متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
تاسعا - وجاء الطغاة
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

تاسعا - وجاء الطغاة:

في الكوفة بدأت القيادة العليا تعد العدة للقضاء على الحسين ومن معه، وكانت الخطوة الأولى نحو هذا الهدف أمر القيادة الصادر إلى الحر بن يزيد، الذي يلازم الحسين ويسير معه كظله، وفيه: أما بعد، فجعجع بالحسين حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلازمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري " (1).

وبعد أن قرأ الحر البيان قال للحسين هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد، وهذا رسوله. فنظر أحد أتباع الحسين إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له: ثكلتك أمك، ماذا جئت فيه؟ فقال له: وما جئت فيه أطعت إمامي ووفيت ببيعتي، فقال: عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك، كسبت العار والنار، قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) فهو إمامك (2).

وسار الحسين والحر بن يزيد يرفض أن تنزل قافلة الحسين إلى أي مكان به ماء، وروي أن زهير بن القين قال للحسين: يا ابن رسول الله، إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم... فقال الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال، فقال له زهير: سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها، فإنها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم. فقال الحسين: وأية قرية هي قال: هي العقر، فقال: اللهم إني أعوذ بك من العقر (3).

____________

(1) الطبري 232 / 6.

(2) الطبري 232 / 6.

(3) الطبري 232 / 6.

الصفحة 280
وبينما كان الحسين في قرية العقر، كان ابن زياد قد بعث إليه بقوة عسكرية تحت قيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص. وكان ابن زياد قد كتب لعمر ولاية الري إذا رجع من حرب الحسنين، فجد الرجل وشمر عن ساعده (1). وعندما جاء بعث إلى الحسين يسأله ما الذي جاء به، وماذا يريد؟ فأخبر الحسين رسوله:

كتب إلي أهل مصركم هذا أن أقدم، فأما إذ كرهوني فأنا انصرف عنهم (2) وبهذا الرد طوق الحسين النظام بطوق الحجة، لقد أخبرهم أن الأشراف وغيرهم كتبوا إليه ومعه الدليل على ذلك. فإذا كانوا قد كرهوه فقد كان عليهم أن يبينوا له ذلك، وعندئذ ينصرف عنهم. ولكن الحال الآن أنه لا يراهم وإنما يرى جنودا مجندة تنتشر حوله في كل مكان. فإذا كان الجند قد جاؤوا ليبلغوه رد الذين كتبوا إليه، فهو على استعداد أيضا للانصراف.

ولقد كان في هذا الرد ما أزاح الستار عن وجه السياسة الأموية، فعندما كتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: " أما بعد فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد، وآتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم. فأنا منصرف عنهم " (3). قال ابن زياد:

الآن إذا علقت مخالبنا به * يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد: أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت.

فأعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه. فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام (4). فالتيار الأموي رفض تقديم أي دليل يثبت أن الناس كرهوا الحسين، بل ورفض أن تقوم قواته المسلحة بإبلاغ الحسين أن الناس قد كرهوه، لأن تقديم ذلك إليه سيؤدي إلى نجاته، وهم لا يريدون ذلك.

____________

(1) الإصابة 17 / 2، الطبري 233 / 6.

(2) الطبري 334 / 6.

(3) الطبري 334 / 6.

(4) الطبري 334 / 6.

الصفحة 281
باختصار: كان التيار الأموي قد سبح شوطا طويلا في مستنقعات الأوحال. حيث البغي والنكث والفساد في الأرض... لقد رفضوا إظهار بينة، وهذا من أمور الدين. وطالبوه بمبايعة يزيد بن معاوية، وهذا ليس من أمور الفطرة. وأوصاف يزيد التي اتفق عليها العلماء تثبت ذلك. والذين قالوا إن الحسين طلب أن يضع يده في يد يزيد أو طلب منهم أن يسيروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين لم يصيبوا الحقيقة، لأن هذه الأقوال لا تستقيم مع المقدمات، وإذا كانت هناك أحاديث قد روت هذا، فإن هناك ما يعارضها فعن عقبة بن سمعان قال: صحبت حسينا فخرجت معه من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل. وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة. ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها. ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس. وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسير إلى ثغر من ثغور المسلمين ولكنه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير من أمر الناس (1). فهذا القول يستقيم مع المقدمة وفيه حجة على القوم الذي يريدون قتله.

وبعد وصول كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد، صدر إليه الأمر التالي: من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد. أما بعد، فخل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان ". فبعث عمر بن سعد خمسمائة فارس، على رأسهم عمرو بن الحجاج، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث. وبينما جنود بني أمية عند الماء، نادى عبد الله بن أبي حصين على الحسين وقال: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا. فقال الحسين: اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا.

روي أن حميد بن مسلم قال: إنه شاهد ابن أبي حصين بعد ذلك في

____________

(1) الطبري 335 / 6، البداية 175 / 8.

الصفحة 282
مرضه. فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى يغر، ثم يقئ، ثم يعود فيشرب حق يقر، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ نفسه (1).

ورغم قرار منع الماء عن الحسين إلا أن فوارس الحسين كانوا يحصلون على الماء، بدفع الحراس عنها بين حين وآخر (2). وروي أن عمر بن سعد كان يريد أن يفتح بابا للسلامة والعافية، فكتب إلى ابن زياد بذلك، فبعث إليه ابن زياد كتاب مع شمر بن ذي الجوشن، وقال لشمر: أخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما، وإن هم أبو فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى فقاتلهم، فأنت أمير الناس، وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه (3). وكانت الرسالة التي حملها شمر إلى عمر بن سعد، تحمل في مضمونها أمر القتال، وفيها: أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا. انظر، فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فأبث بهم إلي سلما. وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم، إن أنت مضيت لأمرنا فيه، جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا... " (4).

وعندما حمل شمر الرسالة إلى عمر بن سعد واطلع عليها قال شمر:

أخبرني ما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر، فقال له: لا ولا كرامة لك، وأنا أتولى ذلك (5). ونادى

____________

(1) الطبري 334 / 6.

(2) الطبري 334 / 6.

(3) الطبري 336 / 6، البداية 172 / 8.

(4) الطبري 336 / 6، البداية 175 / 8.

(5) الطبري 337 / 6، البداية 175 / 1.

الصفحة 283
عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وابشري! فركب في الناس، ثم زحف نحو الحسين بعد صلاة العصر وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت: يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت. فرفع الحسين رأسه وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا (1).

وبينما كانت الخيل تتقدم، اتجه العباس بن علي إليهم، وعندما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية، حتى ينظر في هذا الأمر.... فإذا أصبحنا التقينا. وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمر بأمره، ويوصي أهله. فجاء رسول من قبل عمر بن سعد إلى معسكر الحسين وقال: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد وإن أبيتم فلسنا تاركيكم (2). وأثناء الليل جمع الحسين أصحابه وقال: إني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي. ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا خيرا. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا. إلا وإني قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غير (3).

فقال له أخوته وأبناؤه، وبنو أخيه، وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدا. وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلي عنك، ولما نعذر إلى الله في أداء حقك، أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. وتكلم جماعة

____________

(1) الطبري 337 / 6.

(2) الطبري 238 / 6.

(3) البداية 176 / 8، الطبري 239 / 6.

الصفحة 284
من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا، وجباهنا، وأيدينا، فإذا نحن قتلنا، كنا وفينا وقضينا ما علينا (1).

وقام الحسين وأصحابه إلى الصلاة، فقاموا الليل كله، يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون. والحسين يقرأ قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرا لأنفسهم. إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) (2).

وفي الصباح، وكان يوم سبت، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، خرج الحسين فيمن معه من الناس. وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فعبأهم وصلى بهم صلاة الغداة، وجعل البيوت في ظهورهم وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت تحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم (3). وكل ذلك من باب الأخذ بالأسباب. وروي أن الحسين رفع يده ودعا الله تعالى، فلما دنا منه القوم، دعا براحلته، فركبها ثم نادى بأعلى صوته: أيها الناس، اسمعوا قولي، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما هو حق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل. وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم " فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة. ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. " فلما سمع أخواته كلامه هذا، صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن. فأرسل إليهن أخاه العباس بن علي، وعليا ابنه، وقال لهما: أسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن. فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملائكته وأنبيائه، يقول الضحاك: فوالله ما

____________

(1) البداية 177 / 8، الطبري 239 / 6.

(2) الطبري 240 / 6، البداية 178 / 8.

(3) الطبري 241 / 6.

الصفحة 285
سمعت متكلما قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه. ثم قال الحسين: أما بعد، فانسبوني، فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا أهل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم صلى الله عليه وسلم، وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه.

أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي. أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي، أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ولأخي: " هذان سيدا شباب أهل الجنة "، فإن صدقتموني بما أقول، وهو الحق والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني، فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولأخي. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي، فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثرا ما أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري لا منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة، أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحه، ثم نادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن ابجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار واخضر الجناب وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند فأقبل؟

فقالوا له: لم نفعل. فقال: سبحان الله، بل والله لقد فعلتم، ثم قال: أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض. فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد، عباد الله " إني عذت بربي وربكم أن ترجمون "، " أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب "، ثم أناخ في راحلته، وأمر عقبة بن سمعان

الصفحة 286
فعقلها وأقبلوا يزحفون نحو (1).

قال كثير بن عبد الله الشعبي: لما زحفنا قبل الحسين، خرج إلينا زهير بن القين فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذران. حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم. ونحن الآن إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم، وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه. وعند ما قال لهم زهير ذلك، سبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما. فقال لهم: عباد الله إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية. فإن لم تنصروهم، فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلوا بين هذا الرجل وبين يزيد بن معاوية... فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اسكت اسكت الله نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك. فأقبل زهير على الناس رافعا صوته: عباد الله، لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه فوالله لا تنال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم قوما هرقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم. فناداه رجل من معسكر الحسين: يا زهير، أن أبا عبد الله يقول لك أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ (2).

وهكذا قامت الحجة عليهم من كل اتجاه، ليقفوا عراة أمام التاريخ، ويقفوا في الدائرة الأضيق عندما يعرضون على الله قاصم الجبارين. وبينما كان أبناء

____________

(1) الطبري 242 / 6، البداية 179 / 8.

(2) الطبري 244 / 6، البداية 180 / 8.

الصفحة 287
ثقافة السب وعبيد الدينار يستعدون لاجتياح معسكر الحسين، كان هناك رجل بين الرجال يراقب الأحداث ويسمع من هذا ومن ذاك، إنه الحر بن يزيد، الذي كانت مهمته، تنحصر في مراقبة الحسين على طول الطريق إلى الكوفة. وروي أن الحر ركب فرسه ونظر إلى معسكر الحسين، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت. فقال له الرجل: يا ابن يزيد والله إن أمرك لمريب. فقال له: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت، ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال له: جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان.. وإني جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم يتوب الله عليك ويغفر لك (1).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net