متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
مقدمة المؤلف
الكتاب : مكارم الأخلاق    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق
    مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
 

    الحمد لله الواحد الاحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، والصلاة والسلام على محمد عبده المجتبى ، ورسوله المصطفى ، أرسله إلى كافة الورى ، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وعلى أهل بيته أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا والسلام على من اتبع الهدى.
    وبعد فإن الله سبحانه وتعالى لما جعل التأسي بنبيه مفتاحا لرضوانه وطريقا إلى جنانه ، بقوله عزوجل : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر ) واتباعه واقتفاء أثره سببا لمحبته ، ووسيلة إلى رحمته بقوله عز من قائل : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) حداني هذا الفوز العظيم إلى جمع كتاب يشتمل على مكارم أخلاقه ومحاسن آدابه وما أمر به أمته ، فقال ( عليه السلام ) : إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق. لان العلم بالشيء مقدم على العمل به ، فوجدت في كلام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ما يحتوي على حقيقة سير الانبياء وهي الانقطاع بالكل عن الناس إلى الله في الرجاء والخوف وعن الدنيا إلى الاخرة.
    وخص من جملتهم نبينا محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكمال هذه السيرة وحثنا ورغبنا على الاقتداء به فقال ( عليه السلام ) بعد كلام له طويل لمدع كاذب يدعي بزعمه أنه يرجو الله : كذب والعظيم ما باله [ و ] لا يتبين رجاؤه في عمله وكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلا رجاء الله فإنه مدخول ، وكل خوف متحقق إلا خوف الله فإنه معلول ، يرجو الله في الكبير


(9)

ويرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب ، فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع بعباده ؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرجاء موضعا ؟ وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه فجعل خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالفه ضمارا (1) ووعدا وكذلك من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في قلبه ، آثرها على الله فانقطع إليها وصار عبدا لها ، ولقد كان في رسوله الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كاف لك في الاسوة ودليل على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ووطأت لغيره أكنافها وفطم عن رضاعها وزوى عن زخارفها ، وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله إذ يقول : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير والله ما سأله إلا خبزا يأكله ، لانه كان يأكل بقلة الارض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه ، لهزاله وتشذب (2) لحمه ، وإن شئت ثلثت بداود صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة ، فلقد كان يعمل من سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها ، وإن شئت قلت في عيسى بن مريم فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن وكان إدامه الجوع وسراجه بالليل القمر وظلاله في الشتاء مشارق الارض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الارض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه ولا مال يلفته ولا طمع يذله ، دابته رجلاه وخادمه يداه. فتأس بنبيك الاطيب الاطهر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لاثره ، قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدنيا كشحا (3) وأخمصهم من الدنيا بطنا ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أن الله أبغض شيئا فأبغضه وحقر شيئا فحقره ، وصغر شيئا فصغره ، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله وتعظيمنا ما صغر الله لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله.


1 ـ الضمار الوعد المسوف.
2 ـ الصفاق ككتاب : هو الجلد الاسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر أو جلد البطن وهو المراد ههنا. والتشذب : التفرق.
3 ـ قضم الشيء : كسره بأطراف أسنانه وأكله ، والمراد الزهد في الدنيا والرضا منها بالدون. والهضم : خمص البطن وخلوها. والكشح ، ما بين السرة ووسط الظهر.


(10)

    ولقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأكل على الارض ، ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه ويكون الستر على باب بيته تكون فيه التصاوير فيقول : يا فلانة ـ لاحدى أزواجه ـ غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها ، فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتخذ منها رياشا (1) ولا يعتقدها قرارا ولا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النفس وأشخصها عن القلب وغيبها عن البصر وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده.
    ولقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصته ، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته ، فلينظر ناظر بعقله أأكرم الله بذلك محمدا أم أهانه ؟ فإن قال : أهانه فقد كذب والله العظيم ، وأتى بالافك العظيم ، وإن قال : أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه.
    فإن تأسى متأس بنبيه واقتص أثره وولج مولجه وإلا فلا يأمن الهلكة فإن الله جعل محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علما للساعة ومبشرا بالجنة ومنذرا بالعقوبة ، خرج من الدنيا خميصا وورد الاخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه ، فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه وقائدا نطأ عقبه والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل : ألا تنبذها ؟! فقلت : اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى.
    فهذه الخطبة كافية في مقصودنا على طريق الجملة ونحن نذكر تفصيل مكارم أخلاقه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في جميع أحواله وتصرفاته وجلوسه وقيامه وسفره وحضره وأكله وشربه خاصة وجميع ما روي عنه وعن الصادقين عليهم السلام في أحوال الناس عامة ونسأل الله التوفيق في إتمامه ، إنه على ما يشاء قدير ، وتيسير العسير عليه سهل يسير.


1 ـ الرياش : ما كان فاخرا من اللباس والاثاث.


(11)

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net