متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
مناظرته مع سليمان المروزي
الكتاب : حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

 

    أسئلة سليمان المروزي : أما سليمان المروزي فكان متضلعا بالفلسفة ، ومتمرسا في البحوث الكلامية وكان يعد في طليعة علماء خراسان ، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام الرضا ( عليه السلام ) وقد قابله بحفاوة وتكريم.
    وقال له : ان ابن عمي علي بن موسى الرضا ، قدم علي من الحجاز ، وهو يحب الكلام وأصحابه ، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته ....
    وخاف سليمان من ذلك ، فقد ظن أن الامام سوف يعجز عن أجوبة مسائله فيحقد عليه العلويون ، وراح يعتذر من المأمون قائلا :


(117)

إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم ، فينتقص عند القوم إذا كلمني ، ولا يجوز الانتقاص عليه ...
    وتعهد له المأمون ، ووعده أن لا يصيبه أي اذى أو مكروه قائلا :
    إنما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك ، وليس مرادي إلا تقطعه عن حجة واحدة فقط ...
    وهذا الكلام يدلل على سوء ما يضمره المأمون للامام ، وما يكنه له من الحقد والعداء ، واطمأن سليمان ، من أي اعتداء عليه ، وراح يقول للمأمون :
    حسبك يا أمير المؤمنين ، أجمع بيني وبينه ، وخلني والذم ...
    ووجه المأمون في الوقت رسوله إلى الامام يطلب منه الحضور لمناظرة سليمان فأجابه الامام إلى ذلك ، وحضر معه وفد من أعلام أصحابه ضم عمران الصابئ الذي أسلم على يده وجرى حديث بينه وبين سليمان حول البداء ، فأنكره سليمان ، وأثبته عمران ، وطلب سليمان رأي الامام فيه فأقره ، واستدل عليه بآيات من الذكر الحكيم.
    والتفت المأمون إلى سليمان فقال له : سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والانصاف.
    ووجه سليمان الأسئلة التالية للإمام ( عليه السلام ) :
    س 1 ـ ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة مثل حي ، وسميع ، وبصير وقدير ؟ ...
    ج 1 ـ انما تقول : حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد ، ولم تقولوا : حدثت الأشياء واختلفت لأنه سميع بصير ، فهذا دليل على أنهما ـ أي الإرادة والمشيئة ـ ليستا مثل سميع ، ولا بصير ، ولا قدير.
    وانبرى سليمان قائلا : فإنه لم يزل مريدا ....
    ورد عليه الامام : يا سليمان فإرادته غيره ؟
    .... نعم ....
    وذهب سليمان إلى التعدد مع أن الله تعالى متحد مع ارادته ، وأبطل الامام شبهته قائلا :
    قد أثبت معه شيئا غيره لم يزل ؟ ....
    ما أثبت .....



(118)

    أهي ـ أي الإرادة ـ محدثة ؟ ....
    لا ما هي محدثة ....
    وضيق الامام على سليمان الخناق ، وراحت أقواله تتناقض فتارة يقول بقدم الإرادة ، وأخرى يقول بحدوثها.
    فصاح به المأمون ، وطلب منه عدم المكابرة ، والانصاف في حديثه قائلا :
    عليك بالانصاف ، أما ترى من حولك من أهل النظر ؟.
    والتفت المأمون إلى الامام قائلا :
    كلمه يا أبا الحسن ، فإنه متكلم خراسان.
    وسأله الامام قائلا : أهي محدثة ؟ ....
    فأنكر سليمان حدوث الإرادة.
    فرد عليه الامام :
    يا سليمان هي محدثة ، فان الشئ إذا لم يكن أزليا كان محدثا ، وإذا لم يكن محدثا كان أزليا ....
    وانبرى سليمان قائلا :
    ارادته ـ أي الله ـ منه ؟ كما أن سمعه وبصره وعلمه منه.
    وأبطل الامام عليه قوله ، وقائلا : فأراد نفسه ؟ ...
    لا ....
    وأخذ الامام يفند مقالته قائلا له : فليس المريد مثل السميع والبصير.
    وراح سليمان يتخبط خبط عشواء فقد ضيق الامام عليه ، وسد كل نافذة يسلك منها ، قائلا : إنما أراد نفسه ، كما سمع نفسه ، وأبصر نفسه ، وعلم نفسه ....
    وانبرى الامام فأبطل مقالته ، قائلا له : ما معنى أراد نفسه ؟ أراد أن يكون شيئا ، وأراد أن يكون حيا ، أو سميعا ، أو بصيرا أو قديرا ؟ ....
    ولم يدر سليمان ماذا يقول ، فأجاب : نعم ...



(119)

فقال له الامام : أفبإرادته كان ذلك ؟
    ... نعم ...
    وطفق الامام يبطل مقالته ، ويبدي ما فيها من التناقض قائلا : فليس لقولك :
    أراد أن يكون حيا سميعا ، بصيرا معنى ، إذا لم يكن ذلك بإرادته ؟ ....
    والتبس الامر على سليمان ، وراح يقول : بلى قد كان ذلك بإرادته .... وعج المجلس بالضحك ، وضحك المأمون والرضا ( عليه السلام ) من تناقض كلام سليمان.
    والتفت الامام إلى الجماعة ؟؟ ، وطلب منهم الرفق بسليمان ، ثم قال له : يا سليمان ، فقد حال ـ أي الله تعالى ـ عندكم عن حاله وتغير عنها ، وهذا ما لا يوصف الله به ....
    وبان العجز على سليمان ، وانقطع الكلام ، والتفت الامام إليه ليقيم عليه الحجة قائلا : يا سليمان أسألك عن مسألة ... ؟.
    سل جعلت فداك ...
    اخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون ؟ أو بما لا تفقهون ، ولا تعرفون ...
    بل بما نفقه ونعلم ....
    وأخذ الامام يقيم الحجة والبرهان على خطأ ما ذهب إليه سليمان قائلا : فالذي يعلم الناس أن المريد ؟؟ غير الإرادة ، وان المريد قبل الإرادة ، وان الفاعل قبل المفعول ، وهذا يبطل قولكم : ان الإرادة والمريد شئ واحد ...
    وطفق سليمان قائلا : جعلت فداك ، ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ، ولا على ما يفقهون ؟.
    واندفع الامام يبطل ما ذهب إليه قائلا : فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة ، وقلتم : الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ، ولا يعقل ...
    وحار سليمان ولم يطق جوابا أمام هذه الطاقات الهائلة من العلم التي يملكها



(120)

الإمام ( عليه السلام ) ، واستأنف الامام حديثه ليتم عليه الحجة قائلا : يا سليمان هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار ؟ ....
    وأسرع سليمان قائلا : نعم.
    وانبرى الامام قائلا : أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك ؟ ...
    نعم ...
    فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ ، إلا كان يزيدهم أو يطويه عنهم ؟ ..
    فأجاب سليمان : بل يزيدهم ....
    وأبطل الامام قوله : فأراه في قولك : قد زادهم ما لم يكن في علمه ، انه يكون ...
    وطفق سليمان يقول : جعلت فداك فالمريد لا غاية له ....
    ومضى الامام يفند شبه سليمان قائلا :
    فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما ، لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون ، تعالى الله عزوجل عن ذلك علوا كبيرا ...
    وراح سليمان يعتذر ويوجه ما قاله : انما قلت : لا يعلمه ، لأنه لا غاية لهذا ، لان الله عزوجل وصفهما بالخلود ، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا ...
    وراح الإمام ( عليه السلام ) يفند شبهه وأوصافه قائلا : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم ، لأنه قد يعلم ذلك ، ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم ، وكذلك قال الله عزوجل في كتابه : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) (1) وقال لأهل الجنة : ( عطاء غير


1 ـ سورة النساء / آية 56.


(121)

مجذوذ ) (2) وقال عزوجل : ( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ) (3) فهو عزوجل يعلم ذلك لا يقطع عنهم الزيادة .. أرأيت ما أكل أهل الجنة ، وما شربوا يخلف مكانه ؟ ....
    بلي ...
    أفيكون يقطع ذلك عنهم ، وقد أخلف مكانه ؟ ....
    لا ...
    ومضى الإمام ( عليه السلام ) يقرر ما ذهب إليه قائلا : فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم ...
    وراح سليمان يتمسك بالشبه والأوهام ثم يزيله عنها هذه الحجج البالغة التي أقامها الامام قائلا : بلى يقطعه عنهم ، ولا يزيدهم ....
    وانبرى الامام فأبطل ذلك بقوله : إذا يبيد فيها ، وهذا يا سليمان ابطال الخلود ، وخلاف الكتاب ، لان الله عزوجل يقول : ( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (4).
    ويقول عزوجل : ( عطاء غير مجذوذ ) ويقول عزوجل : ( وما هم عنها بمخرجين (5).
    ويقول عزوجل : ( خالدين فيها أبدا ) (6).
    ويقول عزوجل : ( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ).
    ووجم سليمان ، وحار في الجواب ، وراح يسد عليه كل نافذة يسلك فيها لاثبات شبهة قائلا له : يا سليمان الا تخبرني عن الإرادة أفعل هي أم غير فعل ... ؟.
    بل هي فعل ...
    ورد الامام عليه : فهي محدثة لان الفعل كله محدث .... إن كل ممكن معلول ومصنوع وحادث أما واجب الوجود تعالى فهو عار عن



2 ـ سورة هود / آية 108
3 ـ سورة الواقعة / آية 33.
4 ـ سورة ق / آية 35.
5 ـ سورة الحجر / آية 48.
6 ـ سورة البينة / آية 8.


(122)

صفات الممكن ، ومستحيلة عليه ....
    ولم يستطع سليمان أن يقول شيئا ، وراح يناقض نفسه فقال : ليست ـ أي الإرادة ـ بفعل ...
    وقد اعترف سليمان سابقا بأنها فعل ، والتفت إليه الامام فقال :
    فمعه ـ أي مع الله ـ غيره لم يزل ؟ ....
    وراوغ سليمان ، ولم يجب الامام عن سؤاله ، وقال : الإرادة هي الانشاء ....
    فأجابه الامام : هذا الذي عبتموه على ضرار (1) وأصحابه من قولهم : إن كل ما خلق الله عزوجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب ، أو خنزير ، أو قرد ، أو انسان ، أو دابة ، إرادة الله ، وان إرادة الله تحيى ، وتموت ، وتذهب ، وتأكل وتشرب ، وتنكح ، وتلذ ، وتظلم ، وتفعل الفواحش ، وتكفر ، وتشرك ، فيبر أ منها ، ويعاد بها وهذا حدها.
    عرض الإمام ( عليه السلام ) إلى الآراء الفاسد ة التي التزم بها ضرار والتي عابها على سليمان وأصحابه فان هذه اللوازم الفاسدة كلها ترد على سليمان إلا أنه لم يع مقالة الامام.
    وراح يقول : إنها ـ أي الإرادة ـ كالسمع والبصر والعلم ....
    لقد كرر سليمان ما قاله سابقا من أن الإرادة كالسمع والبصر وقد أبطل الامام ذلك ، فقال ( عليه السلام ) له : أخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع ؟ ....
    لا .... وانبرى الامام يدله على تناقض كلامه قائلا : فكيف نفيتموه ؟ قلتم لم يرد ، ومرة قلتم : أراد ، وليست ـ أي الإرادة ـ بمفعول له ...
    وراح سليمان يتخبط عشواء فقال : انما ذلك كقولنا : مرة علم ، ومرة لم يعلم ....
    فأجابه الامام ببالغ الحجة قائلا :



1 ـ ضرار من شيوخ المعتزلة في علم الكلام ، وهو من الأباضية.


(123)

ليس ذلك سواء لان نفي المعلوم ليس كنفي العلم ، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون ، لان الشئ إذا لم يرد لم تكن إرادة ، فقد يكون العلم ثابتا ، وان لم يكن المعلوم بمنزلة البصر ، فقد يكون العلم ثابتا ، وان لم يكن المعلوم بمنزلة البصر ، فقد يكون الانسان بصيرا ، وإن يكن المبصر وقد يكون العلم ثابتا ، وان لم يكن المعلوم ...
    وأجاب سليمان : إنها ـ أي الإرادة ـ مصنوعة ...
    وأبطل الامام قول سليمان ، قائلا : فهي محدثة ، ليست كالسمع والبصر لان السمع والبصر ليسا بمصنوعين ، وهذه مصنوعة ....
    فقال سليمان : إنها صفة من صفاته لم تزل ....
    ورد عليه الامام قائلا : فينبغي أن يكون الانسان لم يزل لان صفته لم تزل ...
    وأخذ سليمان يراوغ في كلامه قائلا : لا ، لأنه لم يفعلها ...
    فأنكر الامام عليه ذلك وقال : يا خراساني ما أكثر غلطك ، أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء ؟ ...
    وأصر سليمان على خطئه قائلا : لا ....
    فأجابه الامام : إذا لم تكن بإرادته ، ولا مشيئته ، ولا أمره ، ولا بالمباشرة فكيف يكون ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك ....
    وحار سليمان ، فلم يستطع أن يقول شيئا ، وراح الامام يفند شبه سليمان ، وما تمسك به من أوهام قائلا له : ألا تخبرني عن قول الله عزوجل : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) (1). يعني بذلك أنه يحدث إرادة ؟ ....



1 ـ سورة الإسراء / آية 16.


(124)

وسارع سليمان قائلا : نعم ....
    فأجابه الامام : فإذا أحدث إرادة ، كان قولك : إن الإرادة هي هو أو شئ منه باطلا ، لأنه لا يكون أن يحدث نفسه ، ولا يتغير عن حالة تعالى الله عن ذلك ....
    وانبرى سليمان قائلا : إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة ...
    فما عنى به ؟ ... عني فعل الشئ ...
    فزجره الامام قائلا : ويلك كم تردد هذه المسألة ، وقد أخبرتك ان الإرادة محدثة ، لان فعل الشئ محدث ....
    فليس لها معنى ....
    قد وصف نفسه عندكم ، حتى وصفها بالإرادة بما له معنى فإذا لم يكن لها معنى قديم ، ولا حديث بطل قولكم ، ان الله عزوجل لم يزل مريدا ....
    وراح سليمان يتمسك بالشبه قائلا : إنما عنيت أنها ـ أي الإرادة ـ فعل من الله تعالى لم يزل ...
    ورد عليه الامام قائلا : ألم تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولا وقديما وحديثا في حالة واحدة.
    وحار سليمان في الجواب ، فقد أبطل الامام جميع شبهه ، وأوضح له ان كل ممكن حادث وليس أزليا ، وإرادة الله تعالى ليست على غرار صفات الممكن.
    وراح الامام يقيم عليه الحجة قائلا : لا بأس أتمم مسألتك ....
    ان الإرادة صفة من صفاته ....
    وأنكر الامام عليه تكراره لهذه المسألة قائلا : كم تردد علي أنها صفة من صفاته ، فصفته محدثة أو لم تزل ؟ ....
    محدثة ....
    الله أكبر فالإرادة محدثة ، ان كانت صفة من صفاته لم تزل فلم يرد شيئا ...



(125)

ان ما لم يزل لا يكون مفعولا ...
    وراح سليمان يغالط نفسه قائلا : ليس الأشياء إرادة ، ولم يرد شيئا ....
    ورد الامام عليه قائلا : وسوست يا سليمان ، فقد فعل ، وخلق ما لم يزل خلقه ، وفعله وهذه صفة من لا يدري ما فعل ؟ تعالى عن ذلك ....
    وغالط سليمان فقال : يا سيدي فقد أخبرتك انها كالسمع والبصر والعلم ...
    وصاح به المأمون قائلا : ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردد ؟ اقطع هذا ، وخذ في غيره ، إذ لست تقوى على غير هذا الرد ...
    والتفت الامام إلى المأمون ، قائلا : دعه يا أمير المؤمنين ، لا تقطع عليه مسألته ، فيجعلها حجة ....
    ونطر الامام إلى سليمان قائلا : تكلم يا سليمان ..
    ومضى سليمان قائلا : قد أخبرتك أنها ـ أي الإرادة ـ كالسمع والبصر والعلم ...
    فرد عليه الامام : لا بأس اخبرني عن معنى هذه ؟ أمعنى واحد أم معان مختلفة ؟ ....
    معنى واحد ....
    فمعنى الإرادات كلها معنى واحد ؟ .. نعم ..
    ورد عليه الامام ببالغ الحجة قائلا : فإذا كان معناها واحدا كانت إرادة القيام وإرادة القعود وإرادة الحياة وإرادة الموت ، إذا كانت ارادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضا ، ولم يخالف بعضها بعضا ، وكانت شيئا واحدا ....
    وأجاب سليمان قائلا : إن معناها مختلف ....



(126)

    وأشكل الامام عليه قائلا : اخبرني عن المريد أهو الإرادة أم غيرها ؟ ...
    بل هو الإرادة ...
    فأجابه الامام : المريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة ...
    يا سيدي ليس الإرادة المريد ...
    وأشكل الامام عليه قائلا : فالإرادة محدثة ، وإلا فمعه غيره ...
    إنها اسم من أسمائه ..
    هل سمى نفسه بذلك ؟ ...
    لا ، لم يسم نفسه بذلك ؟ ...
    فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه ...
    وراوغ سليمان ، فقال : قد وصف نفسه بأنه مريد ...
    وقال الامام : ليس صفته نفسه ، انه مريد اخبار عن أنه إرادة ولا اخبار عن أن الإرادة اسم من أسمائه ....
    لان ارادته علمه ...
    واجابه الامام : إذا علم الشئ فقد اراده ....
    أجل ....
    إذا لم يرده لم يعلمه.
    أجل ...
    وانبرى الامام يوضح فساد ما ذهب إليه سليمان قائلا : من أين قلت ذلك ؟ وما الدليل على أن ارادته عمله ؟ وقد يعلم ما لا يريده أبدا ، وذلك قوله عزوجل : ( لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) (1) فهو يعلم كيف يذهب به ، وهو لا يذهب به ابدا ...



1 ـ سورة الإسراء / اية 86.


(127)

وقال سليمان : لأنه قد فرغ من الامر فليس يزيد فيه شيئا ...
    ورد الامام عليه قائلا : هذا قول اليهود : فكيف قال تعالى : ( ادعوني استجب لكم ) (1).
    وأنكر سليمان ذلك وقال : انما عنى بذلك ، انه قادر عليه ....
    واجابه الامام : أفيعد ما لا يفي به ؟ فكيف قال : ( يزيد في الخلق ما يشاء ) (2).
    وقال عزوجل : ( يمحو الله ما يشاء وعنده أم الكتاب ) (3).
    وقد فرغ من الامر ... و ( ؟ ) سليمان.
    فقد سد الامام عليه كل نافذة ، فأين ما اتجه فالامام يواجهه ببالغ الحجة ، وقوة البرهان في ابطال ما يذهب إليه ..
    ومضى الإمام ( عليه السلام ) في ابطال شبه سليمان قائلا :
    يا سليمان هل يعلم أن انسانا يكون ، ولا يريد أن يخلق انسانا أبدا ، وان انسانا يموت اليوم ، ولا يريد أن يموت اليوم ...
    وسارع سليمان قائلا : يعلم أنهما يكونان جميعا ...
    وأجابه الامام بما يترتب على قوله من التناقض قائلا : إذا يعلم أن انسانا حي ميت ، قائم ، قاعد ، أعمى ، بصير ، في حالة واحدة ، وهذا هو المحال ....
    وراح سليمان يكثر من التناقض في كلامه الذي ألزمه به الامام قائلا :



1 ـ سورة المؤمن / آية 60.
2 ـ سورة فاطر / آية 1.
3 ـ سورة الرعد / آية 39.


(128)

جعلت فداك ، فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر ....
    فقال الامام : لا بأس ، فأيهما يكون الذي أراد أن يكون ، أو الذي لم يرد أن يكون ؟ ....
    وراح سليمان يتخبط خبط عشواء ، لم يدر ما يقول ، وما يترتب على كلامه من التهافت فقال : أراد الذي أن يكون ....
    وغرق القوم في الضحك ، وضحك الإمام الرضا ، والمأمون.
    فقال الامام : غلطت ، وتركت قولك : إنه يعلم أن أنسانا يموت اليوم ، وهو لا يريد أن يموت اليوم ، وانه يخلق خلقا ، وانه لا يريد أن يخلقهم ، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون ، فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون ؟ ....
    وراح سليمان يوجه ما قاله : فإنما قولي : إن الإرادة ليست هو ولا غيره ....
    وانبرى الامام يدله على تناقض قوله : إذا قلت : ليست هو فقد جعلتها غيره ، وإذا قلت : ليست هي غيره ، فقد جعلتها هو ...
    وقال سليمان : كيف فهو يعلم ـ أي الله ـ كيف يصنع الشئ ؟ .... نعم ... فان ذلك اثبات للشئ ...
    فأجابه الامام بمنطق الحكمة والعلم قائلا : أحلت ـ أي تكلمت بالمحال ـ لان الرجل قد يحسن البناء وان لم يبن ، ويحسن الخياطة ، وإن لم يخط ، ويحسن صنعة الشئ ، وان لم يصنعه ابدا. يا سليمان هل تعلم أنه واحد لا شئ معه ؟ ....
    نعم ....
    فيكون ذلك اثباتا للشئ ....
    وأنكر سليمان ما قاله سابقا. ليس يعلم أنه واحد لا شئ معه ....
    فأجابه الامام :



(129)

أفتعلم أنت ذاك ؟ ...
    نعم ....
    فأنت يا سليمان إذا أعلم منه ؟ ...
    وراح سليمان يقول : المسألة محال ....
    فرد الامام عليه قائلا : محال عندك ، إنه واحد ، لا شئ معه وانه سميع بصير ، حكيم قادر ...
    نعم ...
    وأجابه الامام بمنطق العلم والحكمة قائلا : كيف أخبر عزوجل انه واحد ، حي سميع ، بصير ، حكيم ، قادر عليم ، خبير ، وهو لا يعلم ذلك ، وتكذيبه .. تعالى الله عن ذلك.
    وأضاف الامام قائلا : كيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ، ولا ما هو ؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشئ قبل أن يصنعه فإنما هو متحير ... تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ...
    وراح سليمان يتخبط فقال : إن الإرادة القدرة ...
    فرد الامام عليه بقوله : وهو عزوجل يقدر على ما لا يريده أبدا ، ولا بد من ذلك ، لأنه قال تبارك وتعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد ان يذهب به لقدرته ....
    وبان العجز على سليمان ، ووقف حائرا أمام هذا البحر المتلاطم من العلم والفضل ، فانقطع عن الكلام.
    والتفت إليه المأمون مشيدا بمواهب الامام وعبقرياته قائلا : يا سليمان هذا أعلم هاشمي ....
    واحتوت هذه المناظرة على بحوث فلسفية بالغة الأهمية دلت على مدى ما يحمله الإمام الرضا ( عليه السلام ) من طاقات علمية هائلة أثبتت صدق وواقعية ما تذهب إليه الشيعة الإمامية من أن الامام لا بد ان يكون أعلم أهل عصره ، وبذلك فقد



(130)

باءت بالفشل محاولة المأمون الذي أراد تعجيز الامام ولو بمسألة واحدة ليتخذ منها وسيلة للطعن في معتقدات الشيعة بالامام.
    وقد علق الشيخ الصدوق نضر الله مثواه على هذه المناظرة بقوله : كان المأمون يجلب على الرضا من متكلمي الفرق والأهواء المضلة كل من سمع به حرصا على انقطاعه عن الحجة مع واحد منهم ، وذلك حسدا منه له.
    ولمنزلته من العلم ، فكان لا يكلمه أحد إلا أقر له بالفضل وألزم الحجة له عليه ، لان الله تعالى ذكره يأبى إلا أن يعلي كلمته ، ويتم نوره ، وينضر حجته ، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) (1) يعني بالذين آمنوا الأئمة الهداة ، واتباعهم العارفين بهم.
    والآخذين عنهم بنصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا ، وكذلك يفعل بهم في الآخرة وان الله عزوجل لا يخلف الميعاد (2).


1 ـ سورة المؤمن / آية 51.
2 ـ عيون أخبار الرضا 1 / 182 ـ 191. 



 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net