متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
فصل: في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن
الكتاب : مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق
فصل
{ في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن }

    في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن

    روي عن أنس بن مالك ، قال : كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي ، فخرج أبو طلحة فقبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ فقالت اُم سليم ، وهي اُم الصبي رضي الله عنها : هو أسكن ما كان ، فقربت له العشاء فتعشى ، ثم اصاب منها ، فلما فرغ قالت : فارق الصبي ، فلما اصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره ، فقال : « أعرستم الليلة ؟ » فقال : نعم ، فقال : « اللهم بارك لهما » فولدت غلاماً.
    قالت : فقلت لأبي طلحة : احمله حتى تأتي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبعثت معه بتمرات ، فقال : « أمعه شيء ؟ » قال : تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله فمضغها ، ثم أخذها صلى الله عليه وآله من فيه فجعلها في في الصبي ، ثم حنكه ، وسماه عبد الله (1).
    قال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤا القرآن ، يعني من أولاد عبد الله المولود (2).
    وفي رواية أخرى : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، قال : فجاء ، فقربت إليه عشاء ، فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أكثر مما كانت تتصنع له من قبل ذلك ، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها ، قال : يا أبا طلحة ، أرأيت قوماً أعاروا عارية أهل بيت فطلبوا عاريتهم ؟ ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا ، قالت : فاحتسب ابنك ، قال : فغضب ، ثم قال : تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني (3).
    وفي حديث آخر : لما كان آخر الليل قالت : يا أبا طلحة ، إن آل فلان استعاروا عارية تمتعوا بها ، فلما طلبت منهم شق عليهم ذلك ، قال : ما أنصفوا ، قالت : :


1 ـ رواه البخاري في صحيحه 7 : 109 ، ومسلم في صحيحه 3 : 1689 باختلاف يسير ورواه باختلاف في ألفاظه محمد بن علي العلوي في التعازي : 25 / 52.
2 ـ صحيح البخاري 2 : 104.
3 ـ صحيح مسلم 4 : 1909.


(69)

فإن فلاناً ـ لابنها ـ كان عارية من الله عزوجل ، وقبضه الله ، فاسترجع ، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بما كان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « بارك الله لكما في ليلتكما ».
    قال : فحملت وذكر الحديث ، وفيه ، فولدت غلاماً ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وجهه ، وسماه عبد الله.
    والحديث في ( عيون المجالس ) بزيادة غريبة في آخره ، ولفظه :
    عن معاوية بن قرة ، قال : كان أبو طلحة يحب ابنه حباً شديداً ، فمرض فخافت اُم سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد ، فبعثته إلى النبي الله صلى الله عليه وآله ، فلما خرج أبو طلحة من داره توفي الولد ، فسجته اُم سليم بثوب ، وعزلته في ناحية من البيت ، ثم تقدمت إلى أهل بيتها ، وقالت لهم : لا تخبروا أبا طلحة بشيء.
    ثم أنها صنعت طعاماً ، ثم مست شيئاً من الطيب ، فجاء أبو طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : ما فعل ابني؟ فقالت له : هدأت نفسه ، ثمّ قال : هل لنا مانأكل؟ فقامت فقربت إليه الطعام ، ثمّ تعرضت له فوقع عليها ، فلمّا اطمأنّ قالت له : يا أبا طلحة اتغضب من وديعة كانت عندنا ، فرددناها إلى أهلها؟ فقال : سبحان الله ، لا ، فقالت : ابنك كان عندنا وديعة فقبضه الله تعالى ، فقال أبو طلحة : فأنا أحق بالصبر منك.
    ثم قام من مكانه ، فاغتسل ، وصلّي ركعتين ، ثم انطلق إلى النبي صلّى الله عليه وآله ، فأخبره بصنيعهما ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : « فبارك الله لكما في وقعتكما ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الحمد لله الذي جعل في اُمتي مثل صابرة بني أسرائيل » فقيل : يا رسول الله ، ما كان من خبرها ؟
    قال : « كانت في بني إسرائيل امرأة ، وكان لها زوج ، ولها منه غلامان ، فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ففعلت ، واجتمع الناس في داره ، فانطلق الغلامان يلعبان ، فوقعا في بئر كان في الدار ، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة ، فأدخلتهما البيت ، وسجتهما بثوب ، فلما فرغوا دخل زوجها ، فقال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، وإنها كانت قد تمسحت بشيء من الطيب ، وتعرضت للرجل حتى وقع عليها ، ثم قال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، فناداهما أبوهما ، فخرجا يسعيان ، فقالت المرأة :


(70)

سبحان الله ! والله لقد كانا ميتين ، ولكن الله تعالى أحياهما ثواباً لصبري » (1).
    وقريب من هذا ما رويناه في ( دلائل النبوة ) عن أنس بن مالك ، قال : دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ، فلم نبرح حتى قضى ، فبسطنا عليه ثوباً ، واُم له عجوز كبيرة عند رأسه ، فقلنا لها : يا هذه ، احتسبي مصيبتك على الله عزوجل ، فقالت : مات ابني ؟ قلنا نعم ، قالت : حقاً تقولون ؟ قلنا : نعم ، قال فمدت يدها ، وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى رسولك صلى الله عليه وآله وسلم رجاء ان تعينني عند كل شدة ورخاء ، فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم ، فكشف الثوب عن وجهه بيده ، ثمّ مابرحنا حتى طعمنا معه (2).
    وهذا الدعاء من المرأة رحمها الله إدلال على الله ، واستئناس به يقع منه للمحبين كثيراً ، فيقبل دعاءهم ، وإن كان في التذكير بنحو ذلك ما يظهر منه قلة الادب. لو وقع من غيرهم ، ولذلك بحث طويل وشواهد من الكتاب والسنة ، يخرج ذكره عن مناسبة المقام.
    ومن لطيف ما اتفق فيه مناجاة برخ الاسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني اسرائيل بعد ان قحطوا سبع سنين ، وخرج موسى ليستسقي لهم في سبعين الفا ، فأوحى الله إليه : « كيف استجيب لهم وقد أظلت عليهم ذنوبهم ، وسرائرهم خبيثة ، يدعونني على غير يقين ، ويأمنون مكري ! إرجع إلى عبد من عبادي ، يقال له : برخ ، يخرج حتى استجيب له ».
    فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف ، فبينا موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق ، فإذا بعبد أسود بين عينيه تراب من أثر السجود ، في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلم عليه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : إسمي برخ ، فقال : أنت طلبتنا منذ حين ، اخرج استسق لنا ، فخرج ، فقال في كلامه : اللهم ما هذا من فعالك ، وما هذا من حلمك ، وما الذي بدالك ! أنقصت عليك عيونك ، أم عاندت الرياح عن طاعتك ، أم نفد ما عندك ! أم اشتد غضبك على المذنبين ، الست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين ؟ ! خلقت الرحمة ، وأمرت بالعطف ، أم ترينا أنك ممتنع ، أم


1 ـ أخرجه المجلسي في بحار الانوار 82 : 150.
2 ـ دلائل النبوة 6 : 50 باختلاف في ألفاظه ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 151.


(71)

تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ ! فما برح برخ حتى ( أفاضت وخاضت ) (1) بنو إسرائيل بالقطر.
    قال : فلما رجع برخ استقبل موسى عليه السلام ، فقال : كيف رأيت حين خاصمت ربي ، كيف انصفني ؟ (2)
    رجعنا إلى أخبار الصابرات :
    وروي : أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها لما جاء خبر ولدها ـ محمد بن أبي بكر ـ أنه قتل وأحرق بالنار في جيفة حمار ، قامت إلى مسجدها ، فجلست فيه ، وكظمت الغيظ حتى تشخب ثديها دماً (3).
    وروي عن حمنة (4) بنت جحش رضي الله عنها : أنها قيل لها : قتل أخوك ، قالت : رحمه الله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، قالوا : وقتل زوجك ، قالت : واحزناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أن للزوج من المرأة لشعبة ماهي لشيء » (5).
    وروي : ان صفية بنت عبد المطلب أقبلت لتنظر إلى أخيها لأبويها ـ حمزة بن عبد المطلب ـ باُحد ، وقد مثل به ، فقال النبي صلى الله عليه وآله لابنها الزبير : « القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها » فقال لها : يا أماه ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرك ان ترجعي ، قالت : ولم ، وقد بلغني أنه قد مثل بأخي ؟ وذلك في الله عزوجل ، فما أرضانا بما كان من ذلك ! فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.
    فلما جاء الزبير إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبره بقولها ، فقال له : « خل سبيلها » فأتته ، ونظرت إليه ، وصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له (6).
    وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما قتل حمزة رضي الله عنه يوم اُحد ، أقبلت صفية تطلبه ، لا تدري ما صنع به ، قال : فلقيت علياً والزبير ، فقال علي عليه السلام للزبير : « أذكر لاُمك » فقال الزبير : لا ، بل اذكر انت لعمتك ، قالت : ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنهما لا يدريان ، قال : فجاءت النبي صلى الله عليه وآله فقال : « إني أخاف


1 ـ في « د » : اخضلت.
2 ـ أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8 : 81.
3 ـ روى القصة مفصلة الدميري في حياة الحيوان الكبرى 1 : 247.
4 ـ في « ح » : جهينة ، والصواب ما أثبتناه من « د » ، راجع « اُسد الغابة 5 : 428 ».
5 ـ سنن ابن ماجة 1 : 507 ، المستدرك على الصحيحين 4 : 62.
6 ـ السيرة النبوية لابن هشام 3 : 103.


(72)

على عقلها » قال : فوضع يده على صدرها ، ودعا لها ، فاسترجعت ، وبكت ، قال : ثم جاء صلى الله عليه وآله فقام عليه ، وقد مثل به ، فقال : « لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطيور وبطون السباع » (1).
    واستشهد شاب من الأنصار يقال له : خلاد يوم بني قريظة ، فجاءت أمه متنقبة فقيل لها : تتنقبين يا اُم خلاد وقد رزئت بخلاد ! فقالت : لئن كنت رزئت خلاداً ، فلم ارزأ حيائي (2) ، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله ، وقال : « إن له أجرين ، لأن أهل الكتاب قتلوه » (3).
    وعن أنس بن مالك قال : لما كان يوم اُحد حاص أهل المدينة حيصة ، فقالوا : قتل محمد صلى الله عليه وآله ، حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة ، فخرجت امراة من الأنصار متحزنة ، فاستقبلت بأبيها وأبنها وزوجها وأخيها ، لا أدري أيهم استقبلت أولاً ، فلما مرت على آخرهم قالت : من هذا ؟ قالوا : أخوك ، وأبوك ، وزوجك ، وابنك ، قالت : ما فعل النبي صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : أمامك ، فمشت حتى جاءت إليه ، فأخذت بناحية ثوبه ، وجعلت تقول : بأبي أنت وامي يا رسول الله ، لا ابالي إذا سلمت من عطب.
    وروى البيهقي قال : مر رسول الله صلى الله عليه وآله بامرأة من بني دينار (4) ، وقد أصيب زوجها وأبوها وأخوها معه صلى الله عليه وآله باُحد ، فلما نعوا إليها ، قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان ، وهو يحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى انظر إليه ، فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل (5).
    وخرجت السمراء بنت قيس ـ أخت أبي حزام ـ ، وقد اصيب ابناها ، فعزاها النبي صلى الله عليه وآله بهما ، فقالت : كل مصيبة بعدك جلل (6) ، والله لهذا


1 ـ المستدرك على الصحيحين 3 : 197.
2 ـ في « د » و « ح » : حبابه ، وما أثبتناه من منتخب كنز العمال.
3 ـ منتخب كنز العمال 1 : 212 باختلاف في ألفاظه.
4 ـ في « د » : ذبيان ، وفي « ح » : دينارة ، وفي هامش « ح » : صباره ، والظاهر كلها تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، وبنو دينار : بطن من بني النجار من الخزرج من الأنصار. اُنظر « معجم قبائل العرب 1 : 401 ».
5 ـ السيرة النبوية لابن هشام 3 : 105 ، ورواه الواقدي في المغازي 1 : 292 باختلاف في ألفاظه.
6 ـ الجلل : الأمر العظيم والهين ، وهو من الاضداد ، والمراد هنا : كل مصيبة بعدك هينة. اُنظر « الصحاح


(73)

النقع (1) الذي أرى على وجهك أشد من مصابهما.
    وروي : أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ، ومعه ابن له ، فقال لابنه : أي بني تقدم فقاتل حتى احتسبك ، فحمل فقاتل فقتل ، ثم تقدم أبوه فقاتل فقتل ، قال : فاجتمع النساء عند امه معاذة العدوية زوجة صلة ، فقالت لهن : مرحباً بكن إن كنتن ( جئتن لتهنئتي ) (2) ، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
    وروي : أن عجوزاً من بني بكر بن كلاب كان يتحدث قومها عن عقلها وسدادها ، فأخبر بعض من حضرها ، وقد مات ابن لها ، وكان واحدها ، وقد طالت علته ، وأحسنت تمريضه ، فلما مات قعدت بفنائها ، وحضرها قومها ، فأقبلت على شيخ منهم فقالت : يا فلان ، ما حق من أسبغت عليه النعمة ، وأُلبس العافية ، واعتدلت به النظرة ، أن لا يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوته (3) ، ينزل الموت بداره ، فيحول بينه وبين نفسه ؟ ثم أنشأت تقول شعراً :

هو أبني وأنسي أجره لي وعزني فإن أحتسب أوجر وإن ابكه أكن على نفسه رب اليه ولاؤها كباكية لم يغن شيئاً بكاؤها

    فقال لها شيخ : إننا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء ، فلا يجزعن أحد بعدك ، ولقد كرم صبرك ، وما أشبهت النساء ، فقالت له : إنه ما ميز امرؤ بين الجزع وصبر ، إلا وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حالتيهما :
    أما الصبر : فحسن العلانية ، محمود العاقبة.
    وأما الجزع : فغير معرض شيئاً مع إثمه.
    ولو كانا في صورة رجلين ، لكان الصبر أولاهما بالغلبة ، وبحسن الصورة ، وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب ، وكفى بما وعد الله عزوجل لمن ألهمه إياه.
    وعن جويرية بن أسماء : أن ثلاثة أخوة شهدوا تستر ، واستشهدوا ، وبلغ ذلك أمهم ، فقالت : مقبلين أم مدبرين ؟ فقيل لها : بل مقبلين ، فقالت : الحمد لله ، نالوا والله الفوز ، وحاطوا الذمار ، بنفسي هم وأبي وامي ، وما تأوهت ، ولا دمعت لها عين.


ـ جلل ـ 4 : 1659 ».
1 ـ النقع : الغبار. « الصحاح ـ نقع ـ 3 : 1292 ».
2 ـ في « د » : جئتني لتهنئنني.
3 ـ في « ح » بعقوبته ، والصواب ما في المتن ، والعقوة : الساحة وما حول الدار. « الصحاح ـ عقا ـ 6 : 2433 ».


(74)

    وعن أبي قدامة الشامي قال : كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات ، فدخلت بعض البلدان ، ودعوت الناس للغزاة ، ورغبتهم في الجهاد ، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها ، ثم تفرق الناس وركبت فرسي ، وسرت إلى منزلي ، فإذا أنا بأمرأة من أحسن الناس وجهاً تنادي : يا أبا قدامة ، فمضيت ولم أجب ، فقالت : ما هكذا كان الصالحون ، فوقفت ، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة ، وانصرفت باكية ، فنظرت في الرقعة وإذا فيها مكتوب : أنت دعوتنا إلى الجهاد ، ورغبتنا في الثواب ، ولا قدرة لي على ذلك ، فقطعت أحسن ما في ، وهما ضفيرتاي ، وأنفذتهما (1) إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله ، فيغفر لي.
    فلما كان صبيحة القتال ، فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسراً ، فتقدمت إليه وقلت : يا غلام ، أنت فتى غر (2) راجل ، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها ، فارجع عن موضعك هذا ، فقال : أتأمرني بالرجوع ، وقد قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الادبار ) (3) ؟ وقرأ الآية إلى آخرها.
    فحملته على هجين كان معي ، فقال : يا أبا قدامة ، أقرضني ثلاثة أسهم ، فقلت : أهذا وقت قرض ؟ فما زال يلح علي حتى قلت : بشرط إن من الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك ، قال : نعم ، فأعطيته ثلاثة أسهم ، فوضع سهماً في قوسه ورمى به ، فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر ، وقال : السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع ، فجاءه سهم فوقع بين عينيه ، فوضع رأسه على قربوس سرجه ، فتقدمت إليه ، وقلت : لا تنسها ، فقال : نعم ، ولكن لي إليك حاجة ، إذا دخلت المدينة فأت والدتي ، وسلم خرجي (4) إليها وأخبرها ، فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك ، فسلم عليها ، فهي العام الأول أصيبت بوالدي ، وفي هذا العام بي ، ثم مات ، فحفرت له ، ودفنته.
    فلما هممت بالإنصراف عن قبره قذفته الارض ، فألقته على ظهرها ، فقال أصحابه : غلام غر ، ولعله خرج بغير إذن امه ، فقلت : إن الإرض لتقبل من هو شر من


1 ـ في « ح » : وأرسلتها.
2 ـ في الحديث : « المؤمن غر كريم » يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة ، وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه ، وليس ذلك منه جهلاً ، ولكنه كرم وحسن خلق « النهاية ـ غرر ـ 3 : 354 ».
3 ـ الأنفال 8 : 15.
4 ـ الخرج : وعاء « الصحاح ـ خرج ـ 1 : 309 ».


(75)

هذا ، فقمت وصليت ركعتين ، ودعوت الله ، فسمعت صوتاً يقول : يا أبا قدامة ، أترك ولي الله ، فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته.
    فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته ، فما قرعت الباب خرجت أخته إلي ، فلما رأتني عادت إلى امها ، وقالت : يا أماه ، هذا أبو قدامة ، وليس معه أخي ، وقد أُصبنا في العام الاول بأبي ، وفي هذا العام بأخي ، فخرجت اُمه ، فقالت : أمعزيناً أم مهنئاً ؟ فقلت : ما معنى هذا ؟ قالت : إن كان ابني مات فعزني ، وإن كان استشهد فهنئني ، فقلت : لا ، بل قد مات شهيداً ، فقالت له علامة ، فهل رأيتها ؟ فقلت : نعم ، لم تقلبه الارض ، ونزلت الطيور ، فأكلت لحمه ، وتركت عظامه ، فدفنتها ، فقالت : الحمد لله.
    فسلمت إليها الخرج ، ففتحته وأخرجت منه مسحاً وغلاً من حديد ، قالت : إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح ، وغلّ نفسه بالغل وناجى مولاه ، وقال في مناجاته : إلهي احشرني من حواصل الطيور. فاستجاب الله سبحانه دعاءه رحمه الله.
    وروى البيهقي عن أبي عباس السراج ، قال : مات لبعضهم ابن ، فدخلت على اُمه ، فقلت لها : اتقي الله واصبري ، فقالت : مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع.
    وقال ابان بن تغلب رحمه الله : دخلت على امرأة ، وقد نزل بابنها الموت ، فقامت إليه فغمضته وسجته ، ثم قالت : يا بني ، ما الجزع في ما لا يزول ؟ وإنما البكاء في ما ينزل بك غداً ؟ يا بني ، تذوق ما ذاق أبوك ، وستذوقه من بعدك امك ، وإن أعظم الراحة لهذا الجسد النوم ، والنوم أخو الموت ، فما عليك إن كنت نائماً على فراشك ، أو على غيره ، وإن غداً السؤال والجنة والنار ، فإن كنت من أهل الجنة فما ضرك الموت ، وإن كنت من أهل النار فما تنفعك الحياة ، ولو كنت أطول الناس عمراً ، والله يا بني لولا أن الموت أشرف الاشياء لابن آدم ، لما أمات الله نبيه صلى الله عليه وآله ، وأبقى عدوه أبليس لعنه الله (1).
    وعن المبرد قال : أتيت امرأة أعزيها عن ابنها ، فجعلت تثني عليه ، فقالت : كان ـ والله ـ ماله لغير بطنه ، وأمره لغير عرسه ، وكان رحب الذراع بالتي لا تشينه ، فإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعاً ، فقلت لها : وهل لك منه خلف ؟ ـ وأنا أعني الولد ـ ، فقالت : نعم بحمد الله كثير الطيب ، ثواب الله عزوجل ، ونعم العوض في الدنيا والآخرة.


1 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152.


(76)

    وعنه : أنه خرج إلى اليمن ، فنزل على امرأة لها مال كثير ورقيق وولد وحال حسنة ، فاقام عندها مدة ، فلما أراد الرحيل قال : إلك حاجة ؟ قالت : نعم ، كلما نزلت هذه البلاد فانزل علي.
    وإنه غاب اعواما ، ثم نزل عليها ، فوجدها قد ذهب مالها ورقيقها ، ومات ولدها ، وباعت منزلها ، وهي مسرورة ضاحكة ، فقال لها : أتضحكين مع ما قد نزل بلك ؟ فقالت : يا عبد الله كنت في حال النعمة في أحزان كثيرة ، فعلمت أنها من قلة الشكر ، فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكراً لله تعالى على ما أعطاني من الصبر.
    وعن مسلم بن يسار قال : قدمت البحرين فأضافتني امرأة لها بنون ورقيق ومال ويسار ، وكنت أراها محزونة ، فغبت عنها مدة طويلة ، ثم أتيتها فلم أر ببابها إنساً ، فاستأذنت عليها ، فإذا هي ضاحكة مسرورة ، فقلت لها : ما شأنك ؟ قالت : إنك لما غبت عنا لم نرسل شيئاً في البحر إلا غرق ، ولا شيئاً في البر إلا عطب ، وذهبت الرقيق ، ومات البنون ، فقلت لها : يرحمك الله ، رأيتك محزونة في ذلك اليوم ، ومسرورة في هذا اليوم ، فقالت : نعم ، إني لما كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا ، خشيت أن يكون الله تعالى قد عجل لي حسناتي في الدنيا ، فلما ذهب مالي وولدي ورقيقي رجوت أن يكون الله تعالى قد ذخر لي عنده شيئاً (1).
    وعن بعضهم قال : خرجت أنا وصديق لي إلى البادية ، فضللنا الطريق ، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلمنا ، فإذا بامرأة ترد علينا السلام ، وقالت : ما أنتم ؟ قلنا : ضالون فأتيناكم فاستأنسنا بكم ، فقالت : يا هؤلاء ، ولّوا وجوهكم عنّي ، حتى أقضي حقكم ما أنتم له أهل ، ففعلنا ، فألقت لنا مسحاً ، وقالت : اجلسوا عليه إلى أن يأتي أبني.
    ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها ، إلى أن رفعته مرة فقالت : أسأل الله بركة المقبل ، أما البعير فبعير ابني ، وأما الراكب فليس هو به ، قال : فوقف الراكب عليها ، وقال : يا اُم عقيل ، عظم الله أجرك في عقيل ولدك ، فقالت : ويحك مات ! ؟ قال : نعم ، قالت : وما سبب موته ؟ قال : ازدحمت عليه الابل فرمت به في البئر فقالت : انزل واقض ذمام القوم ، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه ، وقرب إلينا الطعام ، فجعلنا نأكل ، ونتعجب من صبرها.


1 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152.


(77)

    فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت : يا قوم ، هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً ؟ فقلت : نعم ، قالت : فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي ، فقلت : يقول الله عزوجل : ( وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ) (1). قالت : بالله انها في كتاب الله هكذا ؟ قلت : والله إنها لفي كتاب الله هكذا ، فقالت : السلام عليكم ، ثم صفت قدميها وصلت ركعات ، ثم قالت : اللهم إني قد فعلت ما أمرتني به ، فأنجز لي ما وعدتني به ، ولو بقي أحد لأحد ـ قال : فقلت في نفسي تقول : لبقي ابني لحاجتي إليه ، فقالت ـ : لبقي محمد صلى الله عليه وآله لأمته.
    فخرجت وأنا أقول : ما رأيت أكمل منها ولا أجزل ، ذكرت ربها بأكمل خصاله وأجمل خلاله. ثم إنها لما علمت ان الموت لا مدفع له ، ولا محيص عنه ، وأن الجزع لا يجدي نفعاً ، والبكاء لا يرد هالكاً ، رجعت إلى الصبر الجميل ، واحتسبت ابنها عند الله تعالى ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة (2).
    ونحوه ما أخرجه ابن أبي الدنيا ، قال : كان رجل يجلس إلي ، فبلغني انه شاكٍ (3) فأتيته أعوده ، فإذا هو قد نزل به الموت ، وإذا اُمّ له عجوز كبيرة عنده ، فجعلت تنظر حتى غمض وعصب وسجي ، ثم قالت : رحمك الله ، اي بني ، فقد كنت بنا باراً ، وعلينا شفيقاً ، فرزقني الله عليك الصبر ، فقد كنت تطيل القيام ، وتكثر الصيام ، لا حرمك الله تعالى ما أملت فيه من رحمته ، وأحسن فيك العزاء ، ثم نظرت إليّ وقالت : أيها العائد قد رأيت واعظاً ونحن معك.
    وروى البيهقي عن ذي النون المصري ، قال : كنت في الطواف ، وإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا ،
    وأنشأت إحداهما تقول :
صبرت وكان الصبر خير ( مغبة ) (4) صبرت على ما لو تحمل بعضه ملكت دموع العين ثم رددتها وهل الجزع مني ليجدي فأجزع جبال برضوى أصبحت تتصدع إلى ناظري فالعين في القلب تدمع


1 ـ البقرة 2 : 155 ـ 157.
2 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152.
3 ـ الشاكي : المريض. « الصحاح ـ شكا ـ 6 : 2395 ».
4 ـ في « ح » : مطية.


(78)

    فقلت : مماذا يا جارية ؟ فقالت : من مصيبة نالتني ، لم تصب أحداً قط ، قلت : وما هي ؟ قالت : كان لي شبلان يلعبان أمامي ، وكان أبوهما ضحى بكبشين ، فقال أحدهما لأخيه : يا أخي اريك كيف ضحى أبونا بكبشه ، فقام وأخذ الآخر شفرة فنحره ، وهرب القاتل فدخل ابوهما ، فقلت : إن ابنك قتل أخاه وهرب ، فخرج في طلبه ، فوجده قد افترسه السبع ، فرجع الاب فمات في الطريق ظمأً وجوعاً.
    وروى بعضهم هذه الرواية ، وزاد فيها : قال : رايت امرأة حسناء ، ليس بها شيء من الحزن ، وقالت : والله ما أعلم أحداً اُصيب بما اُصبت به ، وأوردت القصة ، فقلت لها : كيف أنت والجزع ؟ فقالت : لو رايت فيه دركاً ما اخترت عليه شيئاً ، ولو دام لي لدمت له.
    وحكى بعضهم ، قال : اُصيبت امرأة بابن لها فصبرت ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : آثرت طاعة الله تعالى على طاعة الشيطان.


(79)

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net