متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
فصل: وقائع ماضية عن الرضا بالقضاء
الكتاب : مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق
فصل
{ في ذكر جماعة من السلف ، نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافاً إلى ما تقدّم }

    إعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمّن الرضا بالقضاء ، بخصوص موت الولد ونحوه ، ولنذكر هنا اُموراً عامة :
    لمّا اشتد البلاء على أيوب عليه السلام قالت امرأته : ألا تدعو ربّك ، فيكشف ما بك؟ فقال لها : « يا امرأة إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة ، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء ، لعلّي كنت أدّيت شكرما أنعم الله عليّ ، وأولى بي الصبر على ما أبلى » (1).
    وروي أن يونس عليه السلام قال لجبرئيل عليه السلام : « دلّني على أعبد أهل الأرض » ، فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه ، وذهب ببصره وسمعه ، وهو يقول :
    إلهي! متّعتني بهما ما شئت ، وسلبتني ماشئت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يابرٌّيا وصول (2).
    وروي أنّ عيسى عليه السلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج ، وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمدلله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه.
    فقال له عيسى عليه السلام : « يا هذا ، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ ».
    فقال : يا روح الله ، أنا خير ممّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته.
    فقال له : « صدقت ، هات يدك » فناوله يده ، فإذا هو أحسن الناس وجهاً ، وأفضلهم هيئة ، قد أذهب الله عنه ما كان به ، فصحب عيسى عليه السلام ، وتعبد معه (3).
    وقال بعضهم ، قصدت عبادان (4) في بدايتي ، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون


1 ـ روي باختلاف في ألفاظ في تنبيه الخواطر 1 : 40 ، وارشاد القلوب : 127.
(2 و 3) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 153.
4 ـ عبادان : بلد تحت البصرة. « معجم البلدان 4 : 74 ».


(88)

قد صرع ، والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه ، ووضعته في حجري ، وأنا أردد الكلام ، فلمّا أفاق قال : من هذا الفضوليّ الذي يدخل بيني وبين ربي؟ فوحقّه لو قطّعني إرباً إرباً ، ما ازددت له إلاّ حبّاً.
    وقطعت رجل بعضهم من ركبته من إكلة (1) خرجت بها ، فقال : الحمدلله الذي أخذ منّي واحدة ، وترك ثلاثاً ، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ثمّ لم يدع ورده تلك اللّيلة.
    وقال بعضهم ، نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا بالقضاء ، فما لي منه إلاّ مشامّ الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنة ، وأدخلني الناركنت بذلك راضياً. وقيل لبعض العارفين : نلت غاية الرضا عنه ، فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام من الرضا قد نلته ، لوجعلني الله جسراً على جهنم ، تعبر الخلائق عليّ إلى الجنة ، ثمّ ملأ بي جهنّم لأحببت ذلك من حكمه ، ورضيت به من قسمه.
    وهذا كلام من علم أنّ الحبّ قد استغرق همّه ، حتى منعه الإحساس بألم النار ، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، لكنّه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان ، ولاينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء ، ويظنّ أنّ ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء.
    وكان عمران بن حصين (2) ـ رضي الله عنه ـ استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد ، قد ثقب له في سريره موضع لقضاء الحاجة (3) ، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله ، فقال : لم تبكي؟ قال : لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة ، قال : لا تبك ، فإن أحبّه لي الله تعالى أحبه ، ثمّ قال : أحدّثك شيئاً لعلّ الله (4) ينفعك به ، واكتم عليّ حتى أموت ، إنّ الملائكة لتزورني (5) فآنس بها ، وتسلّم عليّ فأسمع تسليمها ، فأعلم بذلك أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة ، إذ هو سبب لهذه النعمة


1 ـ الإكلة : الحكة. « الصحاح ـ أكل ـ 4 : 1624 ».
2 ـ في « ش » و « ح » : عمر بن حصين ، والصواب ما أثبتناه وهو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي ، اسلم عام خيبر ، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة توفي سنه 52 أو 53 للهجرة. راجع « اسد الغابة 4 : 137 ، تهذيب التهذيب 8 : 125 ، الإصابة في تمييز الصحابة 3 : 26 ».
3 ـ في « ش » : حاجته.
4 ـ في « ش » زيادة : أن.
5 ـ في « ش » : تزورني.


(89)

الجسمية ، فمن شاهد هذا في بلائه ، كيف لا يكون راضياً به (1) ؟
    وقال بعضهم : دخلنا على سويد بن شعبة ، فرأينا ثوباً ملقى ، فما ظننّا أنّ تحته شيئاً حتى كشف ، فقالت امرأته : أهلك فداؤك ، أما نطعمك أما نسقيك؟ فقال : طالت الضجعة (2) ، ودبرت الحراقيف (3) ، وأصبحت نضواً (4) ، لا اطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً منذ كذا ـ فذكر أياماً ـ وما يسرّني أنّي نقصت من هذا قلامة ظفر.
    وروي عن بعضهم ، وكان قاسى المرض ستّين سنة ، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه ، فقالوا : أتريد أن تموت ، حتى تستريح ممّا أنت فيه؟ قال : لا ، قالوا : فما تريد؟ قال : ما لي إرادة ، إنّما أنا عبد ، وللسيّد الإرادة في عبده ، والحكم في أمره.
    وقيل : اشتدّ المرض بفتح الموصلي ، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد ، فقال : إلهي وسيدي ، ابتليتني بالمرض والفقر ، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين ، فكيف لي أن اؤدي شكرما أنعمت به عليّ؟


1 ـ اسد الغابة 4 : 137 نحوه.
2 ـ الضجعة : هيئة الإضطجاع. « لسان العرب 8 : 219 ».
3 ـ الحرقفة : عظم الحجبة ، وهي رأس الورك ، والجمع ، الحراقف. « لسان العرب 9 : 46 ».
4 ـ النّضو : المهزول. « لسان العرب 15 : 330 ».


(90)

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net