متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
رابعا - على مفترق الطرق
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

رابعا - على مفترق الطرق:

قبل اشتعال الأحداث التي تنتهي بمقتل الحسين كان هناك تغيرات، ذهب معها قديم وجاء عليها جديد منها: موت المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب، والذي يعود الفضل إليه في وضع بذرة الحكم الوراثي في ساحة الملك، في أمة رفضت الحكم الوراثي في دائرة الطهر. وضع بذرة لا تنبت إلا بالسيف والدهاء والمكر. في حين أن هذه البذرة كان يقابلها بذرة أخرى شجرتها التقوى وفروعها اليقين وتسقى من حوض فيه ماء لذة للشاربين. مات المغيرة سنة خمسين بعد أن ضربه الطاعون (2). وفي سنة اثنين وخمسين مات زياد ابن أبيه، ذراع معاوية،

____________

(1) رواه الطبراني عن معاذ، وابن عساكر عن ابن مسعود (كنز 216 / 1).

(2) الطبري 131 / 6.

الصفحة 252
مات بالطاعون بعد أن فعل الأفاعيل بأمة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم:

ومات سمرة بن جندب الذي قتل من المسلمين ثمانية آلاف، وعند ما قيل له: هل تخاف أن تكون قد قتلت بريئا قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت (1). وروي أنه قال في آخر أيام حياته وبعد أن فقد منصبه: لعن الله معاوية، والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا (2). ومات عمرو بن العاص الذي نظر إليه عمر بن الخطاب يوما وقال: " ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا. (3).

وروي أن ابن العاص عندما احتضر حول وجهه إلى الجدار وقال: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية أنه جزع جزعا شديدا، فلما رأى ذلك ابنه عبد الله قال: يا أبا عبد الله ما هذا الجزع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك؟ قال: أي بني: وسأخبرك عن ذلك، أما والله. ما أدري أحبا كان ذلك أم تألفا يتألفني (4).

ومات أيضا معاوية بن أبي سفيان بن حرب، كان عمر بن الخطاب يقول للناس: " أتذكرون كسرى وعندكم معاوية " (5)، ويقول لهم: " دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب، ولا ينال منه إلا على الرضا " (6)، وإذا قال له معاوية: مرني يا أمير المؤمنين بما شئت. يقول له عمر: لا آمرك ولا أنهاك (7). وعندما استعمله عمر كتبت هند بنت عتبة إلى معاوية: إن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت. وكتب إليه

____________

(1) الطبري 132 / 6.

(2) الطبري 164 / 6.

(3) الإصابة 3 / 5.

(4) قال الهيثمي في الصحيح طرف منه ورواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 353 / 9).

(5) الطبري 184 / 6.

(6) البداية والنهاية 124 / 8، الديلمي (كنز العمال 587 / 13).

(7) البداية والنهاية 125 / 8، الطبري 184 / 6.

الصفحة 253
أبوه: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة وصرنا أتباعا، قد ولوك جسيما من أمورهم، فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد، فنافس فإن بلغته أورثته عقبك (1).

لقد ذهب جيل عاصر حذيفة الذي كان يصلي سرا، وجاء جيل آخر على أكتافه تضيع الصلاة ويشق شعر الأديرة وشعر المجون طريقه على أيدي الأقيشر، وحنين الحيرى، والثرفواني، وبكر بن خارجة، وغيرهم من الذين سلموا أعلامهم إلى خليفة ماجن متهتك خليع، نسي أنه خليفة للمسلمين، واندفع في حياة لاهية مستهترة، وهذا الخليفة هو الوليد بن يزيد، وهو فرع أخير من فروع شجرة بني أمية (2).

والجيل الذي ذهب وضع على رقبة الأمة من هو أشد. وروي أن يزيد بن معاوية عندما جلس على أريكة الملك وقام بأبهته، استشار مستشاره النصراني سرجون. ذكر ابن كثير: أن سرجون الرومي كان كاتبا لمعاوية وصاحبا لأمره (3). وقال: عندما تولى يزيد أقر نواب أبيه ولم يعزل أحدا منهم وهذا من ذكاء يزيد (4). وقال ابن حجر في الإصابة: سرجون مستشار يزيد هو الذي أشار عليه بتولية عبيد الله بن زياد الكوفة ليتصدى لأتباع الحسين (5). وذكر الطبري: لما اجتمعت الكتب عند يزيد، دعا يزيد سرجون وقال له: ما رأيك فإن حسينا قد توجه نحو الكوفة. فقال سرجون:

أرأيت معاوية لو بعث لك كنت آخذا برأيه؟ قال يزيد: نعم. فأخرج سرجون عهد عبيد الله على الكوفة، وقال: هذا رأي معاوية وقد أمر بهذا

____________

(1) البداية والنهاية 118 / 8.

(2) راجع سيرته وأخباره وأقوال العلماء فيه في البداية والنهاية 6، 7، 8، 9، 10، 11 / 10.

(3) البداية والنهاية 21 / 8.

(4) ابن كثير البداية والنهاية 146 / 8.

(5) الإصابة 16 / 2.

الصفحة 254
الكتاب (1)، فمعاوية وسرجون كتبا الكتب وأودعوها الخزائن، فكل حدث يحدث له في الخزينة كتاب، وسنرى فيما بعد عهد معاوية ليزيد في أحداث الحرة، حيث أوصى معاوية لمسلم بن عقبة ليذل به الأنصار.

وبينما كان سرجون يخطط في دار الخلافة، كان مروان بن الحكم يخدمه في مكان آخر سواء أكان في الحكم أو في خارجه. فهو في هذه الآونة كبير بني أمية، وبكر أبناء الحكم بن العاص الذي لعنه النبي صلى الله عليه وسلم ومروان في صلبه. وبين هؤلاء وقف عبد الله بن الزبير، وكان قد تثاقل عن مبايعة يزيد، وذهب إلى مكة ودعا الناس إليه، وعبد الله كان علما من أعلام يوم الجمل، وهو الذي أفسد أبيه، وكان الكرسي أملا من آماله.

وبعيدا عن هؤلاء وقف عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولم يكن مصدر خطورة لأحد، فهو لم ينصر علي وبايع يزيد، ووقف في وجه الخارجين عليه يوم الحرة، ثم بايع عبد الملك بن مروان. وبعد ضرب الكعبة طاف ابن عمر بها، وطاف معه الحجاج بن يوسف. وكان قد أمره عبد الملك أن يأخذ مناسكه عن عبد الله وسيأتي ذلك في موضعه.

والخلاصة: كانت الأحداث على أبواب خروج الحسين، يديرها سرجون ومعاوية - وإن كان قد مات - ويزيد، وكان ربان السفينة عبيد الله بن زياد، السفاح الذي تتوارى أمامه خجلا أفعال بسر بن أرطأة، وسمرة بن جندب، وغيرهما رغم قسوتها. وكانت الأحداث تبشر بثقافة لا تنتج إلا جيلا متسلقا يبحث عن السلطة، أو جيلا حاملا ليس عنده المقدرة ليميز بين الصالح وبين الطالح، وبين ما هو رجس وما هو طاهر. وبالجملة: كان الجيل الأول في القرن الأول أمام امتحان لا إجبار فيه، إما أن يختار يزيد ويقف معه لتصفية معارضيه، كابن الزبير والخوارج ليستقيم الملك للأسرة الأموية، وإما أن ينقبوا فيما حولهم ويقرءون الأحداث على وجهها الفطري، بعيدا عن زخرف أعلام المعارضة، وبريق

____________

(1) الطبري 200 / 6.

الصفحة 255
أهدافها التي ما هي إلا سراب. ويساعدهم في ذلك مخزونهم الفطري الذي هو حجة بذاته، وما حفر في دائرة ذهنهم من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يختاروا لأنفسهم الدائرة التي لا ترى عندها زخرفا أو بريقا، وإنما أخبار بحياة كريمة من ورائها موت وبعث وحساب، يترتب عليه أما جنة وإما نار...

لقد كانت الساحة تعج بأعلام الزينة والإغواء وعلى طرقها تسير قوافل الاحتناك، وكانت هناك حجة من الله على هذا الأعلام وهذه القوافل، حتى لا تكون لهم على الله حجة يوم القيامة. وحجة الله ظاهرة ولا تفرض نفسها على أحد، وإنما تأخذ الحجة بالأسباب في مخاطبة الناس كي يساعدهم ذلك في الالتفاف حول طوق النجاة.. وشاء الله أن يكون الحجة في هذه الساحة مقتولا، وشاء الله أن يكون الناس على علم بأنه مقتول حتما، وشاء سبحانه أن يكون في الخندق المقابل للحجة أهل دنيا معهم الأعلام التي يزينها البريق، وهنا يكون الابتلاء - فمن سيقف في ساحة الدماء؟ ومن سيقف في ساحة الدينار والدرهم؟

إن الجيل الأول في القرن الأول كان في مفترق طرق. لأن الحجة في سنن الوجود يحب أن يهرع إليه الناس ما دام فيه من الله برهان. لأن الناس مطالبون بحركة لينظر الله كيف يعملون، قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " (1). فالخطوة الأولى منهم، فإذا جاهدوا فيه عند المقدمة، ترتب على ذلك عطاء الله إن كانوا صادقين. وقال تعالى: " ولينصرن الله من ينصره " (2)، وقال: " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " (3)، لقد آمنوا أولا فزادهم الله هدى، فإذا هرع الناس إلى الحجة، سلك بهم طرق الدنيا عن طريق الدين.

فالدين طريقة خاصة في الحياة تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية. والسعادة الحقيقية يصل إليها الإنسان. أو يعمل في الوصول إليها. عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت.

____________

(1) سورة العنكبوت: الآية 69.

(2) سورة الحج: الآية 40.

(3) سورة الكهف: الآية 13.

الصفحة 256


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net