متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
7 - عندما اتخذوا المصاحف جدارا
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

7 - عندما اتخذوا المصاحف جدارا!

بعد قتل عمار اشتعلت المعركة اشتعالا. وكان عمار لا يأخذ واديا من أو دية صفين إلا اتبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3). وروي عن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما زال جدي - يعني خزيمة - كافا سلاحه يوم الجمل حتى قتل عمار بصفين، فسل سيفه فقاتل حتى قتل. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية. فعندما قتل عمار بد أن ضربات الصحابة فيما سمي في التاريخ:

" ليلة الهرير " والهريز: صوت القوس. وصوت الكلب دون نباح.

يقول المسعودي: اختلط الناس، وبطل النبل، واستعملت السيوف، وجنهم الليل، وتنادوا بالشعار (أي الكلمة السرية المتفق عليها) وتقصفت الرماح. وتكادم القوم (أي آثروا العص) وكان يعتنق الفارس الفارس ويقعان إلى

____________

(1) مروج الذهب 425 / 2.

(2) البداية والنهاية 270 / 7.

(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 142 / 23).

الصفحة 101
الأرض عن فرسيهما. وكان جملة من قتل علي بن أبي طالب في يومه وليلته خمسمائة وثلاثة وعشرون رجلا، أكثرهم في هذا اليوم، وكان علي إذا قتل رجل كبر إذا ضرب. ولم يكن يضرب إلا قتل (1).

وكان هذا اليوم للأشتر فيه نصيب كبير وروي أنه أنشد:

إن تقتلوا منا أبا * اليقظان شيخا مسلما
فقد قتلنا منكم * سبعين رأسا مجرما
أضحوا بصفين وقد * لاقوا نكالا مؤلما (2)

وكان الأشتر يحرض الناس على امتداد أيام صفين ويقول: إن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم ليميتوا السنة: ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة. فطيبوا عباد الله أنفسا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله والله عنده جنات النعيم. وإن الفرار من الزحف فيه السلب للعز والغلبة على الفئ وذل المحيا والممات، وعار الدنيا والآخرة (3).

وفي ليلة الهرير كان الأشتر يضرب ضرباته بكل قوة حتى اخترق صفوف أهل الشام. وأجري حولهم عمليات الالتفاف والتطويق. يقول ابن كثير: حمل الأشتر على أهل الشام وتبعه علي. فتنقضت غالب صفوفهم، وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح (4).

وخدعة رفع المصاحف أرست فيما بعد قاعدة المتاجرة بالشعار والشراء به ثمنا قليلا، وإذا كان الخوارج قد تاجروا بالدين بعد ذلك، فلا يمكن لباحث أن يهمل أول باب تم عنده المتاجرة بالكتاب على نطاق واسع. فالخوارج دخلوا من باب صفين بصورة من الصور، وكان ابن العاص صاحب فكرة رفع الشعار. ولم تأت الفكرة عشوائيا دون تجهيز وإعداد. فالقوم كانوا يعرفون من يواجهون -

____________

(1) مروج الذهب 431 / 2.

(2) مروج الذهب 432 / 2.

(3) الطبري 12 / 6.

(4) البداية والنهاية 273 / 7.

الصفحة 102
والروايات الكثيرة تثبت أنهم كانوا يتجنبون ملاقاة أمير المؤمنين في المعركة.

لهذا جرى الإعداد على قدم وساق لضرب القاعدة بعد أن قتل العديد من الصحابة الأجلاء الذين كانوا يمثلون العمود الفقري لجيش الإمام. فشق الصف هو المنفذ الوحيد لخروجهم من المعركة والسعي بعد ذلك في طريق الفتنة للوصول إلى الكرسي. وكان المصحف وسيلتهم الوحيدة في ذلك. فرفع الكتاب وطلب التحكيم سيؤدي إلى وجود مؤيد ومعارض داخل معسكر الإمام. فالمؤيد سيكون من بين الذين يحكمون عواطفهم في الأمور ولا يفهمون من الدين إلا القليل، أو من الذين يكاتبونهم سرا. وفي جميع الحالات فإن رفع المصاحف سيكون انتصار للإعلام الأموي أمام العامة الذين شربوا مقولة أن جيش الإمام لا يصلي فكيف بهم إذا أذيع عليهم أن الإمام رد المصحف.

لقد كان فقه الرمز يعمل من أجل إيجاد فترة زمنية. إما أن يهلك جيش الإمام بعضه بعضا فيها. وإما أن يستدرج إلى فخ التحكيم. فإذا رفض الإمام قرارات هيئة التحكيم فهو أمام العامة والغوغاء خارج عن القانون. وإذا قبلها كان الكرسي لمعاوية ويسحب بساط العلم بالتأويل من تحت الإمام. وبسحب هذا البساط ضاع الدين. وابن العاص عندما عرض خطته على معاوية لم يجعل العمود الفقري فيها النجاة من حصار الأشتر لمعسكر أهل الشام، وإنما كان العمود يقوم على اجتماع تيارهم وتشتيت معسكر الإمام. وروي أنه قال لمعاوية:

هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة. قال:

نعم، فقال: نرفع المصاحف. ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم. فإن أبى بعضهم أن يقبلها. وجدت فيهم من يقول: بل ينبغي أن نقبل. فتكون فرقة تقع بينهم. وإن قالوا: بلى نقبل ما فيها. رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين " (1).

وأقر معاوية الخطة. وخرج ابن العاص ليعلن سياسة الرمز، فقال: أيها الناس. من كان معه مصحفا فليرفعه على رمحه. ونادوا: كتاب الله بيننا وبينكم.

____________

(1) الطبري 26 / 6، الكامل 161 / 3، البداية والنهاية 273 / 7.

الصفحة 103
من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور العراق بعد أهل العراق. ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفار؟ (1).

يقول المسعودي: ورفع في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف، فلما رأى كثير من أهل العراق ذلك، قالوا: نجيب إلى كتاب الله. وقيل لعلي:

قد أعطاك معاوية الحق. ودعاك إلى كتاب الله فاقبل منه وكان أشدهم في طلب التحكيم الأشعث بن قيس (2)، وكان أمير المؤمنين يعلم أن القوم يسيرون في طريق أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم. لقد تم ابتلاؤهم والنصر على الأعتاب. لقد خيروا بين الشعار والشعور بالشعار. فاختاروا الشعار بلا شعور.

اختاروا الطريق الذي تسير فيه أكثر من سبعين فرقة وكل فرقة تدعي أنها على الشعار الحق. وهل الشعار إلا حقا محضا وأن الابتلاء لا يكون إلا في الشعور.

كان الإمام يعلم أن القوم قد اختاروا طريق اللادعوة، واللادعوة تعني اللاممارسة وهذا ينتهي إلى جحود الذين من قبلهم ليزاحموا أصحابها فيها، ويتبعونهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، ثم ينتهي بهم المطاف فيكونوا غثاء، رخيصا، تافها، لا قيمة له. في علم تقرقع فيه أنياب الحيتان. وفي هذا العالم يذوقوا الذل، أي ذل.

وأخذ الإمام بالأسباب كما علمه أستاذ البشرية محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم: عباد الله. امضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي السرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم. قد صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال. ويحكم أنهم ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها. وما رفعوها لكم إلا خدعة ومكيدة. قالوا: ما يسعنا أن ندعي إلى كتاب الله عز وجل فنأبى أن نقبله. فقال:

ويحكم. أنا أول من دعا إلى كتاب الله. وأول من أجاب إليه. وليس يحل لي، ولا يسعني في ديني أن أدعي إلى كتاب الله فلا أقبله. إني أقاتلهم ليدينوا

____________

(1) مروج الذهب 432 / 2، الطبري 26 / 6، ابن أبي الحديد 423 / 1.

(2) مروج الذهب 432 / 2.

الصفحة 104
بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله عز وجل فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه (1). فقالوا: يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إليه. وهددوه بالقتل إذا رفض إجابة الدعوة (2) فقال لهم: احفظوا عني نهي إياكم، واحفظوا مقالتكم لي. أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم (3).

لقد كان أمير المؤمنين أول حاكم تظلمه رعيته. فالحكام على امتداد التاريخ ليس لهم إلا أن يأمروا وعلى الرعية أن تنفذ. أما الإمام لأن له مهمة محددة لا يجوز له أن يجبر فردا على عمل ما، فهو فقيه وعلى علم بالطريق، وعلى امتداد هذا الطريق يسير بمصباحه. فمن أراد أن يتجنب الحفر على سنة الله ورسوله - فعليه بحامل المصباح. وعلى امتداد هذا الطريق عهد إليه بعهود. ومع كل عهد شروط تنفيذه. وأهم هذه الشروط أن يجتمع الناس حوله ليضرب بهم من صد عن طريقه... فإذا فقد هذا الشرط فعليه أن يقيم الحجة وفقا لحركة الدعوة وحركة الواقع.

وبعد رفع المصاحف ظلمت الرعية قائدها. وأصدرت إليه الأوامر: قالوا له: ابعث إلى الأشتر ليأتينك. وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله (4). وتدخل القوم في سير الأعمال العسكرية، يشير إلى أن عددهم وقوتهم ولم يكن من السهل تجاهلهم أو تجاهل خطرهم على باقي القوات فضلا على حركة الدعوة. ولقد روي أن الذين اعتزلوا بحروراء فقط كانوا اثنا عشر ألف مقاتل (5). وروي أن الإمام عندما بعث للأشتر أن يأتيه. قال الأشتر لمبعوث الإمام: ليس هذه الساعة، إني قد رجوت أن يفتح لي فلا

____________

(1) ابن أبي الحديد 426 / 1. الطبري 27 / 6، البداية والنهاية 298 / 7، مروج الذهب 433 / 2، الكامل 161 / 3.

(2) الطبري 27 / 6، البداية والنهاية 298 / 7، مروج الذهب 433 / 2، ابن أبي الحديد 426 / 1.

(3) الطبري 27 / 6، البداية والنهاية 299 / 7، ابن أبي الحديد 426 / 1.

(4) ابن أبي الحديد 426 / 1، الطبري 27 / 6، البداية 299 / 7.

(5) الطبري 35 / 6.

الصفحة 105
تعجلني. وعندما سمع القوم هذا ارتفع الهرج وعلت الأصوات، وقالوا للإمام:

ابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك. فبعث الإمام: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت. وجاء الأشتر فقال لهم: يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، حين علوتم القوم ظهرا، وظنوا أنكم لهم قاهرون. رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله عز وجل به فيها وسنة من أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم، فلا تجيبوهم إمهلوني عدو الفرس، فإني قد طمعت في النصر.

قالوا: إذا ندخل معك في خطيئتك، ثم قالوا: لقد قاتلناهم في الله عز وجل، وندع قتالهم لله سبحانه. إنا لسنا مطيعيك ولا صاحبك فاجتنبنا. فقال: خدعتم والله فانخدعتم. ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلواتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله عز وجل، فلا أري قراركم إلا إلى الدنيا من الموت إلا قبحا، يا أشباه النيب الجلالة. وما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمين، فسبوه وسبهم. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما (1).

وروي أن الإمام كان ساكتا لا يتكلم، ثم قام فسكت الناس كلهم. فقال:

لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة، وأسقطت منه، وأوهنت وأورثت وهنا وذلة، ولما كنتم الأعليين وخاف عدوكم الاجتياح واستحربهم القتل ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفثؤكم عنها ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم. ويتربصون ريب المنون خديعة ومكيدة. فأعطيتموهم ما سألوا. وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوزوا. وأيم الله ما أظنكم بعدها توافقون رشدا، ولا تصيبون باب خدم (2). وقال: أيها الناس. إن أمري لم يزل معكم على ما أحب. إلى أن أخذت منكم الحرب. وقد والله أخذت منكم وتركت. وأخذت من عدوكم فلم تترك. وإنها فيهم أنكى وأنهك. ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا. وقد أحببتم البقاء. وليس

____________

(1) الطبري 28 / 6، الكامل 161 / 3، ابن أبي الحديد 427 / 1، البداية 300 / 7.

(2) الطبري 31 / 6.

الصفحة 106
لي أن أحملكم على ما تكرهون ثم قعد (1).

وعندئذ بدأ نجم الأشعث بن قيس في الظهور. قال ابن أبي الحديد: كل فساد كان في خلافة أمير المؤمنين علي، وكل اضطراب حدث فأصله الأشعث (2). جاء الأشعث إلى أمير المؤمنين فقال: ما أرى الناس إلا قد رضوا، وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن. فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. قال: آته إن شئت. فآتاه. فسأله: يا معاوية لأي شئ رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فيها. فابعثوا رجلا منكم ترضونه، ونبعث منا رجلا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله ولا يعدواه، ثم نتبع ما اتفقنا عليه، فقال الأشعث: هذا هو الحق، وانصرف وأخبر أمير المؤمنين. واجتمع قراء الشام وقراء العراق. وقال أهل الشام: إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص. وقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد: قد رضينا نحن واخترنا أبا موسى الأشعري. فقال الإمام: فإني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه. فقال الأشعث ومن معه: إنا لا نرضى إلا به. قال الإمام: إنه ليس لي برضا. وقد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: والله ما نبالي. أكنت أنت أو ابن عباس. ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، وليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر. فقال أمير المؤمنين: فإني أجعل الأشتر. فقال الأشعث:

وهل سعر الأرض علينا إلا الأشتر. وهل نحن إلا في حكم الأشتر. قال أمير المؤمنين: وما الحكمة؟ قال: حكمة أن يضرب بعضنا بعضا بالسيف حتى يكون ما أردت وما أراد (3).

لقد كان الإمام يأخذ بأسباب الحياة الكريمة. فهو يعلم أن أبا موسى سيأتي لا محالة ليشارك في تحكيم الإمام يرفضه من البداية. وكان الإمام قد قال لأبي

____________

(1) ابن أبي الحديد 428 / 1، مروج الذهب 432 / 2.

(2) ابن أبي الحديد 468 / 1.

(3) الطبري 28 / 6، ابن أبي الحديد 433 / 1، الكامل 162 / 3، مروج الذهب 434 / 2.

الصفحة 107
موسى قبل موقعة الجمل: اعتزل عملنا يا ابن الحائك مذموما مدحورا. فما هذا أول يومنا منك. وإن لك فينا لهنات وهنيات (1)، وروي أن عمار بن ياسر قال لأبي موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعنك ليلة الجبل.

فقال أبو موسى: إنه قد استغفر لي. قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار (2)، وعندما هرب أبو موسى من علي بن أبي طالب قيل لعمار: قد هاجر أبو موسى، فقال عمار: والله ليخذلن جنده، وليفرن جهده، ولينقضن عهده (3). ثم أخبر عمار عن معركة صفين قبل وقوعها. فقال بعد أن سلط الضوء على أبي موسى: " والله إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب له المبطلون، والله لو قاتلوا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أن صاحبنا على الحق وهم على الباطل (4).

لقد قال لهم الإمام عندما قالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى، قال، ويحكم هو ليس بثقة. قد فارقني (5)! وقال لهم: قد عصيتموني في أول هذا الأمر. فلا تعصوني الآن. إني لا أرى أن أولي أبا موسى الأشعري. فقال الأشعث ومن معه: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري (6).

وانتهت المواجهة العسكرية بصفين بعد رفع المصاحف، وكان جملة من قتل من الفريقين جميعا سبعين ألفا. من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا، ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفا فيهم خمسة وعشرون بدريا. وقيل غير ذلك نظرا لأن في قتلى الفريقين من غرق ومن قتل في البر فأكله السباع.

فروي أن عدد القتلى مائة ألف وعشرة آلاف من أهل الشام تسعون ألفا.

____________

(1) مروج الذهب 396 / 2.

(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 608 / 13).

(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7).

(4) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7).

(5) مروج الذهب 434 / 2، الطبري 28 / 6، ابن أبي الحديد 433 / 1، الكامل 162 / 3.

(6) مروج الذهب 434 / 2، الطبري 28 / 6، ابن أبي الحديد 433 / 1، الكامل 162 / 3.

الصفحة 108
ومن أهل العراق عشرون ألفا (1). وروي أن مدة المقام بصفين كانت مائة يوم وعشرة أيام. وقال آخرون: كان سبعة أشهر. وقيل: تسعة أشهر. وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفا (2).

وعندما جاء أبو موسى ودخل المعسكر، قال الأحنف للقوم: لقد أبيتم إلا أبا موسى فادفئوا ظهره بالرجال. وجاء عمرو بن العاص ومن معه. جلس الطرفان. فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه. هو أميركم. فأما أميرنا فلا. قال أمير المؤمنين: الله أكبر سنة بسنة ومثل بمثل. والله إني لكاتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، إذ قالوا لست رسول الله ولا نشهد لك به. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فكتبه. فقال عمرو: سبحان الله. أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال علي: يا ابن النابعة. ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ فقام عمرو وقال: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم، فقال علي: وإني لأرجو أن يطهر الله عز وجل مجلسي منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب (3).

ولقد تحدثنا فيما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية كان قد أنذر قريش بأن لهم في المستقبل يوما يقاتلهم فيه رجلا امتحن الله قلبه بالإيمان، وهو خاصف النعل. وظل هذا الأمر في ذهن دائرة الاستكبار وتوارثوه وكانت حركتهم مرتبطة بما في دائرة ذهنهم.

وروى ابن أبي الحديد عن أبي إسحاق الشيباني قال: قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء. عليها خاتمان: خاتم من أسفلها.

وخاتم من أعلاها. على خاتم علي بن أبي طالب: " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعلى خاتم معاوية " محمد رسول الله " وقيل لعلي حين أراد أن

____________

(1) مروج الذهب 436 / 2.

(2) البداية والنهاية 275 / 7.

(3) الطبري 29 / 6، أبي الحديد 436 / 1.

الصفحة 109
يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام: أتقر أنهم مؤمنون مسلمون! فقال علي: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون. ولكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء، ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه. ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه (1).

وكان فيما كتب في الصحيفة. أن يحيى الحكمان ما أحياء القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، ولا يتبعان الهوى ولا يداهنان (2) في شئ من ذلك. فإن فعلا فلا حكم لهما، والمسلمون في حكمهما براء (3). وقال أمير المؤمنين للحكمين:

على أن تحكما بما في كتاب الله. وكتاب الله كله لي. فإن لم تحكما بما في كتاب الله فلا حكومة لكما (4).

واتفقوا على موضع التحكيم بين الكوفة والشام. وخرج الأشعث ليقرأ الصحيفة على الناس. وجرى بين الأشعث وبين أناس منهم خطب طويل، وعندئذ قام عروة بن أذية، وهو أخو بلال الخارجي، فقال: أتحكمون في دين الله وأمره ونهيه الرجال؟ لا حكم إلا لله. فكان أول من قالها (5) وما أن قال عروة هذا حتى تباغض القوم جميعا، وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض. تبرأ الأخ من أخيه والابن من أبيه، وأمر علي بن أبي طالب بالرحيل. لعلمه باختلاف الكلمة. وتفاوت الرأي. وعدم النظام لأمورهم، وما لحقه من الخلاف منهم.

وكثر التحكيم في جيش أهل العراق، وتضارب القوم بالمقارع ونعال السيوف وتسابوا. ولام كل فريق منهم الآخر في رأيه. وسار على نحو الكوفة. ولحق معاوية بدمشق (6).

____________

(1) ابن أبي الحديد 437 / 1.

(2) المداهنة / الخداع.

(3) مروج الذهب 435 / 2، ابن أبي الحديد 437 / 1، الطبري 29 / 6.

(4) ابن عساكر وابن أبي شيبة (كنز العمال 319 / 11)، مروج الذهب 435 / 2.

(5) مروج الذهب 436 / 2، ابن أبي الحديد 438 / 1.

(6) مروج الذهب 437 / 2.

الصفحة 110
وروي عن علقمة والأسود أنهم قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين. فقلنا له: يا أبا أيوب. إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وسلم وبمجئ ناقته تفضلا من الله وإكراما لك. حين أناخت ببابك دون الناس.

ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله! فقال لهما: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي: بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. فأما الناكثون فقد قاتلت. وهم أهل الجمل وطلحة والزبير، وأما القاسطون. فهذا منصرفنا من عندهم - يعني معاوية وعمرو - وأما المارقون فهم أهل الطرقات وأهل السعيفات وأهل التخيلات وأهل النهروان. والله ما أدري أين هم! ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله. ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية. وأنت مذ ذاك مع الحق والحق معك. يا عمار بن ياسر، إذا رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس غيره، فاسلك مع علي، فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرج من هدى. يا عمار، من تقلد سيفا أعان به عليا على عدوه.

قلده الله يوم القيامة وشاحين من در. ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي عليه، قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار. فقال علقمة والأسود لأبي أيوب: يا هذا حسبك! حسبك رحمك الله! حسبك رحمك الله (1) وأنا أقول: حسبك رحمك الله.

____________

(1) رواه ابن عساكر عن أبي صادق (كنز العمال 352 / 11) والخطيب البغدادي (البداية والنهاية 307 / 7)، وابن جرير عن مخنف باختصار (كنز العمال 352 / 11).

الصفحة 111


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net