متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
خامساً: عقد الإمامة
الكتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

خامساً: عقد الإمامة

جاء في موسوعة فقه عثمان بن عفان: تنعقد الإمامة عند عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بأحد أمرين: المبايعة أو الغلبة.

1 - المبايعة: وبالمبايعة عقدت الإمارة للخليفتين أبي بكر وعمر، صحيح أن أبا بكر قد رشح عمر بن الخطاب للخلافة، ولكن عمر لم يعتبر نفسه خليفة، وحتى تلقى البيعة من المسلمين، وكانت البيعة لعثمان بن عفان، على نحو آخر، فقد جعل عمر بن الخطاب الإمارة بعده إلى واحد من ستة، يختار من بينهم بالشورى، وهم: عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء بالتعيين، وقال: لا أتحمل أمركم حياً وميتاً، وإن يرد الله بكم خيراً، يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم.

ولما اجتمع هؤلاء الستة تنازل الزبير عن الإمارة لصالح علي بن أبي طالب، وتنازل سعد عن الإمارة إلى عبد الرحمن بن عوف، وتنازل طلحة لصالح عثمان بن عفان، فقال عبد الرحمن بن عوف لعلي وعثمان، أيكما يبرأ من هذا الأمر، فنفوض الأمر إليه، فسكتا، ولم يتنازل واحد منها للآخر، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك، والله علي والإسلام أن أجتهد، فأولي أولاكما بالحق، فقالا: نعم، ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل،

الصفحة 77
وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطعن، فقال كل منهما: نعم.

ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما، ويحصي الآراء، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فظهر له تفضيل الناس ولاية عثمان بن عفان، فاستدعاهما إلى المسجد، وأعلن البيعة لعثمان بن عفان، على ملأ من الناس، وبذلك صار عثمان بن عفان أميراً للمؤمنين بعد عمر بن الخطاب (1).

2 - الغلبة: عثمان بن عفان، رضي الله عنه، يرى أنه إذا خرج رجل على الأمير، واستتب له الأمر، وصار معه الناس، أصبح أميراً شرعياً، لا تجوز مخالفته، فعن عبد الله بن رباح قال: دخلت أنا وأبو قتادة على عثمان وهو محصور، فاستأذناه في الحج، فأذن لنا، فقلنا: يا أمير المؤمنين، قد حضر من أمر هؤلاء ما قد ترى، فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالجماعة، قلنا: فإنا نخاف أن تكون الجماعة مع هؤلاء الذين يخالفونك، قال: إلزموا، الجماعة حيث كانت، قال: فخرجنا من عنده، فلقيت الحسن بن علي داخلاً عليه، فرجعنا معه لنسمع ما يقول، قال: أنا هذا يا أمير المؤمنين، فأمرني بأمرك، قال: إجلس يا ابن أخي حتى يأتي الله بأمره، فإنه لا حاجة لي في الدنيا، أو قال: في القتال، وهذا واضح في أن من صارت الغلبة إليه، واجتمع عليه أمر الناس صار إماماً شرعياً (2).

ويقول الباقلاني: إنما يصير الإمام إماماً بعقد من يعقد له الإمامة من

____________

(1) محمد رواس قلعة جي: موسوعة فقه عثمان بن عفان - نشر جامعة أم القرى - مكة المكرمة 1404 هـ‍/ 1983 ص 72 - 73، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 145 ثم قارن: (محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب ص 163 - 173 من الجزء الأول - بيروت 1990).

(2) موسوعة فقه عثمان بن عفان ص 74، مصنف عبد الرازق 11 / 447.

الصفحة 78
أفاضل المسلمين، الذين هم من أهل الحل والعقد، والمؤتمنين على هذا الشأن، وذلك عن طريق اختيار من تتوفر فيه شروط الإمامة.

ولعل السبب في ذلك أن اجتماع أهل الحل والعقد في سائر أمصار المسلمين بصقع واحد، وإطباقهم على البيعة لرجل واحد متعذر ممتنع، وأن الله تعالى لا يكلف فعل المحال الممتنع، الذي لا يصح فعله ولا تركه، هذا فضلاً عن أن سلف الأمة لم يراعوا في العقد لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، حضور جميع أهل الحل والعقد في أمصار المسلمين، ولا في المدينة أيضاً، وأن عمر بن الخطاب رد الأمر إلى ستة أنفار فقط، وإن كان في غيرهم من يصلح للعقد، وأن أبا بكر عقد لعمر، فتمت إمامته.

هذا ويذهب الباقلاني إلى عدم اشتراط عدد معين لحضور عقد الإمام، فإن حضر نفر من المسلمين تمت البيعة، وقال قوم: إن أقل ما يجب أن يحضر أربعة نفر، ولكن الباقلاني يرى أن هذا ليس بواجب، ولا يملك الرجل من أهل الحل والعقد، عقد الإمامة لنفسه.

وإذا عقد جماعة من أهل الحل والعقد لعدة أئمة في بلدان مختلفة متفرقة، وكانوا كلهم يصلحون للإمامة، فإذا اتفق مثل هذا تصفحت العقود، وتؤملت، ويقر من بدئ بالعقد له، ويقال للباقين: إنزلوا عن الأمر، فإن فعلوا، وإلا قوتلوا على ذلك، وكانوا عصاة في المقام عليها، وإذا لم يعرف الأسبق، وادعى كل واحد منهم أن العقد سبق له، أبطلت سائر العقود، واستؤنف العقد لواحد منهم، أو من غيرهم، وإن أبوا ذلك، قاتلهم الناس عليه، فإن تمكنوا، وإلا فهم في غلبة وفتنة، وعذر من ترك إمامة الإمام، وإن تمكن من العقد لغيرهم، فعل ذلك، وكان الإمام المعقود له حرباً لسائر هؤلاء، حتى يذعنوا، ويرجعوا إلى الطاعة والسداد (1).

____________

(1) القاضي أبو بكر الباقلاني: تمهيد الأوائل، وتلخيص الدلائل - تحقيق عماد الدين أحمد حيدر - بيروت 1987 ص 467 - 470.

الصفحة 79
وأما عقد الإمامة - عند ابن حزم - فبوجوه: أولها، وأفضلها وأصحها: أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره، إماماً بعد موته - سواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه أو عند موته - إذ لا نص، ولا إجماع، على المنع من أحد الوجوه - كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي بكر -.

والثاني: إن مات الإمام، ولم يعهد إلى أحد، أن يبادر رجل مستحق للإمامة، فيدعو لنفسه، ولا منازع له، ففرض أتباعه، والانقياد لبيعته، والتزام إمامته وطاعته، كما فعل علي، إذ قتل عثمان.

والثالث: يعهد الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة، أو إلى أكثر من واحد، كما فعل عمر رضي الله عنه، وقد انعقد الإجماع بالنسبة للطريقة الأخيرة، على عدم جواز أن يؤخر اختيار الخليفة أكثر من ثلاث ليال، منذ اللحظة التي مات فيها الخليفة، استدلالاً بما أشار به عمر على المسلمين في هذا النطاق (1).

ويعقب الدكتور أحمد صبحي في كتابه الزيدية على ذلك، بأن كلام ابن حزم، إنما ينطوي على مجموعة أخطاء تاريخية وتشريعية.

فأما الأخطاء التاريخية: فاعتباره تولية أبي بكر نصاً من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ما لم تقل به فرقة من المسلمين - عدا البكرية للرد على الشيعة - هذا إلى جانب إشارته إلى أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - إنما قد نصب نفسه خليفة، والحقائق التاريخية تقول: إن الناس قد انثالوا عليه من كل جانب يبايعونه، بعد مقتل عثمان، ودون إكراه من أحد، وقد كان أولى بابن حزم أن يعد هذه أصح طرق البيعة (2).

____________

(1) ابن حزم الأندلسي: الفصل في الملل والأهواء والنحل - الجزء الخامس - (ط محمد علي صبيح - القاهرة 1964) ص 9 - 10.

(2) أحمد محمود صبحي: الزيدية - منشأة المعارف - الإسكندرية 1980 ص 26 - 27.

الصفحة 80
هذا فضلاً عن أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قد روي عنه أنه قال:

إن بيعة أبي بكر، كانت فلتة، وقى الله شرها (1)، بل إن هناك رواية تنسب الجملة نفسها إلى أبي بكر، وليس إلى عمر، رضي الله عنها (2)، ولعل أجمل تفسير لكلمة الفاروق عمر، رضوان الله عليه، ما ذهب إليه الدكتور طه حسين (1889 - 1973 م) من أن بيعة أبي بكر لم تتم في أول أمرها عن ملأ من جماعة المسلمين، وعن تشاور، وإحالة للرأي وإنما تمت فجأة (3)، حين اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وهمت أن تؤمر سعداً، وحين حاورهم أبو بكر وصاحباه، فهناك رشح أبو بكر للأنصار عمر، أو أبا عبيدة، وكره هذان أن يتقدما عليه، فأسرعا إلى بيعته، وتبعهم الأنصار، ثم تتام الناس على البيعة بعد ذلك، ولو لم يجتمع الأنصار، ويهموا بتأمير سعد، لجرى أمر البيعة غير هذا المجرى، ثم انتظر الناس بها، حتى يفرغوا من دفن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا اجتمع أهل الرأي من المهاجرين والأنصار، فتذاكروا أمرهم وأمر المسلمين، واختاروا من بينهم خليفة لرسول الله. ومن أجل ذلك كانت بيعة أبي بكر فلتة - فيما روي عن عمر - وقد وقى الله شرها، لأن المسلمين لم ينكروا هذه البيعة، ولم يجادل فيها مجادل منهم، ولا تردد فيها متردد (4)، وإنما أقبلوا فبايعوا أبا بكر راضية

____________

(1) صحيح البخاري 8 / 208 - 210، البلاذري: أنساب الأشراف 1 / 583 - 584 (تحقيق محمد حميد الله - القاهرة 1959)، تاريخ اليعقوبي 2 / 158 (دار بيروت - بيروت 1400 هـ‍/ 1980 م)، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 67 (تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - القاهرة 1383 هـ‍/ 1964 م)، تاريخ الطبري 3 / 205 (دار المعارف 1979)، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2 / 327 (دار صادر، دار بيروت - بيروت 1385 هـ‍/ 1965 م)، المرتضى: الشافي في الإمامة 1 / 241 - 244 (طهران 1301 هـ‍)، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2 / 26 - 40 (دار الفكر - بيروت 1399 هـ‍/ 1979 م)، طه حسين: الشيخان - القاهرة 1992 / 1993 م ص 38.

(2) شرح نهج البلاغة 2 / 50.

(3) يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (2 / 26): وقد أكثر الناس في حديث الفلتة، وذكرها شيوخنا المتكلمون، فقال شيخنا أبو علي، رحمه الله تعالى، الفلتة: ليست الزلة والخطيئة، بل هي البغتة، وما وقع فجأة من غير رؤية ولا مشاورة.

(4) هذا غير صحيح طبقاً لما أوردته المصادر التاريخية، بل والحديثية (أنظر) محمد بيومي مهران:

(الإمام علي بن أبي طالب 1 / 145 - 163 بيروت 1990 م).

الصفحة 81
نفوسهم، مطمئنة إليه قلوبهم وضمائرهم، ثم نصحوا له بعد ذلك، ما عاش فيهم، فلما مرض مرضه الذي توفي فيه، أوصى لعمر بالخلافة على النحو الذي رواه المؤرخون (1).

هذا من الناحية التاريخية، وأما من الناحية التشريعية، فمن الأخطاء، منها: هل يمكن أن يقام حكم شرعي، واجب الطاعة، على مجرد عدم المنع، كما أشار في حديثه عن عهد الخليفة إلى من يليه، وإذا كانت الشرعية لا تمنعه، فهل هذا يجعله أصح وأفضل الطرق الشرعية.

ثم، وهل مجرد تحديد عمر المدة التي ينبغي أن لا يتأخر عنها تولي الخليفة - وهي ثلاثة أيام - هل يصح أن يوصف ذلك بأن الإجماع قد انعقد عليه.

وفي الواقع أن مصادر التشريع أربعة معروفة، ولما لم يكن منها عمل الصحابي، فقد سماه ابن حزم إجماعاً.

وعلى أية حال: فخلاصة القول - فيما يرى الدكتور أحمد صبحي - أنه لا مجال لاستنباط أحكام شرعية من تولي الخلفاء الراشدين، إلا على هذا النحو من التكلف والافتعال، هذا وينبغي التمييز بين جانبين: الجانب الإنساني الفردي، وقد كان في العصور الأولى للإسلام شخصيات، تعد دونما ريب، مثلاً أعلى في السياسة والحكم، فضلاً عن الدين والخلق - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -.

وأما الجانب التشريعي التقنيني الذي يقوم أحكاماً عامة تصلح على مدى الزمن، وهذا ما كان غائباً تماماً. وقد لزم عن هذا الفراغ نتيجتان: الأولى:

____________

(1) طه حسين: الشيخان ص 39 - 40.

الصفحة 82
سهولة تحول الخلافة إلى الملك العضوض القائم على الغلبة ليس غير، والثانية: غياب تشريع يلتزم به الواقع والتطبيق (1).

هذا ويذهب ابن أبي الحديد (2) إلى أن الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها أن يحضر الناس كافة، لأنه لو كان ذلك مشترطاً لأدى إلى أن لا تنعقد إمامة أبداً، لتعذر اجتماع المسلمين من أطراف الأرض، ولكنها تنعقد بعقد

____________

(1) أحمد صبحي: الزيدية ص 26 - 27.

(2) ابن أبي الحديد: هو عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني، أحد جهابذة العلماء، وأثبات المؤرخين، كان فقيهاً أصولياً، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلماً جدلياً نظاراً، اصطنع مذهب الاعتزال، وعليه جادل وناظر، وكان أديباً ناقداً، خبيراً بمحاسن الكلام ومساوئه، وكتاب الفلك الدائر على المثل السائر دليل على رسوخ قدمه في نقد الشعر، وفنون البيان، كما كان متقناً لعلوم اللسان، عارفاً بأخبار العرب، جامعاً لخطبها ومنافراتها.

ولد في المدائن في غرة ذي الحجة عام 586 هـ‍، ونشأ بها، وتلقى على شيوخها، ودرس المذاهب الكلامية فيها، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها، وكان الغالب على أهل المدائن التشيع، فتشيع مثلهم، وحينما انقضت أيام صباه، خف إلى بغداد - حاضرة الخلافة - واختلط بالعلماء من أصحاب المذاهب، ثم جنح إلى الاعتزال، وأصبح - كما يقول صاحب نسمة البحر - معتزلياً جاحظياً في أكثر شرحه لنهج البلاغة، بعد أن كان شيعياً، وفي بغداد نال الحظوة عند الخلفاء العباسيين - وكانوا يضطهدون آل بيت الإمام علي - فأخذ ابن أبي الحديد جوائز بني العباس، ونال عندهم سني المراتب، ورفيع المناصب، فكان كاتباً في دار التشريفات، ثم في الديوان، ثم ناظر البيمارستان، وأخيراً فوض إليه أمر خزائن الكتب في بغداد، وفي كل ذلك كان مرموق الجانب، عزيز المحل، كريم المنزلة، إلى أن مات في عام 656 هـ‍على رأي، 655 هـ‍ على رأي آخر، وذكر ابن الفوطي أنه أدرك سقوط بغداد عام 656 هـ‍، وأهم مصنفاته:

1 - الاعتبار على كتاب الذريعة في أصول الشريعة.

2 - انتقاد المستصفى للغزالي.

3 - الحواشي على كتاب المفصل في النحو.

4 - شرح المحصل للإمام فخر الدين الرازي.

5 - شرح مشكلات الغرر لأبي الحسن البصري في أصول الكلام.

6 - ديوان شعره.

7 - شرح الياقوت لابن نوبخت في الكلام.

8 - الفلك الدائر على المثل السائر - ألفه برسم الخليفة المستنصر.

9 - نقض المحصول في علم الأصول للإمام فخر الدين الرازي.

10 - شرح نهج البلاغة، وغيرهما. (شرح نهج البلاغة (1 / 13 - 22).

الصفحة 83
العلماء وأهل الحل والعقد الحاضرين، ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها، أن يرجعوا من غير سبب يقتضي رجوعهم، ولا يجوز لمن غاب عنها، أن يختار غير من عقد له، بل يكون محجوجاً بعقد الحاضرين، مكلفاً طاعة الإمام المعقود له، وعلى هذا جرت الحال في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وانعقد إجماع المسلمين عليه (1).

وفي الواقع إن هذا الاتجاه لا يعدو أن يكون تفسيراً لقول سيدنا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث يقول: وبعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس، ما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار (2).

وأما عقد الإمامة - عند الماوردي - طبقاً لاختيار الخلفاء الراشدين، فهناك طريقان: أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد - كما وقع بالنسبة لأبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم والثاني: بعهد الإمام من قبل - كما وقع بالنسبة لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه -.

وأما الأولى: وهي اختيار أهل الحل والعقد، فلقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد بهم الإمامة. فذهب رأي إلى أنها لا تنعقد، إلا بجمهور أهل الحل والعقد في كل بلد، ليكون الرضا به عاماً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مدفوع ببيعة أبي بكر بالخلافة، باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

على أن هناك وجهاً آخر للنظر، يذهب أصحابه إلى أنها تنعقد باجتماع خمسة، أو يعقدها أحدهما برضاء الأربعة، استدلالاً بأمرين: أحدهما: أن بيعة أبي بكر، انعقدت بخمسة، اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها - وهم

____________

(1) شرح نهج البلاغة 9 / 329.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 38، وانظر: الإمام محمد عبده: نهج البلاغة ص 199 (دار الشعب - القاهرة 1970 م).

الصفحة 84
عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة، وأما الأمر الثاني: فإن عمر بن الخطاب، جعل الشورى في ستة، ليعقد لأحدهم، برضاء الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.

وهناك وجه ثالث للنظر، يذهب أصحابه إلى أن الإمامة إنما تنعقد بثلاثة، يتولاها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حكماً وشاهدين - كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.

على أن هناك وجهاً رابعاً للنظر، يذهب أصحابه إلى أنها تنعقد بواحد، لأن العباس بن عبد المطلب قال لعلي، رضي الله عنهما: أمدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بايع ابن أخيه، فلا يختلف عليك اثنان ولأنه حكم، وحكم الواحد نافذ (1).

غير أن هناك من اعترض على هذه الآراء، لأسباب منها (أولاً): أن بيعة أبي بكر لم تنعقد بخمسة، اجتمعوا عليها، وإنما انعقدت في اجتماع سقيفة بني ساعدة، وفيها جمع من الأنصار، وعدد من المهاجرين، انتهى إلى بيعة أبي بكر بالخلافة.

ومنها (ثانياً) أن حصر عمر بن الخطاب الشورى في ستة، لا يعني أن العدد مقصود بذاته، وإنما كان لأن هؤلاء الستة، هم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ولو لا قرابة سعيد بن زيد من عمر بن الخطاب - ابن عمه، وزوج أخته فاطمة - لأدخله فيهم، ولكانوا سبعة، ولكنه أخرجه من أهل الشورى تورعاً من أن يختاره لقرابته له، ولو كان ما تبقى من العشرة المبشرين بالجنة، أقل من ستة، لحصر الاختيار فيهم، فالعبرة إذن ليست بالعدد هنا، وإنما بالخيرية والفضل.

____________

(1) أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 6 - 7 (دار الكتب العلمية - بيروت 1402 هـ‍/ 1982 م).


الصفحة 85
ومنها (ثالثاً) أن القول بانعقاد الإمامة بثلاثة، قياساً على عقد النكاح، إنما هو قياس مع الفارق، وأما القول بانعقاد الإمام بواحد، طبقاً لقول العباس، رضي الله عليه، للإمام علي رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة أمدد يدك أبايعك... الخ، فالرد عليه: أن الإمام علي عليه السلام، لم يقبل ذلك العرض.

ومن ثم فأهم ما يجب في اختيار الخليفة: الالتزام بالشورى، والانقياد لرأي الجماعة (1).

ويقول البغدادي: وقالوا - أي أهل السنة والجماعة - إن طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار بالاجتهاد، وقالوا: تنعقد الإمامة بمن يعقدها لمن يصلح للإمامة، إذا كان العاقد من أهل الاجتهاد والعدالة.

وقالوا: لا تصح الإمامة إلا لواحد في جميع أرض الإسلام، إلا أن يكون بين الصقعين حاجز من بحر، أو عدو لا يطاق، ولم يقدر أهل كل واحد من الصقعين على نصرة أهل الصقع الآخر، فحينئذ يجوز لأهل الصقع عقد الإمامة لواحد يصلح لها منهم (2).

ويقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني في الغياثي (3): إن الإجماع ليس شرطاً في عقد الإمامة، فلقد صحت بيعة أبي بكر، فقضى وحكم، وأبرم وأمضى، وجهز الجيوش، وعقد الألوية، وجر العساكر إلى مانعي الزكاة، وجبى الأموال، وفرق منها، ولم ينتظر في تنفيذ

____________

(1) محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب 1 / 151 - 152 (دار النهضة العربية بيروت 1990).

(2) عبد القادر بن طاهر بن محمد البغدادي: الفرق بين الفرق - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ص 349 - 350 (دار المعرفة - بيروت).

(3) أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني: الغياثي - غياث الأمم في التياث الظلم - تحقيق عبد العظيم الدين - الدوحة 1400 هـ‍ص 67.

الصفحة 86
الأمور، انتشار الأخبار في أقطار خطة الإسلام، وتقرير البيعة من الذين لم يكونوا في بلد الهجرة، وكذلك جرى الأمر في إمامة الخلفاء الأربعة.

وعلى أية حال، فلقد انقسم العلماء فيمن تنعقد بهم الإمامة، فذهب بعض العلماء إلى أن الإمامة إنما تنعقد ببيعة اثنين من أهل الحل والعقد، واشترط طوائف عدد أكمل البينات في الشرع، وهو أربعة، على أن هناك بعض من لا يعد من أحزاب الأصوليين، إنما يذهب إلى اشتراط أربعين، وهو عدد الجمعة، عند الإمام الشافعي، رضي الله عنه.

وهذه المذاهب لا أصل لها من مأخذ الإمامة، فأما من ذكر اثنين، إنما تخيل أن هذا العدد، أقل الجمع، فلا بد من اجتماع جمع على البيعة.

ومن شرط أربعة قال: إن الإمامة من أعلى الأمور، وأرفع الخطوب، فيعتبر فيها عدد أعلى البيانات، ومن ادعى الأربعين، استمسك بقريب مما قدمناه، واعتبر من يقتدي بإمام المسلمين بمن يقتدي بإمام الجمعة.

وهذه المسالك من أضعف طرق الأشباه، وهي أدون فنون المقاييس في الشرع، ولست أرى أن أحكم بها في مواقع الظنون، ومظان الترجيح والتلويح، فما الظن بمنصب الإمامة؟ ولو تتبع المتتبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع، لم يعدم وجوهاً بعيدة عن التحصيل في التشبيه (1).

وأقرب المذاهب ما ارتضاه القاضي أبو بكر الباقلاني (2) عن أبو الحسن

____________

(1) نفس المرجع السابق ص 67 - 69.

(2) الباقلاني: هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالباقلاني، كان على مذهب أبي الحسن الأشعري، مؤيداً اعتقاده، ناصراً طريقته، سكن بغداد، وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام، توفي لسبع بقين من ذي القعدة عام 403 هـ‍، وأشهر مؤلفاته إعجاز القرآن وانظر عن ترجمته (وفيات الأعيان 4 / 269 - 270، تاريخ بغداد 5 / 379، شذرات الذهب 3 / 168، العبر للذهبي 3 / 86، الوافي 3 / 177، المنتظم 7 / 265).

الصفحة 87
الأشعري (1)، وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل الحل والعقد (2).

ووجه هذا المذهب أنه تقرر أن الإجماع ليس شرطاً في عقد الإمامة، ثم لم يثبت توقيف في عدد مخصوص، والعقود في الشرع مولاها (أو يتولاها) عاقد واحد، وإذا تعدى المتعدي الواحد، فليس عدد أولى من عدد، ولا وجه للتحكيم في إثبات عدد مخصوص، فإذا لم يقم دليل على عدد، لم يثبت العدد، وقد تحققنا أن الإجماع ليس شرطاً، فانتفى الإجماع، وبطل العدد بانعدام الدليل عليه، فلزم المصير إلى الاكتفاء بعقد الواحد.

وظاهر قول القاضي أبو بكر الباقلاني يشير إلى أن ذلك مقطوع به، وهذا - وإن كان أظهر المذاهب في ذلك - فلسنا نراه بالغاً مبلغ القطع.

ثم يقول إمام الحرمين الجويني: والذي أراه أن أبا بكر لما بايعه عمر، لو ثار ثائرون، وأبدوا صفحة الخلاف، ولم يرضوا تلك البيعة، لما كنت أجد متعلقاً في أن الإمامة كانت تستقل ببيعة واحد، وكذلك لو فرضت بيعة اثنين، أو أربعة فصاعداً، وقدرت ثوران مخالفين، لما وجدت متمسكاً به اكتراثاً واحتفالاً، في قاعدة الإمامة، ولكن لما بايع عمر تتابعت الأيدي، واصطفقت الأكف، واتسعت الطاعة، وانقادت الجماعة.

____________

(1) أبو الحسن الأشعري: هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم، ينتهي نسبه الصحابي أبي موسى الأشعري، ولد في عام 260 هـ‍أو 270، وتوفي 324 هـ‍، وقيل 330 هـ‍وقيل 333 هـ‍في بغداد، وكان في أول أمره معتزلياً، ثم رجع عنهم، وأصبح عدواً لهم، وانظر عن ترجمته (وفيات الأعيان 3 / 284 - 286، تاريخ بغداد 11 / 346، طبقات الشافعية الكبرى 2 / 446، شذرات الذهب 3 / 285، ميزان الاعتدال 3 / 155، طبقات السبكي 3 / 303، طبقات المفسرين ص 25).

(2) لكن هذا يعارض ما ذهب إليه الفاروق عمر في قوله: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله شرها، فلا بيعة إلا عن مشورة، وأيما رجل بايع رجلاً، عن غير مشورة، فلا يؤمر واحد منهما، لغرة أن يقتلا (ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 12 / 147، الفائق 2 / 297).

الصفحة 88
والوجه عندي في ذلك، أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع، تحصل بهم شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة، بحيث لو فرض ثوران خلاف، لما غلب على الظن أن يصطدم أتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة، وتأطدت بالشوكة والعدة والعدد، واعتضدت، وتأيدت بالمنة، واستظهرت بأسباب الاستيلاء، والاستعلاء، فإذا تثبت الإمامة وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر، ولما بايع عمر مالت النفوس إلى المطالبة والموافقة، ولم يبد أحد شراساً وشماساً، وتظاهروا على بذل الطاعة على حسب الاستطاعة (1).

ويذهب القلقشندي في مآثر الإنافة في معالم الخلافة إلى أن الإمامة إنما تنعقد بثلاث طرق، تترتب على كل طريق جملة من الأحكام، كالتالي:


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net