقسمت. فقال: لو ضربونا بأسيافهم حتى نبلغ سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل، فلم يقسم. وروي أنه قال يوم أحد.

    أقسمت يا جبريل ويا ميكائيل * لا يغلبنا معشر الضلال
    أنا على الحق وهم جهال

    ثم انطلق حتى خرق صف المشركين (2)، كان يعلم يوم صفين بأنهم سيتراجعوا عن مواقعهم وعبر عن ذلك بقوله: " لو ضربونا حتى نبلغ سعفات هجر "، ولكن النصر عند عمار لم يكن بامتلاك الأرض، وإنما بالمبادئ التي يحاربون عليها ومن أجلها، النصر بالأخلاق وفي الأخلاق، والباطل لا يمكث في الأرض وإن طالت الليالي. لأن الباطل طارئ لا أصالة فيه، والباطل مطارد من الله، ولا بقاء لشئ يطارده الله. كان عمار يعلم أنه في موقع المنتصر على الرغم من أن الموت قريب منه. فبالقرب من عمار وقف أبو الغادية قاتل عمار.. يقول أبو الغادية: كنا نعد عمارا من خيارنا، حتى سمعته يوما في مسجد قباء يقع في عثمان، فلو خلصت إليه لوطئته برجلي، فما صليت بعد ذلك صلاة إلا قلت: اللهم لقني عمارا (3). كان أبو الغادية يراقب عمارا، وكان عمار ينادي صاحبه هاشم بن عتبة: يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه (4). وتقدم عمار وهاشم، يقول أبو الغادية: فلما كان يوم صفين.

    جعل عمار يحمل على الناس. فقيل: هذا عمار، فرأيت فرجة بين الرئتين وبين

    ____________

    (1) رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات (الزوائد 296 / 9)، ابن أبي الحديد 810 / 2.

    (2) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 395 / 9).

    (3) رواه أحمد والطبراني (الزوائد 298 / 9).

    (4) الطبري 23 / 6.

    الصفحة 98
    الساقين. فحملت عليه فطعنته في ركبته فوقع فقتلته (1)، وفي رواية الإمام أحمد: فاختلفت أنا وهو ضربتين، فبدرته فضربته فكبا لوجهه ثم قتلته (2).

    وهكذا قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه، وكان يوم صفين شيخا كبيرا، يقول عبد الله بن سلمة: رأيت عمارا يوم صفين شيخا كبيرا آدم طوالا. أخذ الحربة بيده ويده ترعد ويقول: والذي نفسي بيده لقد قاتلت هذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة (3).

    وبعد قتل عمار ظهر على الساحة لأول مرة " فقه البغاة " والعمود الفقري لهذا الفقه، إن الأمير إذا أمر بالسرقة أو بالقتل. فعند ظهور الضحية فإن الفاعل لن يكون الأمير بأي حال ربما يكون أقل جندي في قواته، وربما يكون بواب رواقه. وعلى سبيل المثال، لقد قتل النظام الحسين بن علي، ولكن النظام لم يظهر على امتداد التاريخ، وإنما ظهر ذو الجوشن الذي نفذ الخطة. ومن قبل الحسين ارتكبت جرائم عديدة كقتل حجر بن عدي واجتياح المدينة، وكل هذا فعله جندي من الجنود، أما أمير القوم فلم يكن يدري لأنه وقتئذ كان مشغولا بالصلاة.

    روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان يقاتل يوم صفين ومعه سيفان (4)، روي أنه قال لأبيه: يا أبت قتلتم هذا الرجل في يومكم، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. ألم تكن معنا يوم أن آتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: " ويحك تقتلك الفئة الباغية "؟ فدفع عمرو صدر فرسه. ثم جذب معاوية إليه. وأخبره بما يقول عبد الله فقال معاوية: إنك شيخ أخرق. ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض

    ____________

    (1) ابن سعد (الطبقات 261 / 3).

    (2) رواه الطبراني وأحمد وقال الهيثمي رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح (الزوائد 298 / 9).

    (3) البداية والنهاية 292 / 7.

    (4) أسد الغابة 351 / 3 وروي أنه ندم بعد ذلك وكان يقول: ما لي ولصفين.

    الصفحة 99
    في بولك. أو نحن قتلنا عمارا. من جاء به؟ (1)، وفي رواية عند الإمام أحمد قال معاوية: أو نحن قتلناه. إنما قتله علي وأصحابه. جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا (2)، ثم خرج عمرو بن العاص ليؤصل هذا الفقه العميق فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن قاتله وسالبه في النار ". فقيل لعمرو: فإنك هوذا تقاتله، فقال: إنما قال قاتله وسالبه) (3).

    فقه واسع عميق. وروي أن ذا الكلاع سمع عمرو وهو يحدث معاوية بحديث: تقتله الفئة الباغية، فكان ذو الكلاع يقول: ويلك! ما هذا يا عمرو.

    وشاءت الأقدار أن يقتل ذو الكلاع في المعركة. فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا. بقتل عمار أو ذي الكلاع. والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لأفسد علينا جندنا (4).

    وروي أن عمارا لما قتل قال أمير المؤمنين علي لربيعة وهمدان. أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفا، وتقدمهم علي - فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إليه. ثم نادي أمير المؤمنين وقال: يا معاوية علام تقتل الناس بيننا؟

    هلم أحاكمك إلى الله. فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو لمعاوية: أنصفك الرجل. فقال معاوية: ما أنصفت. وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله. قال له عمرو: وما يجمل بك إلا مبارزته، فقال معاوية:

    طمعت فيها بعدي (5).

    وعندما رفض معاوية مبارزة أمير المؤمنين، لأنه يعلم منه ما علم، ولأنه

    ____________

    (1) الطبري 23 / 6.

    (2) رواه أحمد والحاكم وأقره الذهبي (الفتح الرباني 143 / 23) وقال الهيثمي رواه الطبراني وأحمد وأبي يعلى والبزار ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات (الزوائد 241، 242 / 7).

    (3) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 143 / 23)، (الزوائد 241 / 7)، وابن عساكر (كنز العمال 532 / 13).

    (4) البداية والنهاية 293 / 7.

    (5) الطبري 23 / 6، البداية 272 / 7، الكامل 158 / 3، مروج الذهب 428 / 2.

    الصفحة 100
    علم أنه لا يجلس على أرضية الطمع وحده وإنما يشاركه فيها ابن العاص. اشتد القتال. وقتل في ذلك اليوم صفوان وسعد ابنا حذيفة بن اليمان. وقد كان حذيفة قد قال لابنيه: كونا مع علي، فستكون له حروب كثيرة، فيهلك فيها خلق من الناس. فاجتهدا أن تستشهدا معه، فإنه والله على الحق، ومن خالفه على الباطل (1). وقتل في هذا اليوم هاشم بن عتبة الذي كان عمار يناديه: يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف (2).

    لقد قدمنا هنا بعض المشاهد على أرض صفين. يوم أن أخبر الإمام بأنه مقتول وأن معاوية سيملك ما تحت قدمه. ففي هذا اليوم أراد بعض الناس الدنيا فكاتبوا معاوية سرا. وأراد البعض الآخر الآخرة فقاتلوا وقتلوا رغم علمهم مقدما بما سيسفر عنه القتال في النهاية.


  •  شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

    إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net