متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - القتال بالذهب والفضة
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

2 - القتال بالذهب والفضة:

عندما بعث معاوية إلى الحسن أن الخلافة له من بعده، كان الحسن ينظر إلى هذا الوعد من نافذة أحاديث الإخبار بالغيب التي وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دائرة ذهن أهل البيت. ولم يكن الحسن يعبأ كثيرا بما يقوله معاوية، نظرا لوزنه بمعيار هذه الأحاديث التي تخبر عن المستقبل.

وروي أن الحسن كتب إلى معاوية: أما بعد فقد وصل إلى كتابك، تذكر فيه ما ذكرت، فتركت جوابك خشية البغي مني عليك، وبالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله، وعلي إثم أن أقول

____________

(1) ابن أبي الحديد 699 / 4.

الصفحة 172
فأكذب... " (1).

فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية كتب إلى عماله "... إن الله بلطفه وحسن صنعه، أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده، فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم. فأقبلوا إلى حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم. فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان... " (2) فلما اجتمعت العساكر إلى معاوية سار بها قاصدا العراق. وبلغ الحسن خبره ومسيره نحوه. وأنه قد بلغ جسر منبج، فتحرك عند ذلك، وبعث حجر بن عدي، فأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير. ونادي المنادي: الصلاة جامعة.

فخرج الحسن رضي الله عنه، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه. وسماه كرها، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: اصبروا إن الله مع الصابرين. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك، أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا.

ونرى وتروا (3).

وكان في كلامه يتخوف خذلان الناس له. وبعد أن تكلم لم يتكلم أحد من الناس ولا أجابه بحرف. فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال: أنا ابن حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء مضر؟ أين المسلمون؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق (4) في الدعة، فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب؟ أما تخافون مقت الله

____________

(1) ابن أبي الحديد 701 / 4.

(2) ابن أبي الحديد 701 / 4.

(3) المصدر السابق 701 / 4.

(4) المصدر السابق 702 / 4.

الصفحة 173
ولا عيبها وعارها؟ ثم استقبل الحسن بوجهه فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره، ووفقك لما تحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت. وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحب أن يوافيني فليواف (1).

وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكر، وقام قيس بن سعد بن عبادة، وزياد بن صعصعة وغيرهما فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم. وخرج الناس فعسكروا، ونشطوا للخروج، وسار الحسن في عسكره (2)، وفي الوقت الذي كان الحسن يخاف فيه من خذلان الناس له، كان معاوية يتحرك ببيت ماله المملوء بالذهب والفضة. ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي في المال " (3)، وقال: " إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من قبلكم وهما مهلكاكم " (4). وكان معاوية يريد أن يشق صف الحسن قبل القتال بسكين الدينار والدرهم. وروى الحاكم أن عبد الله بن جعفر كان على مقدمة الحسن في عشرة آلاف، فراسله معاوية وضمن له ألف ألف درهم. إذا سار إلى الحجاز وخرج من الساحة، فأجابه إلى ذلك. وتفرق الجند الذين كانوا مع عبد الله بن جعفر، وانضم البعض منهم إلى قوات قيس بن سعد (5) الذي كان يعتبر القوة الضاربة في جيش الحسن.

وبعد أن فتت معاوية جانب من جوانب الحسن، بدأ يتفرغ لقوات قيس بن سعد. روى الطبري: حين نزل الحسن عليه السلام المدائن بعث قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفا، وأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن.

فبينما الحسن في المدائن إذا نادى مناد في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قد

____________

(1) المصدر السابق 702 / 4.

(2) رواه الترمذي وصححه (الجامع 569 / 4).

(3) رواه أبو داوود (كنز العمال 191 / 4).

(4) الحاكم (المستدرك 674 / 3).

(5) الطبري 92 / 6، ابن أبي الحديد 702 / 4.

الصفحة 174
قتل، فانفروا فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه السلام، حتى نازعوه بساطا كان تحته (1). وتفرق الناس من حول الحسن بعد إذاعة بيان يقول أن قيسا قد قتل، وهذا باطل، ولم يقف الأمر بعد إذاعة البيان عند سرقة متاع الحسن. وإنما حدث ما لم يكن في الحسبان، فهناك من أشار بأسر الحسن وتقديمه إلى معاوية ليأخذوا من معاوية الأمان (2). وهناك من تقدم من الحسن وطعنه بالمعول فشق فخذه (3).

فهذا الهياج داخل المعسكر كان هدفه إحداث أكبر الخسائر في القيادة بواسطة الغوغاء، فالحسن كان الهدف. وأهل الشام لهم خبرات في دس العيون.

ولقد روي أن معاوية دس رجلا من حمير إلى الكوفة، ورجلا من بني القين إلى البصرة. وأمرهما أن يكتبا إليه أخبار الحسن (4) وليس ببعيد أن تكون هذه الإذاعة التي أدت إلى خروج الحسن جريحا من أرض المعركة من صنع هؤلاء.

وروى ابن أبي الحديد: أن الحسن عليه السلام حمل على سرير ودخل إلى المدائن، وبها سعيد بن مسعود واليا عليها من قبله، فأقام عنده يعالج جرحه (5)، وعندما جن الليل أرسل معاوية إلى القادة والجنود يخبرهم بأن الحسن راسله في الصلح وهو مسلم الأمر إليه. وأغراهم بالمال، فانسل بعضهم ليلا ودخلوا معسكر معاوية (6)، ولم يتبق داخل معسكر الحسن سوى قوات قيس بن سعد وبعض الصحابة والتابعين الذين انفض عنهم الناس، بينما على الجانب الآخر تقف قوات الشام التي كسبت معركة ليس بما يملكون من رجال وإنما بما يملكون من ذهب وفضة. ولم يظهر بريق الذهب فجأة، وإنما كانت له أرضية قديمة دق فيها أوتاده، وحول هذه الأوتاد لا تسمع صوتا ترتعش خوفا ويقول:

____________

(1) الطبري 92 / 6.

(2) الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 172 / 9).

(3) ابن أبي الحديد 697 / 4.

(4) المصدر السابق 703 / 4.

(5) المصدر السابق 704 / 4.

(6) تم تخريجه من قبل.

الصفحة 175
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي في المال "، فما بالك إذا كانت الأيدي التي تدفع المال هي نفسها فتنة حذر الرسول منها! لم يتبين الناس الفتنة التي تعطي فتنة، ولم يضعوا في اعتبارهم ماذا سيترتب على ذلك. والأهم من ذلك أنهم أحبوا ما نهوا عنه، وبغضوا وانفضوا عن ما أمروا به. ألم يقل النبي في الحسن والحسين " من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني " (1)؟!.

وروي أن الحسن عندما تماثل للشفاء كان يحث الناس كي يتصدوا لمعاوية، ومن خطب الحسن رضي الله عنه في بعض مقاماته أنه قال: " نحن حزب الله المفلحون وعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني كتاب الله فيه تفصيل كل شئ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعول عليه في كل شئ، لا يخطئنا تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة... " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول "، " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لعلمه الذين يستنبطونه منهم " (2)، وأحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان، إنه لكم عدو مبين، فتكونون كأوليائه قال لهم، " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون " (3)، (4)، وظل صوت الحسن يدوي في أعماق السكون، في عالم لا نبض فيه ولا ومض ولا صوت.

وبدأ معاوية يتحسس الساحة من قريب ومن بعيد. وروي أنه بعث إلى الحسن بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه

____________

(1) تم تخريجه من قبل.

(2) سورة النساء: الآية 59 - 83.

(3) سورة الأنفال: الآية 48.

(4) مروج الذهب 480 / 2.

الصفحة 176
الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت (1) وعلى أن تكون الخلافة للحسن من بعده. وعندما وصلت الرسالة، قام الحسن خطيبا وقال: إن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة. فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبأ السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا، فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية وإمضاء الصلح (2).

وهنا قال الحسن رضي الله عنه كلمته المشهورة: يا أهل العراق إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث قتلكم أبي، وطعنكم إياي وانتهابكم متاعي (3). فالذين تخاذلوا عن الإمام علي وقتلوه، لا بد لهم من عقاب في بطن الغيب. فلما جاء الحسن آخذا بأسباب النجاة، لم يتركوه وإنما طعنوه وسرقوا متاعه، فأي جنود هؤلاء الذين احترفوا ظلم أئمتهم؟ ثم إذا كانوا قد سرقوا متاعا بدراهم معدودة، فكيف يكون الحال إذا وضع الذهب في طريقهم وأذن لهم أن يأخذوه نظير خدمة ما يقدمونها إلى جهاز ما.

وبدأ الحسن يتركهم وما يريدون، فلقد اشترط عليهم عند البيعة أن يسمعوا، وأن يطيعوا وأن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم. ولكنهم لم يسمعوا ولم يطيعوا وسالموا من حارب من قبل أن تبدأ الحرب، وروي أن الحسن رضي الله عنه كتب شروطا كثيرة على الصحيفة البيضاء المختوم على أسفلها، وهذه الشروط حجة بذاتها على أصحاب المقاعد الأولى، حتى لا يكون لهم على الله حجة. وبعث الحسن إلى معاوية يطلب الصلح، وكتب إلى قيس بن سعد وكان على مقدمته في اثني عشر ألفا، يأمره بالدخول في طاعة معاوية، فقام قيس في الناس فقال: يا أيها الناس اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام. قالوا: لا بل نختار أن ندخل في طاعة إمام ضلالة، فبايعوا لمعاوية، وانصرف عنهم قيس بن

____________

(1) الطبري 93 / 6.

(2) الانحرافات الكبرى / للمؤلف ص 478.

(3) الطبري 92 / 6.

الصفحة 177
سعد (1) وروي: لما تم الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة، فقال: إني حلفت ألا ألقاه إلا وبيني وبينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينه وبينه ليبر يمينه، وقال له: أتبايع يا قيس؟

قال: نعم. ووضع يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية، فجاء معاوية من سريره، وأكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع إليه قيس يده (2)، ثم أمر معاوية الحسن أن يخطب. فقام فخطب فقال في خطبته: إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه، وليس الخليفة من سار بالجور، ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا ثم تتخمه، تنقطع لذته، وتبقى تبعته (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) (3)... (4).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net