متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
5 - التقية عند الشيعة
الكتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

5 - التقية عند الشيعة:

لقد بدأت محنة الشيعة الحقيقية منذ استشهاد سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة وما تلاه من تنازل سيدنا الإمام الحسن بن علي، رضي الله عنه، لمعاوية بن أبي سفيان في عام 41 هـ‍(661 م)، والذي سموه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر، وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً، والخلافة غضباً قيصرياً، بعد أن استولى معاوية على الملك، واستبد على بقية الشورى، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين (2).

وعلى أية حال، فلقد كان من شروط الصلح الذي عقد بين الإمام الحسن

____________

(1) تاريخ الطبري 6 / 642، البغدادي: الفرق بين الفرق ص 84، كامل الشيبي المرجع السابق ص 439 - 240.

(2) تقي الدين المقريزي: كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم - رسالة الجاحظ في بني أمية - تحقيق الدكتور حسين مؤنس - دار المعارف - القاهرة 1988 ص 124.

الصفحة 233
ومعاوية: الأمان العالم، وعدم التعرض بأي سوء لأنصار الإمام علي بن أبي طالب على الخصوص، وأنصار آل البيت بوجه عام.

غير أن معاوية بن أبي سفيان إنما جعل من أهدافه الرئيسية، القضاء على هذه الطبقة المؤمنة بحق آل البيت، وقد لاقى أنصار أهل البيت من الأذى والاضطهاد ما تنوء بحمله الجبال، وكان أشدهم بلاء، وأعظمهم محنة أهل الكوفة، فلقد استعمل معاوية على الكوفة، بعد هلاك المغيرة، زياد بن أبيه - بعد أن نسبه إلى أبي سفيان - وكان بهم عليماً، وإنه - ويا للعجب - فقد كان قبل استلحاقه بأبي سفيان، واحداً منهم، فأشاع فيهم القتل، وشردهم، وأن معاوية كتب إلى عماله: انظروا إلى من قامت على البينة، أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه.

وروى ابن أبي الحديد (586 - 656 هـ‍/ 1190 - 1257 م) أن معاوية كتب إلى عماله: أن برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته، وأن لا يجيزوا للشيعة شهادة، وأن يمحوا كل شيعي من ديوان العطاء، وينكلوا به، ويهدموا داره (1)، وامتثل العمال لأمر سيدهم، فقتلوا الشيعة وشردوهم، وقطعوا الأيدي، وسملوا الأعين، وصلبوهم في جذوع النخل.

وزاد الضغط - بعد معاوية (41 - 60 هـ‍/ 661 - 680 م) أضعافاً، خاصة في عهد عبيد الله بن زياد قاتل الإمام حسين وأهل بيته في مذبحة كربلاء، وفي عهد الحجاج الثقفي، هادم الكعبة المشرفة، قتلت الشيعة كل قتلة، وأخذوا بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال عنه زنديق - أو حتى كافر - أحب إليه، من أن يقال له شيعي.

وفي ذلك يقول الإمام محمد الباقر - رضوان الله عليه - وقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر بحبنا، أو

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 11 / 44 - 45 (بيروت 1967).

الصفحة 234
الانقطاع إلينا، سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره (1)، وهكذا أصبحت مودة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - والتي أمر الله بها في كتابه الكريم، حيث يقول * (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) * (2) - أصبحت هذه المودة - على أيام بني أمية - كفراً وإلحاداً، ومروقاً عن الدين.

وهكذا ما أن استقرت الأمور لمعاوية، وخلا الميدان إلا منه، حتى أخذ ينتقم شر انتقام من أنصار الإمام علي وآل البيت الطاهرين، ففريق روع في ظلمات السجون، وبقي فيها يلاقي الأمرين، حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى - كما حدث مع محمد بن أبي حذيفة - وفريق شرد في الأرض، حتى مات منفياً عن وطنه وأهله - كما حدث مع صعصعة بن صوحان - وفريق قتل صبراً في الإسلام - من أمثال عمرو بن الحمق، وحجر بن عدي -.

وتصور محنة حجر بن عدي (3) وأصحابه محنة، امتحن بها زياد بن أبيه، الإسلام والمسلمين، وشاركه معاوية في هذا الامتحان، فتركت في نفوس المعاصرين لها أقبح الأثر وأشنعه، وكانت صدمة عنيفة لمن بقي من خيار الناس في تلك الأيام.

وكان الناس يقولون: أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي، وقتل حجر، ودعوة زياد، وكان الإمام الحسن البصري يقول: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة، لكانت موبقة، انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء، حتى ابتزها أمرها، بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذو

____________

(1) محمد بيومي مهران: الإمام الحسن بن علي ص 119 - 120 (بيروت 1990).

(2) سورة الشورى: آية 23.

(3) أنظر عن محنة حجر بن عدي وأصحابه (محمد بيومي مهران: الإمام الحسن بن علي ص 119 - 129، تاريخ الطبري 5 / 253 - 285، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 472 - 488، أسد الغابة 1 / 461 - 462، ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 314 - 315، ابن عبد البر: الإستيعاب 1 / 356 - 359، العقاد: معاوية بن أبي سفيان في الميزان ص 108 - 110، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 54 - 60).

الصفحة 235
الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويلاً له من حجر، مرتين (1).

وكانت السيدة عائشة، رضي الله عنها، تقول: لولا أنا لم نغير شيئاً، إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه، لغيرنا قتل حجر، أما والله، إنه كان ما علمت لمسلماً حاجاً معتمراً (2).

وروى ابن عبد البر في الإستيعاب عن مسروق بن الأجدع قال: سمعت عائشة أم المؤمنين تقول: أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة، ما اجترأ على أن يأخذ حجراً وأصحابه من بينهم، حتى يقتلهم بالشام، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أن قد ذهب الناس، أما والله، إن كانوا لجمجمة العرب، عزاً ومنعة وفقهاً (3).

وأما الصحابي الجليل عمرو بن الحمق، وكان أسلم قبل الفتح، وكان مقرباً من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دعا له أن يمتعه بشبابه، فبلغ الثمانين من العمر، ولم تبيض له شعرة واحدة، ودعا له أمير المؤمنين علي بقوله اللهم نور قلبه بالتقوى، واهده إلى صراطك المستقيم (4).

وكان عمرو بن الحمق من شيعة الإمام علي، وشهد معه مشاهده كلها (الجمل - صفين - النهروان) (5)، وروى عنه، رضي الله عنه، أنه قال للإمام علي: والله يا أمير المؤمنين، إني ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بيني

____________

(1) تاريخ الطبري 5 / 279، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 141، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 487.

(2) تاريخ الطبري 5 / 279، الكامل لابن الأثير 3 / 287.

(3) ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 1 / 358 (مصور عن الطبعة الأولى 1328 هـ‍).

(4) محمد جواد مغنية: الشيعة والحاكمون ص 80 (دار الجواد - بيروت 1981 م).

(5) ابن الأثير: أسد الغابة 4 / 217 - 218 (كتاب الشعب - القاهرة 1970).

الصفحة 236
وبينك، ولا إرادة مال تؤتينه، ولا التماس سلطان ترفع ذكري به، ولكنني أحببتك بخصال خمس: أنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصيه، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسبق الناس إلى الإسلام، وأعظم المهاجرين سهماً في الجهاد، فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي، حتى يأتي علي يومي في أمر أقوي به وليك، وأهين عدوك، ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك.

فقال علي عليه السلام: اللهم نور قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم، ليت أن في جندي مائة مثلك، فقال حجر: إذا والله يا أمير المؤمنين، صح جندك، وقل فيهم من يغشك (1). وكان عمرو بن الحمق قد خاف زياداً، فهرب من العراق إلى الموصل، واختفى في غاب بالقرب منها، فأرسل معاوية إلى عامله بالموصل - وهو ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم - فوجده ميتاً في غار كان قد اختبأ به، وقد نهشته حية فمات.

وروى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده إلى أبي زكريا قال: أنبأنا إسماعيل بن إسحاق، حدثني علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: سمعت عمار الذهبي - إن شاء الله - قال: أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية، قال سفيان: أرسل معاوية ليؤتى به، فلدغ، وكأنهم خافوا أن يتهمهم، فأتوا برأسه (2).

وروى محمد بن علي الصواف عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن شمير بن سدير الأزدي قال: قال علي عليه السلام لعمرو بن الحمق الخزاعي:

أين نزلت يا عمرو؟ قال: في قومي، قال: لا تنزل فيهم، قال: فأنزل في بني كنانة جيراننا؟ قال: لا، قال: فأنزل في ثقيف؟ قال: فما تصنع بالمعرة

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 3 / 181 - 182، وانظر: نصر بن مزاحم المنقري: وقعة صفين - تحقيق عبد السلام هارون ص 103 - 104 (ط الخانجي 1401 هـ‍/ 1981 م).

(2) أسد الغابة 4 / 217 - 218.

الصفحة 237
والمجرة؟ قال: وما هما؟ قال: عنقان من نار، يخرجان من ظهر الكوفة، يأتي أحدهما على تميم وبكر بن وائل، فقلما يفلت منه أحد، ويأتي العنق الآخر، فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة، فقل من يصيب منهم، إنما يدخل الدار فيحرق البيت والبيتين، قال: فأين أنزل؟ قال: إنزل في بني عمرو بن عامر، من الأزد.

قال: فقال قوم حضروا هذا الكلام ما نراه إلا كاهناً يتحدث بحديث الكهنة، فقال: يا عمر، إنك لمقتول بعدي وإن رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل بقوم، إلا سلموك برمتهم، إلا هذا الحي من بني عمرو بن عامر من الأزد، فإنهم لن يسلموك ولن يخذلوك، قال: فوالله ما مضت إلا أيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب، خائفاً مذعوراً، حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقتل وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام، وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (1).

وروى أيضاً بسنده عن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة عن إسحاق بن أبي فروة عن يوسف بن سليمان عن جدته قالت: كانت تحت عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد فحبسها معاوية في سجن دمشق زماناً، حتى وجه إليها رأس عمرو بن الحمق، فألقي في حجرها، فارتاعت لذلك، ثم وضعته في حجرها، ووضعت كفها على جبينه، ثم لثمت فاه، ثم قالت: غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه إلي قتيلاً، فأهلاً بها من هدية، غير قالية ولا مقيلة.

وقيل: بل كان عمرو مريضاً لم يطق الحركة، وكان معه رفاعة بن شداد، فأمره بالنجاة لئلا يؤخذ معه، فأخذ رأس عمرو، وحمل إلى معاوية بالشام (2).

____________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 289 - 290.

(2) أسد الغابة 4 / 218.

الصفحة 238
واستمر القتل والتشريد للشيعة، وكانت التقية جنة تقي من الموت، وسبيلاً إلى الحياة، بعد أن صار مبدأ الدولة لا صلاة إلا بلعن أبي تراب (أي لا صلاة إلا بلعن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب، والعياذ بالله)، ولم تكن التقية من أهل الكوفة شيعية، وإنما كانت عرفاً إنسانياً، أقره الإسلام في القرآن، وجعل أولياء الإمام علي وأنصاره، يمدون في أعمارهم بالبراءة من الإمام علي (1)، وكان ميدان البطولة، مغلقاً في ظل ذلك الطغيان، الذي أعقب تنازل سيدنا الإمام الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، سنة 41 هـ‍/ 661 م، وخلو الجو للخصوم يفعلون فيه ما يشاؤون (2).

وهكذا كانت الشيعة منذ بداية الحكم الأموي في اضطهاد وأذى، وأئمة آل البيت يحصى عليهم كل شئ، ومن دعا إلى الحق منهم اعتورته السيوف، وما كان يسوغ أن يسكتوا عن مظالم الأمويين، لولا التقية، وقد دفعهم إلى التقية ذلك الأذى الذي يتعرضون له، وما كان يترتب على الخروج من فتن تظهر فيها مفاسد، ثم يشتد بعدها الطغيان.

ولذلك كانت الشيعة أكثر المسلمين أخذاً بمبدأ التقية، وقالوا: إن الترخيص بها، بل الحث عليها، جاء على ألسنة أئمتهم، رضوان الله عليهم أجمعين، وقد

____________

(1) قال الإمام علي: فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة، ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني، وقد تساءل كثيرون: لماذا أجاز السب، ومنع التبرؤ، فقالت المعتزلة: لا فرق بينهما في أنهما حرام وفسق وكبيرة، وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف، ويجوز أن لا يفعلهما حتى وإن قتل، كما يجوز له أن يقتل ولا يقول كلمة الكفر، وذلك إعزازاً للدين، وأما استفحاش الإمام علي للبراءة، فلأنها لم ترد في القرآن إلا عن المشركين، كما في سورة التوبة، وأما الإمامية فتروي عن الإمام علي أنه قال: إذا عرضتم على البراءة منا، فمدوا الأعناق، إنه لا تجوز البراءة من الإمام علي، وإن كان الحالف صادقاً، وعليه الكفارة. ويقول الإمامية: إن حكم البراءة من الله ورسوله والإمام علي ومن أحد الأئمة عليهم السلام، حكم واحد. وبقول الإمامية: إن الإكراه على السب يبيح إظهاره، ولا يجوز الاستسلام للقتل معه، وأما الإكراه على البراءة، فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل، ويجوز أن يظهر التبرؤ، والأولى أن يستسلم للقتل (شرح نهج البلاغة 4 / 113 - 114).

(2) كامل الشيبي: التقية - مجلة كلية الآداب جامعة الإسكندرية - العدد 16 عام 1962 ص 240.

الصفحة 239
نسبوا للإمام علي عليه السلام، أنه أجازها، بل أمر بها، فقد روى الطبرسي أنه قال: وآمرك أن تستعمل التقية في دينك... وتصون بذلك من عرف من أوليائنا، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين، وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شاحط بدمك ودماء إخوانك (1).

غير أن الشيعة سرعان ما نهضوا بعد استشهاد مولانا الإمام الحسين وآل بيته (عام 61 هـ‍/ 680 م) فيما عرف باسم حركة التوابين عام 65 هـ‍بقيادة الصحابي الجليل سليمان بن صرد، وكانوا يرددون الآية الكريمة * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلك خير لكم) * (2)، ولسان حالهم يقول: أقلنا ربنا تفريطنا فقد تبنا، ولقد أبدوا من ضروب الشجاعة، التي كانت التقية حصرتها في أنفسهم، ما صار مدعاة لإعجاب أعدائهم بهم، فسمحوا لهم - من بعد هزيمتهم - أن يرتحلوا ويلحقوا بأمصارهم (3).

وأما سعيد بن جبير رضي الله عنه، فقد قتله الحجاج الثقفي، (40 - 95 هـ‍/ 660 - 714 م) بسبب حبه لآل البيت (4)، ولعل من الجدير بالإشارة هنا أن حركة التوابين إنما يبررها قول الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين (57 هـ‍/ 676 م - 114 هـ‍/ 732 م) جعلت التقية ليحقن بها الدم، وإذا

____________

(1) محمد أبو زهرة: الإمام الصادق ص 241 - 242.

(2) سورة البقرة: آية 52.

(3) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 241، وانظر عن حركة التوابين (تاريخ الطبري 5 / 551 - 563، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 175 - 189، المسعودي: مروج المذهب 2 / 83 - 86، ابن الأثير: أسد الغابة 2 / 449 - 450، ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة 2 / 75 - 76، ابن عبد البر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 63 - 65، ابن كثير: البداية والنهاية 8 / 271 - 276، محمد بيومي مهران: الإمام الحسين بن علي ص 191 - 193).

(4) أنظر (ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4 / 579 - 580، حلية الأولياء 4 / 290 - 295، ابن كثير:

البداية والنهاية 9 / 109 - 110، محمد بيومي مهران: الإمام علي زين العابدين ص 128 - 131).

الصفحة 240
بلغ الدم فليس تقية (1)، وقوله التقية ديني ودين آبائي (2)، وهذا قول صحيح، ما في ذلك من ريب، وذلك لأن التقية إنما هي دين القرآن، ومن ثم فهي دين النبي صلى الله عليه وسلم، جد الإمام الباقر (3).

هذا وقد رويت عبارات كثيرة عن سيدنا الإمام جعفر الصادق (80 هـ‍/ 699 م - 148 هـ‍/ 765 م)، تدعو إلى التقية، وتحث عليها، فإنه يروي أنه قال التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، وإن المذيع لأمرنا كالجاحد به، وروى عنه أنه قال لجماعة من أصحابه كان يحدثهم: لا تذيعوا أمرنا، ولا تحدثوا به أحداً، إلا أهله، فإن المذيع علينا سرنا، أشد مئونة من عدونا، انصرفوا رحمكم الله، ولا تذيعوا سرنا، وروى عنه أنه قال: نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمانه سرنا جهاد في سبيل الله.

وهكذا - كما يقول العلامة الشيخ محمد أحمد أبو زهرة (1898 - 1974 م) عن الإمام جعفر الصادق في التقية وهي تحتاج إلى تفسير، فأما معنى ديني ودين آبائي أي مبدؤنا ومبدأ آبائنا، وقد اتخذناه على أنه دين لكي نمتنع عن الجهد بما نراه في حكام الزمان، حتى لا تكون فتنة وفساد كبير، إذ النفوس ليست مهيأة للنصرة، ولعل هذا إنما يفيد أن التقية التي دعا إليها الإمام الصادق إنما قد دفع إليها أمران.

أحدهما: دفع الأذى، ومنع المخاطر، التي يتعرض لها المؤمن من غير قوة دافعة مانعة، فيكون الأذى حيث لا جدوى، وبذلك تتلاقى التقية مع الجهاد، فالجهاد مع أعداء الإسلام، وحيث يكون واجباً لنصرة الإسلام، وحيث يكون الاستعداد قد تم، والأهبة قد أخذت، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، عندما صار للإسلام شوكة وقوة.

____________

(1) أصول الكافي ص 206.

(2) أصول الكافي ص 205.

(3) كامل الشيبي: المرجع السابق ص 243.

الصفحة 241
والتقية حيث يكون اليقين بأن الانتفاض لا يجدي، وخصوصاً عندما يكون المؤمن بين المخذلين، لأن الخروج عندئذ ضرره أكبر من نفعه، لا يرفع حقاً، ولا يخفض باطلاً، إذ يلقى من خرج إلى التهلكة وتكون الفتنة والفساد، ويكون الظلم والشر المستطير، إذا يقوى الظالم ويستمكن، وبهذا التقرير يكون للجهاد موضع، وللتقية مثله، وكلاهما يكون لحماية الحق، الجهاد لحمايته بإعلانه، وضرب الباطل، والتقية لحمايته بتمكين أهل الحق من الحياة، رجاء الإعلان في ميقاته المعلوم.

والثاني: وكان الأمر الثاني الذي دفع إلى التقية، هو ما رآه من استعلاء الباطل، إذا أعلن الحق، وقد ظهر ذلك في مقتل مولانا الإمام الحسين عليه السلام، وفي مقتل الأئمة: زيد بن علي ومحمد النفس الزكية وإبراهيم أخيه.

وعلى أية حال، فليس هناك من ريب في أنه كان للتقية في عصر الإمام الصادق، وما جاء بعده، وهي كانت مصلحة للشيعة، وفيها مصلحة للإسلام، لأنها كانت مانعة من الفتن المستمرة، وإن موضوعها كان إعلان التشيع، فكانت التقية أن لا يعلن المتشيع تشيعه، ولا يظهر من أعماله ما يدل على موالاته لآل الإمام علي، موالاة ولاية، لا موالاة محبة، فالمحبة كانت واضحة من بعض الشعراء، ومن بعض العلماء، ولكنها في مظهرها محبة تقدير، لا محبة ولاية، كما ظهر من محبة الفرزدق (641 - 733 م؟) لآل البيت، وكثير عزة، (ت 723 م) وكما ظهر من محبة الإمام أبي حنيفة للأئمة الكرام: زيد والباقر والصادق، فتلك كانت محبة ظاهرة، وإن لم تكن تشيعاً (1).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net