متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
7 - ائتمان الخائن
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

7 - ائتمان الخائن:

من قبل أن يحدث الاختلاف والافتراق أعلن النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة أن " الإسلام والسلطان أخوان توأمان، لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أس (4)، والسلطان حارث. وما لا أس له يهدم، وما لا

____________

(1) مروج الذهب 42 / 3.

(2) مروج الذهب 42 / 3.

(3) ذكره الألباني في تحقيقه كتاب السنة 564 / 2.

(4) أس / أصل البناء.

الصفحة 205
حارث له ضائع " (1). ثم بين فضل أهل بيته ووجوب مودتهم في أحاديث كثيرة منها " النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي " (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " (3)، وقوله: " إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (4)، وغير ذلك من الأحاديث التي أوردناها في موضعها.

فمن هذا نفهم أن معنى الإسلام والسلطان يكون أقرب للفهم إذا وضعنا أمامنا في دائرة السلطان أهل البيت. بمعنى أن نقول: أن الإسلام وأهل البيت توأمان، وذلك لأن الروايات حددت معنى السلطان الذي يستقيم مع الكتاب.

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما وضع الأمة على الصراط المستقيم وعلم من ربه جل وعلا أن الأمة ستختلف من بعده، فأقام الحجة على الناس، وهم في طريق الاختلاف، كما أقامها من قبل أن يتشعبوا في دروب الاختلاف فقال:

"..... إن رحى الإسلام دائرة. وإن الكتاب والسلطان سيفترقان فدوروا مع الكتاب حيث دار " (5). فإذا كان الكتاب كما في الحديث الصحيح لن يفترق عن أهل البيت. فإننا يمكن أن نفهم أن الدوران مع الكتاب يعني في مقدمته الدوران مع أهل البيت.

____________

(1) رواه الديلمي (كنز العمال 10 / 6).

(2) رواه الطبراني وأبو يعلى وابن عساكر وابن أبي شيبة عن سلمة ابن الأكوع (كنز العمال 96، 102، 12) ورواه أبو يعلى والبزار والحاكم عن أبي ذر (الخصائص الكبرى 466 / 2).

(3) رواه البزار عن ابن عباس وعن الزبير (كنز العمال 955 / 12) ورواه الحاكم وابن جرير والطبراني عن أبي ذر (كنز العمال 95، 98 / 12) وطريق أبو ذر طريق ضعيف. وجميع من ساق هذا الحديث ساقه من طريقه الضعيف ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(4) رواه أحمد والترمذي وحسنه والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).

(5) رواه الطبراني عن معاذ وابن عساكر عن ابن مسعود (كنز العمال 216 / 1).


الصفحة 206
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر عن الافتراق، أمر الجيل الأول بأن يأخذ بالأسباب لدفع الافتراق والاختلاف لأن من حكمة الوجود أن الله ينظر لعباده، ليرى كيف يعملون وفقا لمساحة الاختيار التي وهبها إياهم.

فعن أنس أن معاذا قال: يا رسول الله. أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرني في أمرهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل (1)، وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى " (2)، وعلى هذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الناس إلى الصراط المستقيم أولا، ثم أخبرهم بالافتراق وماذا يفعلون ثانيا، ثم أمرهم بالأخذ بالأسباب ثالثا، ولا حجة لهم بعد ذلك كله.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم تلى قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم...)، ثم قال:

كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، لتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا (3)، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم " (4)، ولا حجة لهم بعد هذا.

وجاء معاوية بن أبي سفيان، وجعل سب الإمام علي سنة، جاء معاوية على طريق الاختلاف. ولو لم يكن الاختلاف قد وقع، ما جاء معاوية. ولكن الله

____________

(1) رواه عبد الله بن أحمد وقال في الفتح الرباني الحديث جيد الإسناد (الفتح 44 / 23).

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (269 / 7 الزوائد).

(3) رواه أحمد وقال في الفتح الرباني: الحديث صحيح رواه مسلم بلفظه والبخاري بلفظ:

لا طاعة في معصية " الفتح 42 / 23 ".

(4) أي / لتردنه إلى الحق.

الصفحة 207
بعلمه المطلق علم أن عباده سيختلفون فعاقبهم ببني أمية وكان قد حذرهم منهم.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها " (1). إن الله تعالى ذم الاختلاف في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع الاختلاف فلا بد من عقوبة يتذوقها الغالب الأعم. وأهل الحق لا يضرهم من ناوأهم أو من خذلهم أو من عاداهم، فهذا قانون الوجود. ومن يقف تحت مظلة الاختلاف فعليه أن يستقبل أبواب كل شئ، وهذا أيضا من قانون الوجود. يقول الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء، رزقهم القصد والعفاف.

وإذا أراد بقوم اقتطاعا، فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " (2).

لقد جاء معاوية بعد أن اختلف الناس، وليس صحيحا أن معاوية جاء نتيجة لاجتماع الناس، فهو نفسه القائل لابنة عثمان: " يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة. تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا... ومع كل إنسان منهم شيعة، وهو يرى مكان شيعته. فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا " (3)، ثم إن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا، وأيضا حركة التاريخ. كل ذلك يثبت أن معاوية جاء على رقعة خلاف وليس على عصبة اجتماع. فمعاوية دخل من طريق كان الرجل فيه يلقى أخاه فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. في الوقت الذي يحذر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول:

" يهلك أمتي هذا الحي من قريش ". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله، قال: لو أن

____________

(1) رواه الطبراني (كنز العمال 183 / 1).

(2) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه (الدر المنثور 12 / 3).

(3) البداية والنهاية 133 / 8.

الصفحة 208
الناس اعتزلوهم (1). فأهل هذا الحي لا يجهلهم أحد من الصحابة، ولقد حددتهم روايات صحيحة وشهدت حركة التاريخ على خطاهم. فالنبي حذر من طريق النقص الذي أصاب بني إسرائيل في الوقت الذي أشار فيه باعتزال بني أمية ومن على شاكلتهم، وقوله: لو أن الناس اعتزلوهم وفيه إشارة بأنهم لن يأخذوا بالأسباب.

وعندما جاء معاوية ووضع ثقافة السب، تراجع الدين عند الذين أكلوا من زاد هذه الثقافة. وهذا أمر طبيعي لساحة لم يدر أصحابها مع القرآن، واختاروا حارسا غير الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ الإسلام، لأن من سنن الوجود أن ما لا أس له يهدم وما لا حارث له ضائع. ونحن هنا سنلقي ضوءا على معالم الضياع. وفي البداية نقول إن حذيفة سجل لنا معالم الخفوت قبل وفاته (2) فقال: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان (3). وقال: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون (4)، وقال:

".... ابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا " (5)، وفي لفظ البخاري:

" فابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف " (6)، فإذا كان هذا قد حدث في ساحة لم يكن معاوية على الكرسي الأول فيها، فما بالك إذا جلس معاوية ووصف نفسه بأنه أعلم الناس بشؤون الدنيا والآخرة.

كانت الساحة بها خفوت، ثم جاء الضياع بعد ذلك. فعن زياد بن جارية أنه دخل مسجد دمشق وقد تأخرت صلاة الجمعة بالعصر. فقال: والله ما

____________

(1) رواه أحمد وإسناده صحيح (الفتح الرباني 39 / 23) والبخاري الصحيح (ك الفتن 280 / 2) ومسلم (الصحيح 41 / 18).

(2) من الثابت أن حذيفة مات بعد قتل عثمان بأيام معدودات.

(3) البخاري ك الفتن (الصحيح 230 / 4).

(4) البخاري ك الفتن (الصحيح 230 / 4).

(5) رواه أحمد (الفتح الرباني 40 / 23) ومسلم (الصحيح 179 / 2).

(6) البخاري (الصحيح 180 / 2) ك الجهاد.

الصفحة 209
بعث الله نبيا بعد محمد صلى الله عليه وسلم أمركم بهذه الصلاة (1)، وعن أبي العالية قال: أخر ابن زياد الصلاة، فأتاني عبد الله بن الصامت فذكرت له صنيع ابن زياد، فعض على شفتيه وضرب فخذي وقال: إني سألت أبا ذر كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت على فخذك وقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فضرب فخذي كما ضربت وقال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتك معهم فصل ولا تقل إني قد صليت ولا أصلي (2). وكان سفيان الثوري يقول: يا؟ أظن الصلاة تقبل إلا أن الصلاة خير من تركها (3)، كان هذا في مرحلة تأخير الصلاة. وهذه المرحلة تبعتها أخرى في ساحة ترفع ثقافة السب وتحرص عليها. فعن أم الدرداء قالت: دخلت على أبي الدرداء وهو مغضب. فقلت: من أغضبك، قال: والله لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا - يعني صلاة الجماعة (4). وروى البخاري: دخل الزهري على أنس فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة. وهذه الصلاة قد ضيعت (5). أما أبو الدرداء الذي شهد بأنه لا يعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيئا إلا صلاة الجماعة، فلقد مات قبل وفاة عثمان بن عفان بسنتين (6). بمعني: أنه شهد ما رآه في خلافة عثمان على أقل تقدير. أما أنس فلقد عاش إلى ما بعد زمن الحجاج بن يوسف، وروي أنه مات سنة إحدى وتسعين وكان عمره مائة سنة إلا سنة (7)، فأبي الدرداء شهد الصورة فقط. أما أنس فلقد شهد الضياع في عهد بني أمية. وإذا سألنا: كيف ضاعت الصلاة بعد وفاة النبي بمدة قليلة؟ نقول: ضاعت عندما

____________

(1) ابن عساكر (كنز العمال 371 / 8).

(2) رواه أحمد ومسلم (الفتح الرباني 183 / 23).

(3) مقاتل الطالبين 329 / 1.

(4) رواه أحمد وإسناده جيد ورواه الترمذي بطريق آخر (الفتح الرباني 99، 200 / 1).

(5) رواه البخاري (الصحيح 13 / 1).

(6) الإصابة 46 / 5.

(7) الإصابة 72 / 1.

الصفحة 210
انفصل الإسلام عن السلطان. فإن قيل: وما الدليل؟ نقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " لينتقضن الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة " (1)، وعلى هذا يكون ضياع الصلاة كنتيجة سببه ضياع الحكم عند المقدمة.

إن النبي صلى الله عليه وسلم ذم بني أمية، فهل ينتظر أن يحافظ بنو أمية على الصلاة وغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما ولد فماذا ينتظر من مروان عندما يتقلد أمور المسلمين؟ ولقد اتفق العلماء على أنه أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة (2)، إن الصورة بهتت في عهد عثمان، وعندما جاء علي بن أبي طالب قاتلوه، ثم جاء معاوية فكان أول من نقص التكبير في الصلاة (3)، في الوقت الذي كان فيه أول من اتخذ الحرس لحمايته، وأول من اتخذ الخصيان لخاص خدمته (4). وفي عام ستين دخل بالدولة نحو أعتاب المبايعة لولده يزيد. وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

" تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان " (5)، وعندما وضع معاوية ابنه على رقبة الأمة سار على منهاج أبيه ورفع أعلام السب، فكان من نتيجة هذه الثقافة ظهور الإنسان المشوه الذي لا يمكن أن يحمل منهجا سماويا، ففي الحديث الصحيح يقول البني صلى الله عليه وسلم: " يكون خلف بعد الستين سنة أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر (6)، المنافق

____________

(1) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم (كنز 238 / 1) وقال السيوطي. رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه (الخصائص الكبرى 265 / 1).

(2) شذرات الذهب / ابن العماد الحنبلي 69 / 1.

(3) تاريخ الخلفاء 187 / 1.

(4) تاريخ الخلفاء 187 / 1.

(5) رواه أحمد بسند صحيح وأبو يعلى (كنز العمال 119 / 11).

(6) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 231 / 6) وقال ابن كثير تفرد به أحمد وإسناده على شرط السنن (البداية 228 / 6) ورواه ابن جرير (كنز 314 / 11) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 507 / 4)، والبيهقي (الخصائص الكبرى 236 / 2)، وابن حبان =

الصفحة 211
كافر به، والفاجر يتأكل منه، والمؤمن يؤمن به (1). والمال هو الباب الوحيد الذي تخرج منه هذه الأجيال المنافقة الفاجرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

" مما أتخوف على أمتي أن يكثر فيهم المال حتى يتنافسوا، فيقتتلوا عليه. وإن مما أتخوف على أمتي أن يفتح لهم القرآن حتى يقرأه المؤمن والكافر والمنافق، فيحل حلاله المؤمن ابتغاء تأويله " (2). ومما هو محفوظ أن القرآن قد فتح للصالح والطالح منذ زمن بعيد، يوم أن قال الناس حسبنا كتاب الله، ولم يكن في الساحة وقتئذ العالم بتأويله، الأمر الذي أدى إلى تشعبات كانت الأمة في غنى عنها. وبعد عهد يزيد سارت أعلام بني أمية على الطريق الذي يضيعون فيه الصلاة، حتى جلس الوليد بن عبد الملك على رقبة الأمة. وروي أنه جلس يوم الجمعة على المنبر حتى اصفرت الشمس، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن الوقت لا ينتظرك، وإن الرب لا يعذرك. قال: صدقت. ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك، ثم نادى: من هاهنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه (3).

إنه طريق إضاعة الصلاة، حتى أن سفيان الثوري كان يقول في الذين على طريق السلطان: لولا أن تكون سبة ما صليت على من يأتي السلطان حتى يكونوا عبرة (4)، وقال وهيب: هؤلاء الذين يدخلون على الملوك. إنهم لأضر على الأمة من المقامرين (5)، وقال سفيان: القبول مما في أيديهم من استحلال المحارم، والتبسم في وجوههم، علامة الرضا بفعالهم، وإدمان النظر إليهم يميت القلب (6). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الرجل

____________

= في صحيحه (كنز العمال 195 / 11).

(1) رواه الحاكم (المستدرك 507 / 4).

(2) رواه الحاكم (كنز العمال 200 / 10).

(3) العقد الفريد 62 / 1.

(4) رواه أحمد في الورع 193 / 1.

(5) أحمد في الورع 82 / 1.

(6) أحمد في الورع 97 / 1.

الصفحة 212
للمنافق يا سيدنا فقد أغضب ربه (1). وقال: " لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم " (2). وفي هذا دليل أن المنهج يظهر المنافق وإلا فكيف سيعرفونه؟.

لقد ضاعت الصلاة عندما تم التعتيم على العلم وتشويه حملته، إن الله تعالى يقول: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) (3)، قال المفسرون: تدل الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن ومؤمن عالم ومن المحفوظ أن المؤمن العالم أفضل بقوله تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (4)، وقالوا: وبما أن المؤمن العالم أفضل، فإن ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم. ويبقى لسائر المؤمنين من الرفع، الرفع درجة واحدة، ويكون التقدير أن الله يرفع الذين آمنوا درجة. ويرفع الذين أوتوا العلم درجات.

فإذا كان طريق بني أمية قد أضاع الصلاة فهل تكون أعلامهم في دائرة الذين أوتوا العلم؟ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " لكل قوم سادة، حتى أن للنحل سادة " (5)، فهل بني أمية سادة المؤمنين أو سادة الذين أوتوا العلم؟ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسألوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " (6). فهل علماء بني أمية قبضوا؟ كيف وهم على سدة الحكم وأبواب المساجد مفتوحة لهم، ولهم المدارس والمعاهد والدواوين؟ فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا ضيعوا الصلاة واعتمدوا عقائد المرجئة، وسارت السياسة المالية تحت أعلامهم بالوقود البيزنطي؟

____________

(1) رواه الحاكم والبيهقي (كنز العمال 170 / 1).

(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي (كنز العمال 170 / 1).

(3) سورة المجادلة: الآية 11.

(4) سورة الزمر: الآية 9.

(5) أبو يعلى (كنز العمال 88 / 6).

(6) رواه مسلم (الصحيح 224 / 16) وأحمد (الفتح الرباني 181 / 1).

الصفحة 213
إن العلم قبض تحت هذه الأعلام عندما استبعدوا حملته. وعن زياد بن لبيد قال: قلنا يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ويقرئه أبنائنا، ونقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال النبي: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا ينتفعون بما فيها بشئ (1). إنه عالم معاوية ويزيد الذين سهروا على ثقافة تأتي بخلف يقرأون القرآن لا يعدوا تراقيهم وتحت أعلامهم يقرأ القرآن منافق كافر به وفاجر يتأكل منه. إنه العالم الذي قام بالتعتيم على الخط الرسالي. حتى جاء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا. ولقد ركبوا بذلك سنن الذين من قبلهم. يقول تعالى بعد أن ذكر أنبياءه ورسله: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم * وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا * فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وآمن وعمل صالحا، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا) (2)، قال المفسرون: وقوله تعالى: (وممن هدينا واجتبينا) معطوف على قوله: " من النبيين "، وهؤلاء غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم، فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين ولا منحصرة فيهم، بدليل قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (3). ومن الدليل أيضا أن الله تعالى قال: (واذكر في الكتاب مريم) ومريم ليست من النبيين. وكانت من الصديقين لقوله تعالى: (وأمه صديقة) (4)، فالمراد بقوله تعالى: (وممن هدينا واجتبينا) غير النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين لا محالة. فهل

____________

(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 182 / 1)، والحاكم وأقره الذهبي وقال الهيثمي رواه الطبراني والبزار (الزوائد 200 / 1).

(2) سورة مريم: الآية 58، 60.

(3) سورة النساء: 69.

(4) سورة المائدة: 75.

الصفحة 214
بني أمية يقفون تحت رايات الذين هداهم الله واجتباهم؟ أم أنهم عتموا على الخط الرسالي وشقوا طريقهم نحو سنن الأولين، حيث الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا؟

ويقول البعض: إن النبي قال: " أيما عبد دعوت عليه فاجعل اللهم ذلك له أو عليه رحمة " ونحن نشك في هذا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولكن هب أن النبي قال ذلك. مع تحفظنا الشديد، فهل يسر بنو أمية أن رسول الله لعنهم فكان ذلك لهم رحمة؟ وقال البعض: يكفي بني أمية أنهم فتحوا الفتوح ومصروا الأمصار. ونحن نقول إن الفتوحات عمل عظيم، ولكن أي فتوحات؟ إن الإسلام جاء ليقول كلمة لا ليرفع سيفا. فإذا رفع السيف فإن هذا السيف لا يرفع إلا بإذن الله ووفقا لمنهج الله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه " (1). ولقد ثبت أن بني أمية لا يحيطون به. وثبت أنهم ليسوا أولى الناس بالأنبياء، وليسوا من الذين أوتوا العلم، لقد فتحوا الفتوح ومصروا الأمصار، ولكن لحساب من؟ إننا ما زلنا نعاني من مقولة إن الإسلام انتشر بالسيف، والإسلام بري من هذه المقولة التي ألصقت به في عالم الفتن.

إن فتوحات بني أمية وغيرهم أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لابن حولة: ليفتحن لكم الشام والروم وفارس، حتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم، وحتى يعطي أحدهم مائة دينار فيسخطها. ثم وضع رسول الله يده على رأس بن حولة وقال: يا ابن حولة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام (2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم. قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. فقال النبي: أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم

____________

(1) رواه أبو نعيم (كنز العمال 84 / 3).

(2) رواه أحمد وأبو داوود والحاكم وصححه (الفتح الرباني 29 / 24).

الصفحة 215
تتباغضون... " (1).

إن أصحاب المقاعد الأولى أساءوا أبلغ إساءة إلى الفتوحات. ومن لطف الله تعالى أن عامة المسلمين من التجار وغيرهم، والعديد من العلماء الأفاضل، كانوا الصورة النقية التي عبرت عن الإسلام في البلاد المفتوحة. أما أصحاب المقاعد الأولى الذين لا فقه لهم فيقول عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " (2). وللأمانة تعاريف طويلة وعريضة، وأما علماء السوء الذين اتخذوا الفتوحات وغيرها تجارة يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " ويل لأمتي من علماء السوء، يتخذون هذا العلم تجارة، يبيعونها من أمراء زمانهم ربحا لأنفسهم، لا أربح الله تجارتهم " (3).

إن الذين وضعوا بني أمية في دائرة مناقب الفتوحات، لم يصيبوا الحق في رأينا، لأن بني أمية دخلوا هذه الأبواب من طريق أضاعوا فيه الصلاة، واتبعوا الشهوات، فجاءت الفتن المقروءة والمسموعة وغير ذلك. ثم كيف يوضعوا في دائرة المناقب هذه في الوقت الذي ضاعت فيه الأمانة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة. وقيل: يا رسول الله: كيف أضاعتها؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة (4). ولما كان إسناد الأمر إلى غير أهله بهذه الأهمية، فكان لا بد أن يبين لهم من هم أهله هؤلاء، ولقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في أكثر من موضع (5). ومن

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 97 / 18).

(2) رواه أحمد وقال في الفتح إسناده حسن (الفتح الرباني 25 / 23).

(3) رواه الحاكم في تاريخه (كنز 205 / 10) (4) رواه البخاري (الصحيح 128 / 4).

(5) كان علي في دائرة أهل بمكة عندما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) وكان في دائرة أهله عندما نزل قوله تعالى: (... وأنفسنا وأنفسكم)، وكان في دائرة أهل يوم تبوك عندما قال له: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى.... "، وفي العام التاسع عندما بعثه بسورة براءة، ويوم الكساء (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل =

الصفحة 216
العجيب أنه كان يبايعهم على ذلك، فعن عبادة قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثره علينا وأن لا ننازع الأمر أهله... " (1). ومن الأعجب أن أبا أيوب الأنصاري كان يبكي ويقول: " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله (2).

وهكذا نعود إلى حيث بدأنا، ولقد بدأنا هذا الضوء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الإسلام والسلطان أخوان توأمان، لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أس والسلطان حارس، وما لا أس له يهدم، وما لا حارس له ضائع " (3). ثم إخباره: " إن رحى الإسلام دائرة وإن الكتاب والسلطان سيفترقان فدوروا مع الكتاب حيث دار " (4). ولقد بينا كيف تم الافتراق، وكيف رفعت أعلام الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.

____________

= البيت...)، ويوم غدير خم: (من كنت مولاه فعلي مولاه).

(1) رواه البخاري (الصحيح 222 / 4)، ورواه ابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 493 / 2).

(2) رواه أحمد والحاكم وأقره الذهبي الطبراني (الفتح الرباني 32 / 23)، (المستدرك 415 / 2)، (الزوائد 245 / 5).

(3) رواه الديلمي (كنز العمال 10 / 6).

(4) رواه الطبراني عن معاذ. وابن عساكر عن ابن مسعود (كنز 216 / 1).

الصفحة 217


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net