متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
سابعا - التخويف والإرهاب
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

سابعا - التخويف والإرهاب:

كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد: كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا، حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله والسلام (3). ولقد بينا كيف دخل ابن زياد الكوفة وعلى رأسه عمامة سوداء، وماذا قال للناس عندما خطبهم وكان قد خطب في أهل البصرة من قبل وهددهم.

وروي أن ابن عقيل نزل في الكوفة على دار هانئ بن عروة، وكان الشيعة يتكتمون أخباره خوفا عليه من ابن زياد. ولكي يصل ابن زياد إلى ابن عقيل وأصحابه، دعا مولى له يقال له: معقل وقال له: خذ ثلاثة آلاف درهم ثم اطلب مسلم بن عقيل، واطلب لنا أصحابه، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف وقل لهم:

____________

(1) الطبري 224 / 6.

(2) الطبري 216 / 6.

(3) الطبري 200 / 6.

الصفحة 264
استعينوا بها على حرب عدوكم، وأعلمهم أنك منهم. ففعل الرجل ذلك، فجاء إلى المسجد وسمع الناس يقولون: هذا يبايع للحسين، فتقدم وقال: يا عبد الله إني أمرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع. أنعم الله علي بحب هذا البيت وحب من أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنت أريد لقاءه، فلم أجد أحدا يدلني عليه ولا يعرف مكانه. وإني لجالس آنفا في المسجد. إذ سمعت نفرا من المسلمين يقولون. هذا رجل له علم بأهل البيت، وإني أتيتك لتقبض هذا المال. وتدخلني على صاحبك فأبايعه. وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه... فشكره الرجل ودعا له وقال له: لقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى، مخافة هذا الطاغية وسطوته.. وأخذ بيعته وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحن وليكتمن. فأعطاه من ذلك ما رضي به (1)، ثم إن معقلا مولى ابن زياد ذهب إلى واحد من أتباع ابن عقيل، وهو مسلم بن عوسجة ليدخله على ابن عقيل. فأقبل به حتى أدخله عليه، وأصبح معقل أول داخل وآخر خارج يسمع أخبارهم ويعلم أسرارهم، ثم ينطلق بها حتى يقرها في أذن ابن زياد (1)، وروي أن ابن زياد بعد أن أخذ جميع احتياطاته الأمنية. بعث إلى هانئ بن عروة الذي ينزل في داره ابن عقيل وقال له: إيه يا هانئ بن عروة، ما هذه الأمور التي تربض في دورك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك وظننت أن ذلك يخفى علي (2).

ثم دعا ابن زياد معقلا ذلك العين، فجاء حتى وقف بين يديه فقال لهانئ:

أتعرف هذا، قال: نعم. وعلم هانئ عند ذلك إنه كان عينا عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم (3). فقال هانئ: آمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض.

____________

(1) الطبري 204 / 6، البداية والنهاية 153 / 8.

(2) الطبري 205 / 6، البداية 154 / 8.

(3) الطبري 205 / 6، البداية 154 / 8.

الصفحة 265
فقال ابن زياد: لا والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به. قال: لا والله لا أجيئك به أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله. فقال: والله لتأتيني به، قال: والله لا آتيك به (1).

فتدخل بينهما رجل فقال: أصلح الله الأمير خلني وإياه أكلمه. فقال له: يا هانئ إني أنشدك الله ألا تقتل نفسك، وتدخل البلاء على قومك وعشيرتك... فادفع الرجل إليه، فإنه ليس عليك بذلك، مخزاه ولا منقصة. إنما تدفعه إلى السلطان قال: بلى والله إن علي في ذلك للخزي والعار. أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان! والله لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر، لم أدفعه حتى أموت دونه. فسمع ابن زياد ذلك فقال: ادنوه مني فأدنوه فقال: والله لتأتينني به أو لأضربن عنقك... ثم قال للعسكر: ادنوه مني فأدنوه فاستعرض وجهه بالقضيب. فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده، حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته. ثم قال: خذوه فألقوه في بيت من البيوت وأغلقوا عليه بابه واجعلوا عليه حرسا (2).

وعندما علم ابن عقيل بما حدث، أمر عبد الله بن حزم أن ينادي في أصحابه، وقد ملأ منهم الدور حوله. وقد بايعه ثمانية عشر ألفا. وفي الدور أربعة آلاف رجل. وتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وعقد ابن عقيل للرجال على القبائل. وسارت الخيل في اتجاه القصر. فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر وغلق الأبواب. وروي عن عباس الجدلي أنه قال: خرجنا مع ابن عقيل في أربعة آلاف فما بلغنا القصر إلا ونحن ثلثمائة (3).

وبينما كانت خيل ابن عقيل تتقدم نحو القصر، كانت أبواق السلطان تتجه نحو دور الكوفة. روي أن ابن زياد دعا كثير بن شهاب وأمره أن يخرج فيمن أطاعه، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم ويحذرهم عقوبة

____________

(1) الطبري 205 / 6.

(2) الطبري 206 / 6، البداية 154 / 8.

(3) الطبري 207 / 6، البداية 154 / 8.

الصفحة 266
السلطان (1). ووقف كثير بن شهاب فقال: أيها الناس الحقوا بأهليكم، ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل. فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت. وقد أعطى الله الأمير عهدا، لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم. أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البرئ بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية. إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها (2).

يقول الطبري: وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا. فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون وأخذوا ينصرفون وروي أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، ويجيئ الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون، حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسا في المسجد، فلما أمسى وليس معه إلا أولئك النفر. خرج متوجها نحو أبواب كنده. فما بلغ الأبواب وما معه منهم عشرة، ثم خرج من الباب. وإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق، ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو.

فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها: طوعة كانت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي. فولدت له بلالا، وبعد أن عرفها بنفسه وأن القوم كذبوه، أدخلته بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه (3).

ومن قصر الإمارة أعلن ابن زياد على أهل الكوفة: إن برئت ذمة الله من رجل وجدنا ابن عقيل في داره ومن جاء به فله ديته. وقال: اتقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، ثم نادى على صاحب

____________

(1) الطبري 207 / 6، البداية 154 / 8.

(2) الطبري 208 / 6.

(3) الطبري 209 / 6، البداية 155 / 8.

الصفحة 267
الشرطة: يا حصين بن تميم ثكلتك أمك، إن صاح باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدة على أفواه السكك، وأصبح غدا واستبر الدور وجس خلالها. حتى تأتيني بهذا الرجل (1)، وروي أن بلال بن أسيد الذي آوت أمه ابن عقيل أخبر الشرطة بمكان ابن عقيل وعندما علم ابن زياد بذلك أمر بإحضاره.. فلما سمع ابن عقيل وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قد أتى، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار. فشد عليهم يضربهم بسيفه. حتى أخرجهم من الدار. وأشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان القصب. فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة فقاتلهم فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال: يا فتى لك الأمان، لا تقتل نفسك فأقبل يقاتلهم وهو يقول:

أقسمت لا أقتل إلا حرا * وإن رأيت الموت شيئا نكرا

وظل يقاتلهم وفد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال. وأسند ظهره إلى جدار الدار، فقال ابن الأشعث: لك الأمان واجتمعوا حوله فقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. وعندما انتزعوا سيفه، دمعت عيناه ثم قال: هذا أول الغدر... أين أمانكم أنا لله وإنا إليه راجعون... وبكى، فقيل له: إن من يطلب مثل الذي تطلب، إذ نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك.

فقال: والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي... ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي. أبكي الحسين وآل حسين. ثم أقبل على بن الأشعث فقال: يا عبد الله إني أراك والله ستعجز عن أماني فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلا، أو هو خارج غدا هو وأهل بيته. فيقول: أن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير، لا يرى أن تمشي حتى تقتل، وهو يقول لك ارجع بأهل بيتك، ولا يغرك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك، الذي كان يتمنى فراقهم

____________

(1) الطبري 210 / 6، البداية 155 / 8.

الصفحة 268
بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لمكذوب رأي.

فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد إني قد أمنتك (1).

وروي أن ابن عقيل عندما دخل على ابن زياد دار بينهما حوار طويل، منه أن ابن زياد قال له: إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله. فقال ابن عقيل: فمن أهله يا ابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد. فقال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم. قال: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا. فقال ابن عقيل: ما هو بالظن ولكنه باليقين. قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال: أما أنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما أنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحق بها منك. فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم حسينا وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم لا يكلمه (2). وكان ابن عقيل قد عرى نظامه فقال له: إن أباك قتل خيار الناس، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر (3). ووصفهم بأنهم يلغون في دماء المسلمين ولغا. ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها، ويقتلون النفس بغير النفس. ويسفكون الدم الحرام. ويقتلون على الغضب والعداوة وسوء الظن. وهم يلهون ويلعبون كأن لم يصنعوا شيئا (4).

وأمر ابن زياد بضرب عنق ابن عقيل فوق سطح القصر، فصعد به وهو يكبر ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ورسله وهو يقول: " اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا وقتلونا " ثم ضرب عنقه (5) وروي أنهم أحضروا هانئ بن عروة من السجن. حتى انتهوا به إلى مكان من السوق كان يباع فيه

____________

(1) الطبري 211 / 6.

(2) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.

(3) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.

(4) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.

(5) الطبري 213 / 6، البداية 156 / 8.

الصفحة 269
الغنم وهو مكتوف. وعندما لم يجد أحدا من قبيلته يدافع عنه، جذب يده فنزعها.

من الكتاف ثم قال: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم. فوثبوا عليه، فضربه رجل بالسيف فلم يصنع سيفه شيئا، فقال هانئ: إلى الله المعاد اللهم إلى رحمتك ورضوانك. ثم ضربه الرجل أخرى فقتله (1).

وكتب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية: " الحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه وكفاه مؤنة عدوه "، ثم أخبره بما تم من لجوء ابن عقيل إلى دار هانئ وإنه جعل عليهما العيون ودس إليهما الرجال، إلى آخر القصة، ثم قال: " وقد بعثت إليك برؤوسهما... " والسلام فكتب يزيد بن معاوية، فأخبره بأنه عنده قد عمل عمل الحازم، وصال صولة الشجاع الرابط الجأش ثم قال له: " إنه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس على الظن. وخذ على التهمة غير أن لا تقتل إلا من قاتلك واكتب إلي - في كل ما يحدث من الخبر - والسلام " (2) وهكذا نزل الستار على رسول الحسين، ومما سبق رأينا أن الجماهير خذلت الحسين، لأن الدولة الأموية أرهبت الجماهير. أرهبتهم بصورة تأنف منها الفطرة. فإذا كان الخوف من الأمور الفطرية، فيجب أن يتم التعامل مع الإنسان بما لا يرعب الخوف الفطري، إن الإسلام نهى عن ترويع المسلم، بل ووضع أسس راقية للتعامل مع الحيوان والطير والنبات. فإذا جئت بقانون فيه: " أخذ البرئ بالسقيم، والشاهد بالغائب " و " لئن بلغني عن رجل منكم خلافا لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقسى " و " احترس من السلطان فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وقليلة يغلب كثير من الناس " فمثل هذا القانون لا علاقة له بالإسلام. وقانون مثل هذا يكون حجر عثرة في طريق الفطرة لأن الاختيار فيه لا يتم إلا بعقل السلطان وعينه. بمعنى أن الناس لا يرون إلا ما يرى السلطان. وهذا في حد ذاته ضد طبيعة الوجود لأنه ينتج إنسانا مشوها.

____________

(1) الطبري 214 / 6، البداية 157 / 8.

(2) الطبري 215 / 6، البداية والنهاية 165 / 8.

الصفحة 270
والإنسان لا بد له من حركة لأن سنة الوجود أن ينظر الله إلى خلقه كيف يعملون.

إن التخويف والإرهاب يضرب بصورة أو بأخرى دائرة الاختيار، بل ويجتث شجرة الحرية الحقيقية التي تتغذى بماء الفطرة، ولما كانت الدولة الأموية قد عملت من أجل تنمية شجرة الارهاب، ولما كانت هذه الشجرة قد وضعت عليها عباءة القداسة والدين، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من خمسين عاما، وهذا يمثل خطرا على الأجيال وحتى قيام الساعة، فإن الحسين بن علي إذا كان له رأي في الذين خذلوه، فإن حركته ستكون نحو الجذور أي نحو صناع الارهاب. وهذه الحركة ليست من أجل وقف الارهاب، وإنما لوضع لباس العار الذي ما بعده عار على رؤوس صناع التخويف والإرهاب حتى يرث الله الأرض ومن عليها.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net