متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - الشهود
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

2 - الشهود:

بعد أن قدمنا الآراء حول الأحداث، نقدم الشهود على هذه الأحداث بمعنى أن كل مساحة تاريخية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سنقدم شاهدا منها، وفي النهاية يمكن أن نحكم على المسيرة بوجه عام، وهؤلاء الشهود اعتبرهم من الموازين التي يوزن بها الأحداث التي رصدتها في هذا الكتاب، فشهادة الشهود هنا تلتقي مع النتيجة التي انتهى إليها هذا البحث.

وشهود الفترة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقتل عثمان هم

____________

(1) كتب وشخصيات / سيد قطب ص 235، 236، 237، 238، 240، 241، 242، 243.

الصفحة 460
أبي بن كعب وحذيفة بن اليمان، فأما شهادة أبي بن كعب فلقد سجلت حب الناس للدنيا في عهد عمر. روى مسلم عن عبد الله بن الحارث قال: كنت واقفا مع أبي بن كعب فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا " (1)، وأما شهادة حذيفة فلقد سجلت ظهور النفاق، روى البخاري عنه أنه قال: " إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان " (2)، وقال فيما رواه البخاري أيضا: " إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون " (3) وروى البزار بسند صحيح عن أبي وائل قال: قلت لحذيفة النفاق اليوم شر أم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فضرب على جبهته وقال: أوه، هو اليوم ظاهر إنهم كانوا يستخفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4).

أما الحلقة الثانية من الشهود فتمتد حتى عهد الوليد بن عبد الملك. فأبو برزة الأسلمي سجلت شهادته القتال على الملك خلال هذه الفترة. عن أبي المنهال قال: لما كان ابن زياد ومروان بالشام ووثب ابن الزبير بمكة ووثب القراء بالبصرة، انطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي فقال أبي: يا أبا برزة ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فقال: إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ما ترون، وهذه الدنيا أفسدت بينكم، إن ذاك الذي بالشام والله إن يقاتل إلا على الدنيا، وإن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل إلا على الدنيا " (5).

____________

(1) رواه مسلم ك الفتن (الصحيح 19 / 18).

(2) البخاري ك الفتن (الصحيح 231 / 4).

(3) البخاري ك الفتن (الصحيح 230 / 4).

(4) رواه البزار (فتح الباري 74 / 13).

(5) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).

الصفحة 461
وبعد شهادة القتال على الدنيا تأتي شهادة جابر بن عبد الله التي سجل فيها خروج الناس من دين الله أفواجا بعد أن دخلوه أفواجا، فعن أبي عمار قال:

حدثني جار لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاءني جابر يسلم علي، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا (1)، ومات جابر بن عبد الله في عهد عبد الملك، وبعد شهادة جابر تأتي شهادة أنس بن مالك التي سجل فيها ضياع كل شئ، روى البخاري عن الزهري أنه دخل على أنس فوجده يبكي فقال: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة. وهذه الصلاة قد ضيعت "، وعن ابن عمران الجوفي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما أعرف شيئا اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: فأين الصلاة قال:

أولم تصنعون في الصلاة ما قد علمتم " (2).

وقد يقول قائل: ما معنى ضياع الصلاة على الرغم من أن الناس يصلون؟

فنقول: إن معنى الضياع هو تفريغ الصلاة من الخشوع كما فرغ القرآن. من التفسير، والخشوع يبهت إذا ابتعد الإنسان عن المصدر الذي يعله الكتاب والحكمة، ومعنى الضياع أيضا أن يتقرب الإنسان بها إلى الله وهو يعتقد أن الإله يمكن أن يرى وأن له أعضاء ويضحك ويبكي إلى غير ذلك. فالصلاة هنا مصدرها الوحيد عالم الضياع الذي ينتهي إلى هباء ضائع في خلاء، ومن معاني الضياع إدخال ما ليس من الصلاة في الصلاة أو سرقتها، وأول من وضع وتد السرقة من الصلاة معاوية بن أبي سفيان وما زالت سرقته جارية إلى يومنا هذا، يقول الإمام فخر الدين الرازي في تصنيف له في سورة الفاتحة:

روى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه

____________

(1) رواه أحمد والسيوطي في الجامع ورمز له بالحسن (الفتح الرباني 7 / 24).

(2) رواه أحمد والترمذي من غير وجه عن أنس (الفتح الرباني 99 / 1).

الصفحة 462
المهاجرين والأنصار: يا معاوية سرقت الصلاة. أين بسم الله الرحمن الرحيم؟

أين التكبير عند الركوع والسجود؟ فأعاد الصلاة مع للتسمية والتكبير. قال الإمام الشافعي لولا أمر الجهر بالبسملة كان كالأمر المتقرر عند الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الانكار عليه بسبب تركه، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم والدار قطني وقال: إن رجاله ثقات. وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم " (1).

وإذا كان معاوية قد أعاد الصلاة في المدينة، إلا أنه بالشام كان يقودهم إلى عالم ضياع الصلاة، وما فعله معاوية كان خطوة أكمل مسيرتها يزيد وعبيد الله بن زياد، وعبد الملك والحجاج بن يوسف، وأصول خطوات الضياع نجدها في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لينقض الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة " (2).

فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قصيرة كان صحابته الأوفياء يصلون سرا. روى البخاري عن حذيفة أنه قال: ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف " (3)، وفي رواية عند أحمد ومسلم " فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا " (4)، وعندما جاء عصر الوليد لم يكن الأمر يحتاج إلى أي سر لأن كل شئ قد ضاع وأصبح كل إنسان خائف، ولله الأمر والحكم، إنه الطريق الذي ضاعت عليه الصلاة هو نفس الطريق الذي تم فيه.

عزل الراسخون في العلم عن القرآن، ثم تفريغ القرآن نفسه بعد ذلك من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، والطريق الذي ضاعت فيه الصلاة تم تفريغ القرآن فيه هو نفس الطريق الذي رفعت على أعلام اللارواية عن

____________

(1) تبسيط علوم الحديث / نجيب المطيعي ص 68.

(2) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم (كنز العمال 238 / 1).

(3) رواه البخاري (الصحيح 180 / 2) ك الجهاد والسير.

(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 40 / 23) مسلم (الصحيح 179 / 2).

الصفحة 463
رسول الله، فبعد كل هذا لا عجب إذا رأيت النتيجة بعد ستين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: " يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا. ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر " (1).

أنظر إلى قوله: " يكون خلف " ثم تدبر القول، وعندئذ سترى طابورا طويلا يعرف بعضهم بعضا وإن لم يلتقوا، ثم انظر إلى قوله: " يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم " ثم إرجع وتدبر عملية العزل والتفريغ، وعندئذ ستعلم أن هؤلاء نتيجة لا غبار عليها لمقدمة لا غبار عليها، ثم انظر إلى قوله: " ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر "، ثم ارجع وتدبر المعارك من أجل إقامة الدين والمعارك من أجل طلب الدنيا. أنظر! إن الجميع هنا وهناك يقرأون القرآن، ولكن لكل قراءة قبله، فالمنافق كافر به، والفاجر يتأكل منه، والمؤمن يؤمن به. الجميع يقفون على أرض واحدة وتحت أعلام الإسلام، ولكن الأهداف تحت الأعلام ليست واحدة.

نعم. إن الجميع يقرأون القرآن، ولكن هل القرآن شفاء للجميع؟ عليك أن تتدبر قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (2)، هل تدبرت؟ إن كل حركة في هذا الكون تخضع لرواية، وكل ساكن في هذا الكون منظور، وما تسقط من ورقة إلا ويعلمها الذي خلقها، وكذلك الذين تفرقوا لن يجدي عنهم قراءة القرآن الذي لا يجاوز تراقيهم، فهم تحت الرقابة ينظر الله كيف يعملون. وسبحانه يعلم من قبل أن يتفرقوا أنهم سيتفرقون وأن طريق الافتراق سيقودهم إلى سنن الذين من قبلهم، وهناك تراهم على منحدرات الأودية كالغثاء العفن قال النبي صلى الله عليه

____________

(1) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 231 / 6) وقال ابن كثير تفرد به أحمد وإسناده جيد قوي (البداية 228 / 6) ولم يتفرد به أحمد كما زعم ابن كثير. ورواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 507 / 4) ورواه البيهقي (الخصائص الكبرى 236 / 2) ورواه ابن حبان في صحيحه (كنز 195 / 11).

(2) سورة الإسراء: الآية 82.

الصفحة 464
وسلم: " إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلك سبعون فرقة خلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة. قيل يا رسول الله من تلك الفرقة؟ قال: الجماعة الجماعة " (1).

أنظر إلى قوله: " الجماعة الجماعة " ثم انظر إلى الساحة التي يقرأ القرآن فيها ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر، ثم تدبر الأحداث والدوائر هل رأيت الجماعة؟

دعنا نكرر النظر ونعيد البحث، وهيا ننظر من جديد.

والقرآن وتفسير النبي أخبرا بأن بعد الاختلاف والافتراق يكون الطريق مفتوحا إلى سنن الأمم السابقة. قال تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم * كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون) (2)، إن المنافقين والكفار في صدر الآية، فافهم ذلك، أما تفسير النبي لهذه الآيات رواه ابن جرير عن الربيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:

حذركم الله أن تحدثوا في الإسلام حدثا، وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة، إنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وأن الفتن عائدة كما بدأت. وروى ابن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتأخذن كما أخذ الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع.

حتى لو أن أحد من أولئك دخل حجر ضب لدخلتموه " (3)، وروى ابن كثير عن ابن عباس أنه قال: ما أشبه الليلة بالبارحة " كالذين من قبلكم " هؤلاء بنو إسرائيل

____________

(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 6 / 24) والترمذي وصححه (الجامع 45 / 4) وابن أبي عاصم وقال الألباني صحيح وله ست طرق عن أنس وشواهد من جميع الصحابة (كتاب السنة 32 / 1).

(2) سورة التوبة: الآية 68 - 69.

(3) ابن جرير في تفسيره 122 / 10.

الصفحة 465
شبهنا بهم، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه " (1) لقد شهد ابن عباس " ما أشبه الليلة بالبارحة " ويا لها من شهادة!.

وإذا أردنا أن نرصد شهادة على المساحة الزمنية الممتدة حتى عام 161 ه‍ فلن نجد أفضل من شهادة سفيان الثوري، فلقد جاء في زمن لا يدري فيه القاتل في أي شئ قتل ولا يدري المقتول في أي شئ قتل (2). يقول ابن كثير: سفيان الثوري أحد أئمة الإسلام وعبادهم والمقتدى به، وقال يحيى بن معين وغير واحد: هو أمير المؤمنين في الحديث وقال شعبة: ساد الناس بالورع في زمانه وقال أحمد: لا يتقدمه في قلبي أحد (3). وكان سفيان كثير الحط على المنصور لظلمه وأراد المنصور قتله مما أمهله الله (4). وحاول المهدي إغراؤه بالمال والمنصب وكتب له على قضاء الكوفة، فرمى سفيان الكتاب في دجلة وهرب (5). وكان يقول: من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فهو شريكهم في كل دم (6). وعندما قرأ حديث " هلاك أمتي على أيدي غلمة من قريش سفهاء " قال:

ما أشبه طعامهم إلا بطعام الدجال (7). وكان يقول ليوسف بن أسباط: يا يوسف لا تكن من قراء الملوك، ولا تكن فقيه السوق، وما أقبح قراءة ليس معها زهد، وأن دعاك الملوك على أن تقرأ عليهم (قل هو الله أحد) فلا تفعل (8). وقال له: ما رأينا الزهد في شئ أقل منه في الرآسة، ترى الرجل يزهد في المال والثياب والمطعم، فإذا نوزع في الرياسة، جابى عليها وعادى (9).

____________

(1) ابن جرير في تفسيره 368 / 2.

(2) الحديث رواه مسلم (الصحيح 34 / 18).

(3) البداية والنهاية 134 / 10، شذرات الذهب / ابن العماد 250 / 1.

(4) شذرات الذهب 250 / 1.

(5) شذرات الذهب 250 / 1.

(6) كتاب الورع / أحمد بن حنبل ص 93.

(7) المصدر السابق ص 94.

(8) المصدر السابق 95.

(9) المصدر السابق 96.

الصفحة 466
كانت هذه حركة سفيان حتى وفاته عام 161 ه‍ وإذا أردنا أن نقدم شهادة سفيان فإننا في الوقت نفسه نقدم حركته. وفي شهادته على عصره سألوه معاملة الأمراء أحب إليك أم غيرهم؟ فقال: معاملة اليهود والنصارى أحب إلي من معاملة هؤلاء الأمراء (1). وقال: القبول مما في أيديهم من استحلال المحارم، والتبسم في وجوههم علامة الرضا بفعالهم، وإدمان النظر إليهم يميت القلب (2). وقال: لا تنظروا إلى الأئمة المضلين إلا بإنكار قلوبكم عليهم لئلا تحبط أعمالكم (3).

هذا هو سفيان الثوري الذي وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، ولكن أين ذهب فقه هذا الشيخ؟ وقد قال عنه ابن العماد: ومات سفيان بالبصرة متواريا، وكان صاحب مذهب، وقال ابن رجب: وجد في آخر القرن الرابع سفيانيون ومناقبه تحتمل مجلدات " (4)، في الحقيقة ما كان لفقه الباحث عن الحقيقة أن يبقى في عالم طعامه أشبه بطعام الدجال. لقد رفسوا فقهه بعد مماته بعد أن رفسوه في حياته، ولقد تتبعت رحلة البحث لهذا الشيخ فما وجدت عليها إلا التعتيم الشديد، الأمر الذي دعاني للبحث عنه في مصادر عديدة كي أقف على ما وصل إليه، وفي بحار الأنوار قرأت أن سفيان الثوري سمع حديثا يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: نعيت إلى نفسي.... نصر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، أيها الناس إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ولن تزلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي

____________

(1) المصدر السابق 96.

(2) المصدر السابق 96.

(3) المصدر السابق 96.

(4) شذرات الذهب 251 / 1.

الصفحة 467
الحوض " (1)، وعندما سمع سفيان الثوري هذا الحديث الذي جاءه عن طريق أهل البيت قال لصاحبه: كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث. فقال صاحب سفيان: ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل قد عرفناه والنصيحة لأئمة المسلمين، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم؟

معاوية بن أبي سفيان ويزيد معاوية ومروان بن الحكم وكل من لا تجوز شهادته عندنا ولا تجوز الصلاة خلفهم. وقوله: واللزوم لجماعتهم، فأي جماعة؟ مرجئ يقول: من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبريل وميكائيل، أو قدري يقول: لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس، أو حروري يبرأ من علي بن أبي طالب وشهد عليه بالكفر، أو جهمي يقول: إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شئ غيرها (2). فقال له سفيان: ويحك وأي شئ يقولون قال: يقولون: إن عليا والله الإمام الذي يجب علينا نصيحته ولزوم جماعة أهل بيته " (3).

وسمع سفيان حديث " من قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتلنا مع الدجال " (4).

عندئذ علم سفيان أن الأمراء ما أشبه طعامهم إلا بطعام الدجال (5). وبدأ يمسك بخيط البحث عن الحقيقة. روى أبو الفرج الأصفهاني عن أبي عوانة قال: فارقني سفيان على أنه زيدي (6). وانطلق الشيخ في رحلة البحث، واندثر فقهه ومذهبه، وما عند الله خير وأبقى.

وفي دائرة الشهود أمامنا العديد من الرجال والكثير من الأحاديث، وكل دائرة فيها شهادة وكل شهادة حجة بذاتها، وإليك حديثا جاء على لسان أمراء

____________

(1) الرسول تحدث بهذا الحديث في غدير خم. ثم حدث به في مسجد الخيف قبل أن يلقى الرقيق الأعلى (بحار الأنوار 69 - 27).

(2) أي إيمان بلا عمل.

(3) بحار الأنوار 70 / 27.

(4) بحار الأنوار 205 / 27.

(5) الورع / أحمد بن حنبل ص 94.

(6) مقاتل الطالبين ص 141.

الصفحة 468
المؤمنين ليكون شاهدا عليهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: حدثني أمير المؤمنين المأمون حدثني أمير المؤمنين الرشيد حدثني أمير المؤمنين المهدي قال: دخل علي سفيان الثوري، فقلت: حدثني بأحسن فضيلة عندك لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال سفيان: حدثني سلمة بن كهيل عن حجية عن علي بن أبي طالب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى (1). وعن موسى الجهني قال: دخلت على فاطمة بنت علي، فقال لها رفيقي أبو سهل: كم لك؟ قالت: ست وثمانون سنة. قال: ما سمعت من أبيك شيئا؟ قالت: حدثتني أسماء بنت عميس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي " (2).

فهذا الحديث في هذه الأزمنة حجة على الخاص والعام، وبين أيدينا أيضا حديث رواه أبناء الصحابي الجليل عمار بن ياسر، ونقدمه هنا في دائرة الشهود فعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله، ومن أحبه. فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل " (3)، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم من آمن بي وصدقتي فليتول علي بن أبي طالب، فإن ولايته ولايتي وولايتي ولاية الله " (4).

وبين أيدينا حديث رواه أبناء الصحابي أبي رافع، نقدمه أيضا في دائرة الشهود، عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله

____________

(1) رواه ابن النجار (كنز العمال 151 / 13).

(2) رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات (الفتح الرباني 129 / 27).

(3) رواه الطبراني في الكبير وابن عساكر (كنز العمال 610 / 11).

(4) رواه الطبراني في الكبير (كنز 611 / 11).

الصفحة 469
صلى الله عليه وسلم: " من أحب عليا فقد أحبني. ومن أحبني فقد أحب الله. ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله " (1).

وهكذا التقي البدء مع الختام وكل نتيجة سقطت على مقدمتها، وعلى امتداد الرحلة كانت النتائج تنطق بلسان فصيح وكانت المقدمات تشع لتراها العصور البعيدة، وعلى امتداد الزمان كان هناك رجال يتكلمون من كلامهم تنكشف حقائق أمام الباحثين الذي يبحثون عن المقدمات أو الذين يتأملون في النتائج، ومن هذه الأقوال قول الحسن البصري: أفسد أمر الناس اثنان عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت... فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة، والمغيرة بن شعبة الذي بث في معاوية البيعة ليزيد من بعده، ثم خرج يقول: وضعت رجل معاوية في غرز نحس لا يزال فيه إلى يوم القيامة. ثم قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم " (2)، وروي أن الحسن كان ينقم على معاوية أربعة أشياء: قتاله عليا، وقتله حجر بن عدي واستلحاقه زياد بن أبيه ومبايعته ليزيد ابنه " (3)، فهذه شهادة الحسن البصري على بعض أحداث عصره ويمكن بتتبعها أن يصل الباحث إلى مقدماتها، وهناك أيضا شهادة عروة بن بلحة قال: أول ذل دخل على العرب قتل الحسين بن علي وادعاء زياد (4). وفي رواية عن أبي إسحاق بزيادة: وقتل حجر بن عدي (5). وهذه كلها مقدمات لفحص معاوية وفتح خزانته، أما التصنم أمام قول ابن كثير: " إن معاوية هو ستر الصحابة، فإذا كشف الستر اجترأ على ما وراءه " (6)، فإنه لن يقيد باحثا، فالصحابة أجل من أن يندثروا برداء وستر معاوية وأتباعه.

وفي دائرة الشهود نستمع إلى قول الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام،

____________

(1) رواه الطبراني عن ابن أبي رافع وعن أم سلمة (كنز 622 / 11).

(2) تاريخ الخلفاء 192.

(3) البداية والنهاية 130 / 8، الطبري 157 / 6.

(4) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 196 / 9).

(5) مقاتل الطالبين 83، ابن أبي الحديد 18 / 4.

(6) البداية والنهاية 139 / 8.

الصفحة 470
حيث يقرر أن علماء الجرح والتعديل ابتعدوا عن أي قول من الأمراء وأبناء الأمراء خوفا من السيف، وعلى هذا يمكن القول إن كلمة الحق كانت ترتعش على السطور في تلك الأزمنة، ولم تفسح السطور إلا لما يريده النظام، فبينما لا تكتب كلمة واحدة في الأمراء وأبنائهم، نجدهم يجرحون علماء الدراية الذين لا ينامون أمام خزائن السلطان، على سبيل المثال جاء في ترجمة جعفر بن سليمان كما ذكر صاحب كتاب التقريب: جعفر بن سليمان الضبعي أبو سلمان البصري صدوق زاهد لكنه كان يتشيع. وقال في التهذيب: كان جعفر إذا ذكر معاوية شتمه وإذا ذكر عليا قعد يبكي (1). وكان هذا البكاء كافيا لرفسه كما رفس سفيان الثوري من قبل.

وفي الختام أقول: هيا نتفق على أن الجميع خلفاء بما فيهم خلفاء الدولة الأموية والدولة العباسية ومن جاء بعدهم. الجميع بلا استثناء خلفاء ونحن نقر هنا بذلك، ولكن الأهم من هذا كله ممن نأخذ السنة؟ فهنا كما يقولون مربط الفرس. إن العمل بالسنة صفحته القرآن فأي حبل نأخذ به شرط أن يكون قرينا للقرآن؟ إننا هنا لانتصر للقبائل والأحزاب، ولكننا نريد دثار الإسلام وحده، نريد أن نسير في ظلاله، وإذا كانت هناك كلمة، فإني أوجهها للباحثين فأقول:

أقدموا على الإسلام وهو ليس غائبا عنكم، هو فيكم ومعكم حجة عليكم، ولكي تنصهروا فيه فلا بد أن تنتقلوا من دائرة الشعار إلى دائرة الشعور، فدائرة الشعور هي نفسها دائرة الغرباء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء " (2)، قال النووي: أي أن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقي إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ (3). وقيل: ظهر في الغربة وسيعود من بلاد الغربة...

____________

(1) تحفة الأحواذي 214 / 10.

(2) رواه مسلم وابن ماجة والطبراني (كنز العمال 177 / 2).

(3) مسلم بشرح النووي 177 / 2.

الصفحة 471
كونوا في دائرة الغرباء. والغربي هو الذي يفر من مدينة إلى مدينة ومن قلة إلى قلة ومن بلد إلى بلد ومن بر إلى بحر ومن بحر إلى بر، ومن أوراق إلى أوراق حتى يسلم وأني له بالسلامة مع هذه النيران التي طافت بالشرق والغرب وأتت على الحرث والنسل، فكممت الأفواه وأسكتت كل ناطق وحيرت كل لبيب!! ومع هذا كله فالغريب يسير وهو قابض على الجمر، كونوا في دائرة الغرباء لأن هذه الدائرة فيها إخوان النبي صلى الله عليه وسلم. قال السيد المصطفى عليه الصلاة والسلام: " متى ألقى إخواني. قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال:

بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني، أنا إليهم بالأشواق " (1).

وفي الختام أقدم الشاهد الأخير. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

يجئ يوم القيامة المصحف والمسجد والعترة، فيقول المصحف: يا رب حرقوني ومزقوني، ويقول المسجد: يا رب خربوني وعطلوني وضيعوني، وتقول العترة: يا رب طردونا وقتلونا وشردونا. قال النبي: وأجثو بركبتي للخصومة، فيقول الله: ذلك إلي وأنا أولى بذلك " (2).

وأصلي وأسلم على خاتم النبيين محمد النبي الأمي العربي القرشي الهاشمي المكي المدني صلى الله عليه وسلم الطيبين الطاهرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

القاهرة 19 صفر 1414 هـ‍
8 أغسطس 1993 م   

____________

(1) رواه أبو يعلى عن أنس وابن عساكر عن البراء (كنز العمال 184 / 12) ورواه أحمد بلفظ: وددت أني لقيت إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني (كنز العمال 164 / 12).

(2) رواه الديلمي عن جابر. وأحمد والطبراني عن أبي أمامة (كنز العمال 193 / 11).

الصفحة 472


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net