متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
6 - إتهام الأمين
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

6 - إتهام الأمين:

كان التعتيم على مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شيئا طبيعيا على امتداد القرن الأول بصفة خاصة. فعمر بن الخطاب عندما خاف على الإسلام أمر بعدم الرواية، وهدد العديد من الصحابة الذين كانوا يروون الحديث. ولقد سجل البخاري منع عمر للرواية وعدم الأخذ بها من حديث أبي موسى عندما استأذن (3). ولقد تحدثنا عن ذلك في موضعه، وذكرنا أنه قد ترتب على ذلك خفوت أصوات وظهور أصوات أخرى. وعندما جاء عهد علي بن أبي طالب، كان القص قد غذى الساحة بعد أن خلت من الرواية. لهذا واجه الإمام صعوبات كثيرة ليبين للناس من هو، وشقت الرواية طريقها في الصخور، وعلم الناس بعض مناقب الإمام. ولم يكن كل من علم راسخ العقيدة، وذلك لأن الإمام لم يسهر على تربيتهم، فالغالب الأعم منهم كان قريبا من ثقافة الوليد بن عقبة وأبو

____________

(1) رواه الإمام أحمد وأبو داوود والحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي " الفتح الرباني 29 / 24 ".

(2) عند البخاري ضياع الأمانة. إذا أسند الأمر إلى غير أهله (الصحيح 128 / 4) ك الدعوات، ب رفع الأمانة.

(3) رواه الحاكم (كنز العمال 127 / 11) وروى صدر الحديث أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم.

الصفحة 192
زبيد الشاعر. وعندما رأى معالم العدل تحت راية الإمام ابتعد عن ثقافة الوليد وغيره، واقترب من ثقافة الإمام. وهؤلاء منهم من نصر الإمام، ومنهم من خذله. وكانت حركة الإمام تعتمد على الصحابة الأجلاء، وعلى الصادقين من التابعين. وعندما قتل هؤلاء لم تكن الخطورة قط على الجانب العسكري، وإنما كانت أيضا على دوام الرواية.

وإذا كان بين أيدينا حديث صحيح يقول: إذا نزلت الخلافة الأرض المقدسة فقد دنت البلايا، وإذا كان بين أيدينا أحاديث تحذر من البغي ومن بني أمية، فلا عجب إذا رأينا بني أمية يعملون من أجل تشويه الخط الرسالي، فإذا لم يشوهوا هذا الخط فأي خط يشوهون؟ وإذا كان تشويههم لغير الخط الرسالي فلماذا كان حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراه الله بني أمية على منبره؟ إن معنى وجودهم على المنبر إشارة إلى اغتصابه، وإشارة إلى أنهم نازعوا الأمر أهله. ومعنى تشويه الخط الرسالي، أي العمل من أجل تزيين خط آخر يكون مشابها للخط الرسالي في الصورة، بهدف أن يهرع أصحاب الأهواء إلى الخط المزخرف نظرا لوجود مطالب كل صاحب هوى على هذا الطريق. ونظرا لأن هذه المطالب تحميها فتاوى علماء الضلال الذين حذر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة منهم. قال حذيفة: "... قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟

قال: نعم. دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " (1).

فهؤلاء لا بد من وجود من يمهد إليهم، لا بد من وجود من يمهد لأكثر من سبعين فرقة وتنجوا واحدة. وإذا كان الحديث قد صرح بأنه سيكون زمان لا

____________

(1) رواه البخاري ك بدء الخلق (الصحيح 280 / 2) ورواه غيره ولقد تكلمنا عن الحديث فيما سبق.

الصفحة 193
جماعة فيه ولا إمام، فإن هناك حديث آخر صرح بأنه من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية (1). لهذا لم يهمل الحديث الذي رواه حذيفة موضع الإمام في الزمان الذي لا يكون فيه جماعة ولا إمام، وهو قوله: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة ". لم يقل اعتزل وكفى ولا تحققت الموتة الجاهلية، وإنما قال: " ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك "، وفي رواية: " قال حذيفة: ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال " (2)، فإذا كان الدجال شجرة رجس، فأي شجرة التي تقابل الرجس؟ فإذا قلنا إنها شجرة المهديين؟ فما هو الدليل على أنهم مهديين؟

ونحن لا نريد أن نطيل في هذا البحث. وبالجملة فلن يكون معاوية صاحب هذه الشجرة، أعني شجرة المهديين، وذلك لوجود أحاديث تقول خلاف هذا. وإذا أردنا أن نضع أيدينا على أصل الشجرة فإني أسوق الحديث الصحيح الذي أورده السيوطي في تاريخ الخلفاء، فقال: أخرج الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس من شجر شتى، وأنا وعلي من شجرة واحدة (3)، وروى الديلمي: " أنا وعلي من شجرة واحدة والناس من أشجار شتى " (4) وروى الحاكم: " يا علي الناس من شجر شتى " وأنا وأنت من شجرة واحدة " (5).

فالظالمين من بني أمية هدفهم تشويه الخط الرسالي، وذلك بإنشاء خط جديد مشابه له. والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا، وأغلق الأبواب أمام هذه الأعمال، فقال:

"... فإن للقرآن منار كمنار الطريق فما عرفتم فخذوه وما أنكرتم فردوه إلى

____________

(1) رواه ابن أبي عاصم وحسنه الألباني (كتاب السنة 503 / 4) ورواه غير واحد ولقد بينا ذلك فيما سبق.

(2) رواه أبو داود حديث 4244.

(3) تاريخ الخلفاء 160 / 1.

(4) الديلمي (كنز العمال 168 / 11).

(5) الحاكم (كنز العمال 168 / 11).

الصفحة 194
عالمه " (1). ولقد قتلوا عالمه، ونتيجة لذلك يمكن أن نفهم قوله النبي صلى الله عليه وسلم: " كتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم " (2)، فهم ضلوا لأن هناك أشياء لا يعلمونها في كتاب الله. وبما أنهم قتلوا عالمه واعتزلوا أهل بيته لا يستبعد أن يتحقق الضلال، ويرتفع النفاق، ليتحقق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أكثر منافقي أمتي قراؤها " (3).

من هنا يمكن أن نعلم حقيقة الخط المشابه للخط الرسالي. الذي أخذ على عاتقه تمزيق الأمة ولكن تحت الراية المزخرفة التي تقول بالجماعة. لا يهم أن تتمزق الأمة ولكن المهم أن تكون الجماعة على رأس الحكم.

وتيارات التشويه دائما ما تلجأ إلى التشويه الغير مباشر، فكتاب الله لا يمكن أن تمتد إليه يد أو عقل لإحداث تشويه فيه، فهذا من المحال. وإنما تمتد عقولهم إلى تفسيره وتأويله، فتفرغه من المحتوى السياسي الذي يتعارض مع أهداف جماعة الحكم. والقارئ للقرآن يعلم أنه يتعرض للأحداث الكبرى ويقدم لها الحلول، ولقد سلط الأضواء على الانحرافات الكبرى على امتداد التاريخ البشري وبينها للأمة الخاتمة - وحذر من الوقوع على طريقها، وهذا كله عند تيارات التشويه لا يلتفت إليه إلا في حدود. وفي الغالب الأعم يقرؤن القرآن قراءة لا تجاوز تراقيهم في المآتم وحول الأضرحة، وفي أندية النفاق حيث المباخر والشعوذة والدجل.

وكما أن كتاب الله لا يمكن أن تمتد إليه يد أو عقل للتشويه فيه، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فتيار التشويه داخل الأمة لا يقترب من مكانة النبوة، وإلا سيفقد وجوده على الكرسي. ولكي يتجنب ذلك يفعل ما فعله مع القرآن، بمعنى أن يكذب على النبي فيحدث التباسا بين ما قيل وبين ما لم يقال.

وهذا الطريق ينتج الإنسان المشوه. أو يقوم بضرب الخط الذي ينتسب إلى النبي

____________

(1) رواه الطبراني (الزوائد 187 / 1).

(2) رواه ابن أبي عاصم وفيه من ضعف (كتاب السنة 132 / 1).

(3) رواه أحمد والطبراني وقال الهيثمي أحد أسانيد أحمد ثقات أثبات (الزوائد 229 / 6).

الصفحة 195
، أقصد الخط الرسالي، أو ينسب إلى كل ما هو برئ منه.

فإذا حدث هذا فهو أمام العامة لم يقترب من ساحة النبوة، بمعنى روي في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من آذى عليا فقد آذاني " (1). فخط التشويه يوجه الأذى إلى علي، ويمكن للعامة أن تتقبل ذلك.

ولكن الحقيقة أن عليا لم يكن هو الهدف، وهذا لا يفهمه إلا عاقل منصف.

ولقد كان النبي يغضب عندما يؤذي أحد عليا. فعن سعد بن أبي وقاص قال:

كنت جالسا في المسجد أنا ورجلين معي، فنلنا من علي، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه فقال: ما لكم وما لي!!؟ من آذى عليا فقد آذاني (2)، لم يقل: ما لكم وعلي، وإنما قال: ما لكم وما لي. وعلي هذا المقياس نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سب عليا فقد سبني " (3).

وروي أن رجلا من أهل الشام جاء فسب عليا عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس وقال: يا عدو الله أذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا " (4).

وروي أن معاوية أصدر العديد من القرارات بعد عودته من المدينة إلى الشام. روى المدائني: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة:

برأت الذمة ممن روى شيئا في فضل أبي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء من كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون عليا ويبرأون منه ويوقعون فيه وفي أهل بيته " (5)، ثم كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: " لا تجيزوا لأحد من شيعة علي

____________

(1) رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 129 / 9).

(2) رواه أبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 129 / 9).

(3) رواه أحمد ورجاله ثقات (الفتح 130 / 9) والحاكم وصححه (المستدرك 121 / 3).

(4) رواه الحكم وأقره الذهبي (المستدرك 152 / 3).

(5) ابن أبي الحديد 595 / 3.

الصفحة 196
وأهل بيته شهادة " (1)، ثم كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يرون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته " (2). وبعد أن كثر الحديث في فضائل عثمان ومناقبه كتب إليهم: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر. فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة. فإن هذا أحب إلى وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته " (3)، ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته.

فامحوه من الديوان. وأسقطوا عطاءه ورزقه " (4)، وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به واهدموا داره " (5).

وترتب على هذه القرارات أن الكذابين والجاحدين وجدوا لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلد، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا ما لم يقله الخط الرسالي وما لم يفعلوه ليبغضوهم إلى الناس، وقرأت الكتب على الناس، ورويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها. وترتب على ذلك اشتداد البلاء ولا سيما بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي كان يخاف من خادمه ومملوكه. كان هذا في زمن معاوية وتفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه السلام، وبعد أن ولي عبد الملك بن مروان وأتي بالحجاج بن يوسف. فلم يبق أحد إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض.

____________

(1) المصدر السابق 595 / 3.

(2) المصدر السابق 595 / 3.

(3) المصدر السابق 596 / 3.

(4) المصدر السابق 596 / 3.

(5) المصدر السابق 596 / 3.

الصفحة 197
إن للصحابة فضائل ومناقب ولم يكونوا في حاجة إلى إضافات جديدة.

ولكن هذه الإضافات لم يقصد بها الصحابة، لأن العديد منهم كانوا في رحمة الله ولا تفيدهم زيادات، وإنما كان المقصود أن تزاحم مناقب الصحابة مناقب أهل البيت ليحدث الالتباس. ولكن أهل الحديث الراسخين في علم الحديث. ذكروا كثيرا من الأحاديث الموضوعة، وبينوا وضعها وأن رواتها غير موثوق بهم. إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون على أحد من الصحابة لأن عليه لفظ (الصحبة) على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطأة وغيره. ونحن لا نجحد فضل أحد من الصحابة، ولكننا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيهم موضوع.

وقرار سب علي بن أبي طالب على المنابر وقف منه الصحابة في دائرة الخوف. فمعاوية اهتم اهتماما ملحوظا بالأمن الداخلي، فبث العيون وسلح الحاميات العسكرية، وأعطى للأمراء في الأمصار حق التصرف في هذه القضايا.

وأمام الأسوار حول المدن التي تمثل أي خطر عليه حتى مكة، يقول ابن كثير.

" كانت أبواب مكة لا أغلاق لها وأول من اتخذ لها الأبواب معاوية " (1).

وليس معنى أن الصحابة كانوا في دائرة الخوف أنهم قبلوا ثقافة السب.

فمنهم من رفضها وقتل في ذلك كحجر بن عدي وغيره، ومنهم من رفضها بحذر، ومنهم من رفض ووعظ، ومنهم الجهاز الذي أشرف على إتمام ثقافة السب، كعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، وبسر بن أرطأة، ومعاوية بن خديج وغيرهم.

ولقد سجل مسلم عملية السب في صحيحه، وبهذا التسجيل لا يمكن أن يدعي مدعي أن السب كان خرافة أو لا أساس له من الصحة، وسجله غير مسلم في روايات صحيحة. وبداية عملية السب روي أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة فلما أمره عليها دعاه وقال له: لست تاركا إيصاءك بخصلة. لا

____________

(1) البداية والنهاية 139 / 8.

الصفحة 198
تترك شتم علي وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له. والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم. والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم " (1). فهذه الوصية التي رواها صاحب الكامل هي إجمالي ما رواه ابن أبي الحديد من قبل. وبدأت عملية السب، روى الطبراني بسند صحيح أن عمرو بن العاص صعد المنبر، فذكر عليا ووقع فيه، ثم صعد المغيرة بن شعبة، ووقع في علي، وكان الحسن بن علي بالمسجد. فقيل له اصعد. فقال: لا أصعد ولا أتكلم حتى تعطوني إن قلت حقا أن تصدقوني، وإن قلت باطلا أن تكذبوني، فأعطوه، فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أنشدك بالله يا عمرو ويا مغيرة. ألا تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله السابق والراكب أحدهما فلان، قالا اللهم بلى. قال: أنشدك الله يا معاوية ويا مغيرة، ألا تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن عمرو بن العاص بكل قافية قالها لعنة، قالا: اللهم بلى. قال: أنشدك يا عمرو ويا معاوية، ألا تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن قوم هذا قالا: بلى، فقال الحسن: فإني أحمد الله الذي وقعتم فيه تبرأ من هذا (2).

وهذا الحديث يحتاج إلى تفسير. فأما قوله: " لعن الله السابق والراكب.

أحدهما فلان " فيقصد بذلك معاوية كما روى البغوي (3) وقوله: " أن رسول الله لعن عمرو بن العاص بكل قافية قالها لعنة ". فلقد روي أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي مكة: أبو سفيان بن الحارث، وعبد الله بن الزيعري، وعمر بن العاص، وضرار بن الخطاب (4)، وكان أشدهم عمرو بن العاص وروي أن رسول الله قال: " اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر، فاهجه والعنه عدد ما

____________

(1) الكامل 234 / 3، الطبري 108 / 6.

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رواه عن شيخه زكريا بن يحيى وقال الذهبي: أحد الأثبات ما علمت فيه جرحا أصلا (الزوائد 247 / 7).

(3) رواه الطبراني والبغوي (الإصابة 5 / 4).

(4) أسد الغابة 5 / 2.

الصفحة 199
هجاني " (1) وإن كان في إسناد هذا الحديث مقال. فإن حديث الحسن يشهد بصحته. أما قوله: " إن رسول الله لعن قوم هذا " فإنه يقصد المغيرة بن شعبة، والمغيرة بن ثقيف (2)، وفي الحديث الصحيح. إن بني أمية وثقيف وبني حنيفة من أبغض الناس إلى رسول الله (3).

وهكذا رفع عنهم الحسن رضي الله عنه الغطاء الذي وضعه على جلودهم عالم اللارواية. لقد وقفوا ليلعنوا وهم في الحقيقة عليهم من الله لعنة. قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله. لعنهم الله في الدنيا والآخرة). ومن الذين سهروا من أجل انتشار ثقافة السب مروان بن الحكم الذي كان سببا رئيسيا في محاصرة الثوار لعثمان، ومروان هو قاتل طلحة يوم الجمل، ومروان وأبيه عليهما لعنة من الله على لسان رسوله. وصرح بذلك روايات صحيحة.

وأخرج ابن سعد أن مروان بن الحكم كان يسب عليا كل جمعة على المنبر (4)، وروى أنه قال للحسن: أهل بيت ملعونون. فقال الحسن: أقلت أهل بيت ملعونون. فوالله لقد لعنك الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنت في صلب أبيك (5). وروي عن أبي كثير قال: كنت جالسا عند الحسن بن علي فجاءه رجل فقال: لقد سب عند معاوية عليا سبا قبيحا رجل يقال له معاوية بن خديج. فلم يعرفه الحسن،، فقال: إذا رأيته فأتني به، فرآه الرجل عند دار عمرو بن حريث، فأراه إياه، فقال الحسن: أنت معاوية بن خديج؟ فسكت فلم يجبه - ثلاثا - ثم قال: أنت الساب عليا عند ابن أكلة الأكباد؟ أما لئن وردت عليه الحوض، وما أراك ترد، لتجدنه مشمرا حاسرا عن ذراعيه يذود الكفار والمنافقين عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قول الصادق

____________

(1) رواه ابن عساكر (كنز العمال 548 / 13).

(2) الإصابة 131 / 6.

(3) البيهقي (البداية والنهاية 268 / 6.

(4) البداية والنهاية 280 / 8، تاريخ الخلفاء 177 / 1.

(5) رواه أبو يعلى (الزوائد 240 / 5) وابن سعد وابن عساكر (كنز العمال 357 / 11) وذكره ابن كثير (البداية 8 / 280).

الصفحة 200
المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم (1). ومعاوية بن خديج ذكره ابن سعد فيمن ولي مصر من الصحابة. أمره معاوية على الجيش الذي جهزه إلى مصر وبها محمد بن أبي بكر عاملا لعلي، فأخذوا ابن أبي بكر ووضعوه في بطن حمار وأشعلوا فيه النار.

أما الصحابة الذين لم يقبلوا ثقافة السب، ما رواه مسلم عن سهل، قال:

استعمل على المدينة رجل من آل مروان، فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا، فأبى سهل. فقال له: أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب. فقال: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح إذا دعي بها (2)، وروى مسلم أيضا أن معاوية أمر سعد بن أبي وقاص فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب (3)؟ فعد عليه سعد بعض مناقب علي وقال: لو أن تكون لي واحدة منهن خيرا من أن تكون لي حمر النعم.

وعن عبد الرحمن بن البليماني قال: كنا عند معاوية. فقام رجل فسب عليا بن أبي طالب فقام سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل فقال: يا معاوية إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هو مني بمنزلة هارون من موسى " (4) وعن أبي عمار قال: إني لجالس عند واثلة بن الأسقع، إذ ذكروا عليا فشتموه فلما قاموا. قال: اجلس أخبرك عن الذي شتموا. إني عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين فألقى عليهم كساءا ثم قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس

____________

(1) رواه الطبراني بإسنادين (الزوائد 131 / 9)، والحاكم (المستدرك 138 / 3)، وابن أبي عاصم (كتاب السنة 360 / 2).

(2) رواه مسلم (الصحيح 182 / 15) في فضل علي.

(3) رواه مسلم في فضل علي (الصبح 175 / 15) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 109 / 3).

(4) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 602 / 2).

الصفحة 201
وطهرهم تطهيرا " (1).

وعن خالد بن عرفطة قال: أتيت سعد بن مالك فقلت: بلغني أنكم تعرضون على سب علي بالكوفة فهل سببته؟ قال: " معاذ الله والذي نفس سعد بيده، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي شيئا لو وضع المنشار على مفرقي ما سببته أبدا " (2)، ويقصد سعد يوم أن عاد من اليمن ودخل ليشكوا عليا وكان معه أبو بكر. فبينما هو في وسط كلامه قال له النبي:

" سعد بن مالك بن الشهيد. مه بعض قولك لأخيك علي. فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله "، فقال سعد: فقلت في نفسي ثكلتك أمك سعد بن مالك.

ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري. لا جرم والله لا أذكره بسوء أبدا سرا ولا علانية (3).

وروي أن أبا الأسود الدؤلي وكان من شيعة علي ينزل بالبصرة في بني قشير، وكان جيرانه يرجموه بالليل لمحبته عليا وأهل بيته. فإذا ذكر رجمهم له قالوا: إن الله يرجمك فيقول لهم: تكذبون لو رجمني الله لأصابني، ثم باع الدار، فقيل له: بعت دارك! فقال: بل بعت جاري (4). وروى الزمخشري في ربيع الأبرار: سأل زياد بن أبيه أبا الأسود عن حب علي فقال: إن حب علي يزداد في قلبي كما يزداد حب معاوية في قلبك، وإني أريد الله والدار الآخرة بحبي عليا، وأنت تريد الدنيا وزينتها بحبك معاوية. ويقصد بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " علي يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين " (5).

وروي أن معاوية قال لصعصعة بن صوحان. اصعد المنبر فالعن عتيا.

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 161 / 9) (2) رواه أبو يعلى وإسناده حسن (الزوائد 130 / 9) ابن أبي عاصم (كتاب السنة 604 / 2).

(3) رواه البيهقي (البداية والنهاية 346 / 7) ولقد قدمنا الحديث بطوله في موضعه.

(4) حياة الحيوان / الدميري في آخر باب الدال.

(5) رواه ابن عدي وغيره (كنز العمال 4 - 6 / 11).

الصفحة 202
فامتنع من ذلك وقال: أو تعفيني؟ قال: لا. فصعد صعصعة المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس إن معاوية أمرني أن ألعن عليا. فالعنوه لعنه الله (1).

وهكذا مرت ثقافة السب. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الثقافة وبين أهدافها الحقيقية. روى عن عبد الله الجدلي أنه قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فقالت لي: أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟ قلت: معاذ الله أو سبحان الله. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من سب عليا فقد سبني (2).

أنظر إلى قول أم المؤمنين: أيسب رسول الله فيكم؟ إنها لم تقل: أيسب علي فيكم: لأن عليا درجة على طريق طاهر طويل. وفي مواجهة أخرى قالت أم المؤمنين أم سلمة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى (3). ولقد أخبر الإمام علي عن هذه الثقافة فقال: " إنكم ستعرضون على سبي فسبوني، فإن عرضت عليكم البراءة فلا تتبرأوا مني فإني علي الإسلام "، وفي رواية - فإني على الفطرة (4).

وفي رواية: فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة (5).

وروي أن ابن عباس قال لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لأفعل حتى يربوا عليه الصغير ويهرم فيه الكبير (6). وهذه الاستمرارية التي

____________

(1) العقد الفريد 466 / 2، والحاكم (المستدرك 358 / 1).

(2) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 130 / 9) (الفتح الرباني 121 / 23)، ورواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 121 / 3) وأورده السيوطي في تاريخ الخلفاء 162 / 1.

(3) رواه أحمد والحاكم (كنز العمال 602 / 11)، (المستدرك 121 / 3).

(4) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 358 / 1) والمحاملي وابن عساكر (كنز العمال 302 / 11) ورواه البلاذري (أنساب الأشراف ص 119 / 1) وابن أبي الحديد 776 / 1.

(5) ابن أبي الحديد 776 / 1.

(6) ابن أبي الحديد 222 / 4.

الصفحة 203
يصر عليها معاوية. أخبر عنها وعن غيرها النبي فقال: كيف أنتم إذا لبستم فتن يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة. فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة (1). إنها الفتن التي تنسف العبادة نسفا، وتترك الناس لا يعقلون فتن اللسان فيها أوقع من السيف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الفتنة تجئ فتنسف العبادة نسفا، وينجو العالم منها بعلمه " (2)، وهل ثقافة السب تحافظ على عبادة أو تنفع معها عبادة، لقد ألقوا في الساحة بأحاديث يزاحم بعضها بعضا. وتمهد لخروج أكثر من سبعين فرقة كل فرقة معها أحاديثها. وكل فرقة لها لسان يضرب كضرب السيف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

" ستكون فتنة صماء بكماء عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف (3). قال في عون المعبود: وصفت الفتنة بهذه الأوصاف بأوصاف أصحابها. أي لا يسمع فيها الحق، ولا ينطق به، ولا يتضح الباطل عن الحق، وقيل المعنى: لا يميزون فيها بين الحق والباطل، ولا يسمعون النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل من تكلم بحق أوذي ووقع في المحن، ومن أشرف لها: أي من اطلع عليها وقرب منها. استشرفت له. أي: اطلعت تلك الفتنة عليه وجذبته إليها. وإشراف اللسان. أي: إطلاقه وإطالته كوقوع السيف أي: في التأثير (4).

وإذا كان إشراف اللسان في هذه الفتنة كوقوع السيف، بمعنى إذا كانت الكلمة في هذه الفتنة تعمل عمل السيف. فإن الذين سبوا عليا يكونوا في منزلة الذين قتلوه. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله " (5). وبهذا تكون بني أمية بثقافة السب قافلة من القتلة ولا يعرف حقيقتهم إلا العالم. وشاء الله أن يكون على امتداد تاريخ

____________

(1) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 515 / 4).

(2) رواه أبو نعيم وأبو داوود والرافعي (كنز العمال 150، 178 / 10).

(3) رواه أبو داوود حديث 4244.

(4) عون المعبود 346 / 11 (5) رواه البخاري (الصحيح 57 / 4).

الصفحة 204
بني أمية العديد من العلماء الأفاضل، فكانوا يحذرون من الحفرة قبل الوقوع فيها. حدث هذا في جميع الأحداث الكبرى بل والصغرى التي جرت تحت أعلام بني أمية. ولقد رأينا كيف كانوا ينهون عن السب في كل زمان ومكان.

لقد أنتجت ثقافة السب جيلا مشوها، كان من السهل عليه أن يقتل الحسين، ويجتاح المدينة، ويضرب الكعبة. ولقد ظلوا يسبون الإمام حتى ضاع ذكره عند الذين يقفون تحت رايات بني أمية. يقول المسعودي: قيل لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصا من لصوص الفتن (1). وروي أن فقيها آخر ذهب ليشتكي جاره إلى الوالي فقال: إن جاره مرجئ قدري ناصبي رافضي، يبغض معاوية بن الخطاب الذي قتل علي بن العاص. فقال له الوالي: ما أدري على أي شئ أحسدك. على علمك بالمقالات أو على بصرك بالأنساب (2).

وروي في سنن أبي داوود أن في عصر بني مروان لم يكن فطاحل العلم وجهابذته يعدون عليا من الخلفاء، وعندما بلغ سفينة ذلك قال: كذبت استاه بني الزرقاء (3).

وظل الحال هكذا حتى جاء عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وسنتحدث عن ذلك في حينه.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net