متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
3 - التقية من الدليل العقلي
الكتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

3 - التقية من الدليل العقلي

وهو يوجب المحافظة على النفس والنفيس، استناداً إلى قول الله تعالى * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (3).

والنبي صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى للإنسانية كلها - إنما قد أخفى الدعوة في بادئ الأمر، وبدأ يدعو للإسلام سراً، لأنه رأى أولاً ضرورة التقية، حتى زالت

____________

(1) سورة القصص: آية 54.

(2) الكليني: الكافي ص 400 وما بعدها، أحمد أمين: ضحى الإسلام 3 / 247 - 248 (القاهرة 1368 هـ‍ / 1949 م).

(3) سورة البقرة: آية 195.

الصفحة 224
أسبابها، عندما أمره الله * (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين) * (1).

وعلى أية حال، فالصدع بالرأي، بعد الإسرار به، لم يكن شجاعة بعد جبن، بل كان قوة في كلتا الحالتين، استترت الأولى بالتقية، وكشفت الثانية عن نفسها بخلع التقية.

ويرى الشيعة عامة أن أبا طالب - عم النبي ومربيه، وشاهد نبوته معه منذ طفولته - إنما كان مستتراً وراء التقية، وكان مؤمناً بابن أخيه محمد نبياً ورسولاً، وقد تظاهر بغير ذلك، بالصمت حيناً، وبالتجاهل حيناً، ليتسنى له الدفاع عن محمد وعلي، عليهما السلام (2).

هذا وقد أكد التقية قبل الإمام الصادق جده الإمام علي زين العابدين، حين قال:

إني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا (3)

ولقد جرى على ذلك بعض الصوفية، فقالوا بالعلم الباطن، الذي لا يفهم من اللغة ولا من المنطق، وإنما عن طريق الإلهام والمكاشفة.

هذا ويذهب كاشف الغطاء إلى أن الشريعة الإسلامية المقدسة، إنما قد أجازت للمسلم في مواطن الخوف أن يتدرع بستار التقية، إخفاء للحق، وصوناً له، ريثما تنتصر دولة الحق، هذا وتجب التقية، إن كان تركها يستوجب تلف

____________

(1) سورة الحجر: آية 94 - 95.

(2) عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق رائد السنة والشيعة ص 178.

(3) المجلسي: بحار الأنوار ص 86 - 87.

الصفحة 225
النفس، دون فائدة، وللمرء أن يضحي بنفسه أو يحافظ عليها، ولكن يحرم العمل بالتقية، إن كان ذلك ترويجاً للباطل (1).

ويذهب الشيخ المفيد (333 هـ‍/ 944 م - 414 هـ‍/ 1022 م) إلى أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد تجوز في حال دون حال، للخوف على المال، ولضروب من الاستصلاح (2).

هذا فضلاً عن أنها واجبة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها، الضرب من اللطف والاستصلاح، وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين، ولا فيما يعلم أو يغلب أنه فساد في الدين (3) وهكذا كانت التقية واحدة من أهم عقائد الشيعة الإمامية، فرضتها الظروف السياسية، وما صاحبها من اضطهاد الشيعة، فاتقوا السلطان حفظاً للأرواح وقد أصبحت التقية صفة خاصة للشيعة الإمامية، وقد دانوا بها، امتثالاً لأمر الأئمة، فقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: من لا تقية له، لا دين له (4).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التقية إنما بدأت مع أحد الضعفاء، وكما أشرنا من قبل، مع سيدنا عمار بن ياسر (5)، رضي الله عنه،

____________

(1) العاملي: أعيان الشيعة 11 / 154 - 160.

(2) محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد: أوائل المقالات في المذاهب والمختارات ص 96 (ط تبريز 1371).

(3) نفس المرجع السابق ص 97.

(4) الطبرسي: مشكاة الأنوار في غرر الأخبار - النجف - 1951 ص 39 وما بعدها.

(5) ليس صحيحاً ما ذهب إليه الدكتور الشيبي من أن عمار بن ياسر، رضي الله عنه، كان عبداً سابقاً، كما أنه ليس صحيحاً أن قصة تعذيبه كانت بعد الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة، قال الواقدي وغيره من أهل العلم بالنسب والخبر: إن ياسراً والد عمار عرني قحطاني مذحجي من عنس، إلا أن ابنه عمار كان مولى لبني مخزوم، لأن أمه سمية كانت أمة لبعض بني مخزوم، وعن مجاهد: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وأمه سمية، وعذبت أسرة ياسر في الله عذاباً شديداً، وفي عمار نزلت: * (من كفر بالله من بعد إيمانه * إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *، ومن المعروف أن الآية مكية

=>


الصفحة 226
هكذا قرر الإسلام، وقرر نبي الإسلام مبدأ التقية، بوصفها وسيلة لحماية النفس، من خطر يودي بها من غير طائل، حتى قال ابن حزم: وقد أباح الله عز وجل كلمة الكفر عند التقية، وأباح بها الدم في غير التقية (1).

ولعل من الجدير بالإشارة إلى أن تخيير الإسلام للكفار المقهورين بين الإسلام أو السيف أو الجزية، تدخل في باب إقرار التقية، فليس خافياً على الإسلام وشارعه أن الدخول في الدين الجديد على هذه الصورة تحت حد السيف، أو ما لا يمكن توفيره من مال، يعني دفع كلا الضررين، بتحمل أهون الثلاث، وهو الدخول في دين القاهرين، فلا يمكن أحداً أن يتصور أن معتنق الإسلام - وعلى هذه الصورة - جاد في إسلامه، اللهم إلا إذا رأى فيه الروح مما كان يعاني، شأن المسلمين الأولين، وذلك أمر يدخل في باب الحدس والتخمين.

ومن ثم لم يبق إذن، إلا أن يكون الإسلام مؤمناً بمبادئه ومثله، واثقاً من تأثيرها في الناس، إذا أتيح لهم أن يزنوا الأمور، ويجربوا الحياة الجديدة - ولو بالإكراه أولاً - فهو من هذه الناحية أنما يغري بالتقية، ويقدمها إلى الجاهلين به، ثقة منه في كسبهم، متى آمنوا، واطمأنوا، فتفادي القتل والجزية، والدخول في الإسلام بالفتح، إنما هو مبدأ إسلامي حمله الإسلام إلى المغلوبين، لإغرائهم باعتناقه، فهذه تقية لا جدال فيها، كما يبدو.

____________

<=

والسورة مكية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمر بعمار وأمه وأبيه، وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة، فيقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.

وهاجر عمار إلى المدينة، وشهد بدراً واحد والخندق وبيعة الرضوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول من بنى مسجداً في الإسلام.

وظهر يوم اليمامة، واستعمله عمر بن الخطاب أميراً على الكوفة، وكان من محبي الإمام علي بن أبي طالب وآل البيت، وحضر معه الجمل وصفين، واستشهد في صفين عام 37 هـ‍ (657 م) وكان عمره 94 أو 93 أو 91 سنة (أنظر: أسد الغابة 4 / 139 - 135، أنساب الأشراف 1 / 156 - 175).

(1) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 / 111.

الصفحة 227
ثم إن الإسلام لم يكتف بإتاحة الولاء تقية للمغلوبين على أمرهم من أرستقراطي المدينة - وكانوا يعرفون صراحة بالمنافقين - وكان الإسلام يتألف قلوبهم بالمال، وجعلهم إحدى الطوائف الثماني التي لها نصيب من أموال الصدقات - كما تشير إلى ذلك الآية 60 من سورة التوبة - وقد ظل المنافقون يقبضون أموال الصدقات هذه إلى أن ألغى عمر بن الخطاب نصيبهم، حين قوي الإسلام، وأحس بأن في ذلك تقليلاً من هيبته، وتلك إمارة على إتاحة الإسلام تقية حتى للأرستقراطيين السابقين (1) ولو أخذنا غنائم غزوة حنين كمثال لما كان يعطيه الإسلام للمؤلفة قلوبهم، لرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي المؤلفة قلوبهم أول الناس، فيعطي أبو سفيان بن حرب مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة، فيطلب مثلها لولده يزيد، وحين يعطيه رسول الله ما أراد، يطلب مثلها أيضاً لولده الثاني معاوية بن أبي سفيان، فيعطيه الرسول كذلك مائة من الإبل، وأربعين أوقية فضة، ثم يعطي رجالاً من بني عبد الدار وبني زهرة وبني مخزوم.

وأعطى الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف كل منهم مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل، فقال في ذلك شعراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقطعوا لسانه عني، فأعطوه مائة من الإبل، وقد أعطي كل ذلك من الخمس، كما أعطي غيره كثير (2).

____________

(1) كامل الشيبي: التقية: أصولها وتطورها ص 236 - 238 مجلة كلية الآداب - جامعة الإسكندرية - العدد السادس عشر عام 1962 م).

(2) أنظر: الواقدي: كتاب المغازي - تحقيق مارسدن جونسن - الجزء الثالث ص 943 - 949 (بيروت 1404 هـ‍/ 1984 م)، ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 366، محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة 2 / 427 - 433 (بيروت 1990 م).

عرجون: محمد رسول الله 4 / 390 - 400، ابن كثير: السيرة النبوية 3 / 667 - 683. السيرة الحلبية 3 / 61 - 75، 83 - 98، ابن شهبة: السيرة النبوية 2 / 379 - 394، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2 / 261 - 273، تاريخ الطبري 3 / 70 - 94.

الصفحة 228
ومن عجب أن هؤلاء الأعراب والطلقاء والرؤساء الذين تزاحموا على الغنائم واستأثروا بالكثير منها، لم يغنوا عن الإسلام شيئاً في مآزقه الأولى، بل كانوا هم العقبات الصلدة التي اعترضت مسيله، حتى تحطمت تحت معاول المؤمنين الراغبين في ثواب الآخرة، المؤثرين ما عند الله، ولكنهم اليوم - بعدما أعلنوا إسلامهم - يبغون من النبي أن يفتح لهم خزائن الدنيا، فحلف لهم أنه ما يستبقي منها شيئاً لشخصه، ولو امتلك مل ء هذه الأودية مالاً، لوزعه عليهم.

ومن عجب أيضاً - بل هو أكثر عجباً - أن الذين فروا عند الفزع، هم الذين كثروا عند الطمع، وأعجب العجب أن أبا سفيان بن حرب، كان أول من تقدم يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعطيه من الفئ، وهو نفسه الذي كان يصيح فرحاً، عندما كانت الهزيمة - في أول المعركة - تطل بوجهها القبيح على جيش المسلمين، والأزلام التي كان يستقسم بها في الجاهلية، ما تزال في كنانته، يصيح لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وعندما تكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، وبأربعين أوقية من فضة، لم يشبع ذلك نهمه، وإنما طلب لابنه يزيد مثلها، وحين أجيب إلى سؤله طلب مثلها لابنه الآخر معاوية، وهكذا أخذ أبو سفيان وولداه يومئذ ثلاثمائة من الإبل، ومائة وعشرين أوقية من الفضة.

وهكذا فإن هناك أقواماً كثيرين، يقادون - كما يقول الأستاذ الغزالي - إلى الحق، من بطونهم، لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم، تظل تمد إليها فمها، حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء، حتى تستأنس بالإيمان، وتهش له.

روى مسلم في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء.


الصفحة 229
فهذا الأعرابي لا يعجبه المنطق السليم، ولا الطبع الرقيق، قدر ما يعجبه عطاء بملء جيوبه، ويسكن مطامعه، ومن هنا قال صفوان بن أمية: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إلي، حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه (1).

وهذا العطاء كله - كما يقول ابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ‍/ 1292 - 1350 م) نفل النبي صلى الله عليه وسلم، به رؤوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام، وذلك بهدف تقوية الإسلام وشوكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه.

وهكذا أرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين لا يعرفون قدر نعمة الإسلام، بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه (2).

وفي السيرة الحلبية: كانت المؤلفة ثلاثة أصناف، صنف يتألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا، كصفوان بن أمية، وصنف ليثبت إسلامهم، كأبي سفيان بن حرب، وصنف لدفع شرهم، كعيينة بن حصن، والعباس بن مرداس، والأقرع بن حابس (3).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net