متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الرفق في القرآن الكريم
الكتاب : الرفق في المنظور الإسلامي    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

     الفصل الأول

الرفق في القرآن الكريم

     حثَّ القرآن الكريم على اعتماد الرفق خياراً مبدئياً في نهج الدعوة إلى الاِسلام ، واعتبره ركناً وأساساً مهماً يقوم عليه صرح الهدى الرسالي للفكر والعقيدة الحقّة التي دعى إليها جميع الاَنبياء والمرسلين عليهم السلام ، ولقد تعددت لغة الخطاب القرآني لتمتلىء بها كلّ الآفاق التي يمتد إليها الرفق في معانيه الواسعة وغاياته البعيدة.. وسوف نصنف هنا الآيات الواردة في الرفق بحسب مواردها ، على النحو الآتي.

     الآية الاُولى : (اللين والعفو)
     خاطب الله سبحانه نبيه الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً : ( فَبِما رَحمةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهم ولَو كُنتَ فَظَّاً غَليظَ القلب لانفضُّوا مِن حَولِكَ فاعفُ عَنهُم واستَغفِر لَهم وشَاوِرهُم في الاَمرِ فإذا عَزَمتَ فَتَوكَّل على اللهِ ) (1).
     اللين في المعاملة : الرفق :


1 ـ آل عمران 3 : 159.


(14)

     أي أنّ لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين ، لاَنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين (1).
     فلولا هذا الرفق الذي اعتمده الرسول مع من أُرسل اليهم لما تمكن من استقطاب الناس حول رسالته ، إذ إن الفضاضة والغلظة المناقضة للرفق واللين إذا ما اعتُمدت خياراً منهجياً في التبليغ والدعوة إلى الحق فإنَّ مردودها سيكون عكسياً ، لا يثمر استقطاب الناس حول ذلك الحق وإن كان أبلجاً. بل على العكس من ذلك ، سيعمل على التنفير وانفضاض الناس من ساحة ذلك القطب الهادي والمنار الواضح. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلبٍ كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنّيهم بهمّه ، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضا.
     وتعميقاً لروح الرفق واللين التي يريدها الله جل شأنه في الدعوة إلى الحق ، جاء التأكيد في نفس تلك الآية المباركة على ما يجسد حالة الرفق واللين العملي بين يدي المؤمنين ، في جملة مكارم الاَخلاق التي اهتم الاِسلام بتحقيقها على النحو الاَكمل وإشاعتها بين الناس ، فهي تأمر بالعفو لمن يُسيء والغفران لمن يخطىء ، ليتجلى الرفق ويتمظهر اللين في حركة التغيير والاصلاح على منهجية المبلغ الرسالي ( فَاعفُ عَنهم وَاستَغفِر لَهم ).


1 ـ مجمع البيان 2 : 869.


(15)

     ولمزيد من الرفق أمرت هذه الآية الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ ومن يقتدي به من باب أولى ـ أن يشاور أُولئك الذين صدر عنهم الفرار من الزحف وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع نفرٍ قلائل من أصحابه ، فقال عزَّوجل ( وَشَاوِرهُم في الاَمرِ ) وبعد ذلك يُمضي ما يراه الاَصوب في ذلك ( فَإذا عَزمتَ فَتَوكَّل على اللهِ ) والآية اذن تضرب على وتر الرفق بكلِّ أبعاده ليُنشد أنغامه القدسية في هذه الحياة ، وليصنع الاَثر الذي يريده الله تعالى في درب التكامل البشري من خلال رسالته السامية.
     ويحضى الاَمر باللين والرفق والرحمة في هذا الموضع بالذات بوقع خاص يجلّي أهميّة هذه القيم على نحو قد يُظهره موضع آخر.. إذ جاء ذلك على أثر مخالفة المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحد ، تلك المخالفة التي أدّت إلى أسوء النتائج إذ دهمهم العدو ، فلم يجدوا في أنفسهم ثباتاً ، فانقلبوا منهزمين يلوذون بالجبل ، وتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع نفرٍ يسير من أصحابه ، حتى أثخنته الجراح وكُسرت رباعيته وشُجّ وجهه ، وهو صامد يدعوهم فلم يفيئوا إليه حتى انكشف العدو ، فلمّا رجعوا لم يعنّفهم ولم يُسمعهم كلمة ملامة ولا ذكّرهم بأمره الذي خالفوه فتحمّلوا بخلافهم مسؤولية كلّ ما وقع.. « بل رحّب بهم وكأن شيئاً لم يكن ، وكلّمهم برفق ولين ، وما هذا الرفق واللين إلاّ رحمة من الله بنبيّه وعون له على رباطة الجأش.. وإذا مدح الله نبيّه بكظم الغيض والرفق بأصحابه على اساءتهم له، فبالاَولى أن يعفو الله ويصفح عن عباده المسيئين.. ثمّ بيّن سبحانه الحكمة من لين جانب نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بخطابه له : ( وَلو كُنتَ فَظَّاً غَليظَ القَلبِ لانفضُّوا مِن حَولِك ) وشمت العدوّ بك وطمع فيك ولم يتمّ أمرك وتنتشر رسالتك ..


(16)

     إنّ المقصود من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هداية الخلق إلى الحق ، وهم لا يستمعون إلاّ إلى قلب رحيم كبير كقلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي وسع الناس ، كلّ الناس ، وما ضاق بجهل جاهل أو ضعف ضعيف » (1).

     الآية الثانية : (خفض الجناح)
     ( واخفِضْ جَنَاحَكَ للمُؤمنِينَ ) (2) وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع (3).
     أي ألِن لهم جانبك وارفق بهم ، والعرب تقول : فلان خافض الجناح إذا كان وقوراً حليماً.. والمعنى : تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك (4). والتعبير عن تلك المعاني بخفض الجناح تعبير تصويري يمثّل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقّة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.
     وفي هذه الآية الكريمة تعبير آخر عن الرفق واللين واللطف واليسر ، التي يحرص القرآن المجيد على أن يتخلق بها حملته ومبلّغوا تعاليمه ، وقد خوطب بها الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو الذي يشهد له القرآن بقوله تعالى : ( وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم ) (5) وقوله سبحانه : ( لَقَد جَآءكُم رَسُولٌ


1 ـ التفسير الكاشف 2 : 188.
2 ـ الحجر 15 : 88.
3 ـ تفسير الرازي 9 : 211.
4 ـ مجمع البيان 6 : 447.
5 ـ القلم 68 : 4.


(17)

مِّن أنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيه مَا عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بالمؤمنينَ رؤُوفٌ رَّحيمٌ ) (1). وهو الذي يقول لاَصحابه « إنّ أحبكم إليّ يوم القيامة وأقربكم مجلساً أحسنكم أخلاقاً ، الموطّئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون » (2) ـ فإذا كان الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد خوطب بمثل هذا الخطاب ( واخفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤمنِين ) فمن باب أولى ان يقتدي المؤمن الرسالي بتلك الاخلاق العالية والتحلي بها ، تجسيداً لقوله تعالى : ( لَّقدْ كَانَ لَكُم في رَسُول اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ ) (3).
     وخفض الجناح في الآية المباركة وأن كان كناية عن التواضع والرفق واللين ، إلاّ أنه ينطوي على معاني أُخرى رفيعة تتدفق بالمودة والرأفة والتسامح ونظائر ذلك من مكارم الاَخلاق التي لو وجدت طريقها في نفوس المؤمنين وغرست في قلوبهم لمارسوا عملية الانفتاح على الآخرين بأتم وجه ، واقتطفوا ثمار سعيهم في إعلاء كلمة الحق ، برد الفعل المناسب من الانفتاح عليهم وقبول طرحهم.
     وفي السياق ذاته يتقدّم هذا الخطاب الجميل خطابٌ آخر ، له جَرسٌ آخر ووقع آخر ، ذلك قوله تعالى : ( فاصفَحِ الصّفحَ الجَمِيلَ ) (4). وهو العفو من غير عتاب (5) !


1 ـ التوبة 9 : 128.
2 ـ التفسير المبين : 292.
3 ـ الاحزاب 33 : 21.
4 ـ الحجر 15 : 85.
5 ـ مجمع البيان 6 : 530.


(18)

     وبعد.. فالقرآن الكريم أراد لنا عبور كل ذلك مع المؤمنين إلى بلوغ صفة التذلل لهم ( أذِلَّةٍ على المؤمِنين أعِزَّةٍ على الكَافِرينَ ) (1) ، ومن هنا يعلم أن خفض الجناح يستلزم تلك الصفة الراقية التي يستشعر المؤمن من خلالها كرامته ، وتقوى بذلك شخصيته ، ولا ريب أنّه لا يغفل المؤمن سر التذلل له ، ويدرك جيداً أنّه وليد التزام الطرف الآخر برسالته لا خوفاً ولا طمعاً ، وعندها سيندفع الطرف الآخر إلى نفس المبادرة ، فتتم المعادلة ، ويتحقق التوازن في بناء شخصية المؤمن الرسالي على أتم وجه.
     لكنّ ذلك إنّما هو وقف على المؤمنين المخلصين والطيبين المتواضعين ، فالتواضع لهؤلاء إنّما هو تواضع لله ، وعلى العكس من ذلك يكون الموقف إزاء الخونة والمفسدين والمنافقين والمتكبّرين ، فالتكبّر عليهم عبادة ، بل جهاد في سبيل الله (2).

     الآية الثالثة : (عباد الرحمن)
     ( وَعِبادُ الرَحمنِ الَّذينَ يَمشُونَ على الاَرضِ هَوناً وإذا خَاطَبهُم الجَاهِلُونَ قَالوا سَلامَاً ) (3) الرحمن ربنا سبحانه يعرّف عباده بجملة من الآيات المباركات في نهاية سورة الفرقان ، ويبتدىء ذلك بهاتين الصفتين المذكورتين في الآية المتقدمة.
     الصفة الاَولى : هي السير على الاَرض هوناً أي بسكينة ووقار ،


1 ـ المائدة 5 : 54.
2 ـ اُنظر التفسير الكاشف 4 : 490.
3 ـ الفرقان 25 : 63.


(19)

بلا استعلاء وخيلاء.
     الهون ، مصدر هان عليه الشيء يهون ، أي : خفَّ ، وهذا يعني أنّ مشيهم على الاَرض مشية مُرفِقٍ بها لا يثير غبارها ، لسهولة التعامل معها واللين في تماسها ، وخفّة الروح عليها. ومن كانت هذه صفته مع الاَرض التي يطأها فهو مع ساكنيها ـ من بني جنسه ـ أهون في تعامله وأرقّ في معاشرته وأخفّ في روحه.
     وبهذه الكلمات يرسم القرآن صورة المؤمن الحقّ ظاهرةً وباطنةً فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية وعمّا يستكن فيها من مشاعر ، والنفس السوية المطمئنة الجادّة القاصدة تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها.
     وليس معنى ( يمشون على الاَرض هوناً ) أنّهم يمشون متماوتين منكّسي الرؤوس متداعي الاَركان متهاوي البنيان ، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا مشى تكفّأ تكفّئاً وكان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها .. قال الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام : « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى تكفّأ تكفُّؤاً كأنّما ينحطُّ من صبب (1) وهي مشية أُولي العزم والهمّة والشجاعة.
     وأما الصفة الثانية : فهي ( إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) فهم لايمارون الجاهل ولا يقارعونه بالحجة تلو الحجة التي لا يستطيع هضمها وفهمها ، بل يرفقون به ويقدّرون مبلغ علمه ومستوى جهله ويرأفون بحاله


1 ـ تاريخ الطبري 2 : 221.


(20)

ولا يسمعونه ما يثقل عليه من كلمات تجرح شعوره مما هي فيه وهو أهلها ويستحقها لغروره وتبلّد ذهنه إذ وضع نفسه الوضيعة في غير موضعها ، بل راح يتعالى عليهم بمخاطبتهم. وهذا يعني : أن الجاهل يبلغ به عجبه بنفسه وعلمه بأن يرى الآخرين ـ وإن كانوا علماء ـ هم دونه في المستوى، وعند ذلك تسمح له تصوراته المغرورة هذه في تنصيب نفسه خطيباً عليهم ، له أن يتكلّم وعليهم أن يسمعوا.
     نعم ، فاذا كانت هذه حقيقة ماثلة في أغلب النفوس ، وهي كذلك ، فلماذا لا يرفق العالم بالجاهل ، والاَعلم بالمتعلم ، ويقول له : سلاماً ، في المواضع التي يتطاول فيها الجاهل ، ويترك للزمن إقناعه ، وللمراحل التي يلزم طيها حتى يبلغ الفهم ويبلغ التواضع للحقيقة التي يُراد له الوصول إلى فهمها وبلوغها ؟
     الرحمانيون :
     فمن لم يتلطف ويرأف بهذه النفوس المريضة بداء الجهل والغرور ، ولم يداوها بدواء الرفق والسماحة فليس هو بالحكيم الذي يضع الاُمور في محلها ، كما هو ليس أهلاً بأن ينسب إلى الرحمن بالعبودية ( وعِبادُ الرَحمنِ الَّذينَ يَمشُونَ على الاَرضِ هَوناً وإذا خَاطَبهُم الجَاهِلُون قَالُوا سَلاماً ) (1)
والملاحظ في هذه الآية الكريمة أنها أتت باسم وصفة الرحمن في هذا المجال ، هذا يعني أن المنسوبين إلى الله (الرحمن) بالعبودية يجب


1 ـ الفرقان 25 : 63.


(21)

أن يتخلّقوا بأخلاقه ، فيكونون رحمانيين ورحماء ، وإلاّ فليس حرياً أن ينسبوا إليه مع تجافيهم وتباعدهم عن الرفق والرحمة.
     والرحمانيون من النمط الاَول تجلت وتجسدت بهم الرحمة المطلوبة في حياتهم الرسالية بكلِّ وضوح ، وهم الاَنبياء والاَوصياء والصلحاء ، والآيات في ذلك كثيرة ، إذ إنهم مأمورون بمكارم الاَخلاق.

     الآية الرابعة : (هجراً جميلاً)
     ( واصبِر على مَا يقُولُونَ واهجُرهُم هَجراً جَمِيلاً ) (1).
     الهجر الجميل : أن لا تتعرّض لخصمك بشيء ، وإن تعرّض لك تجاهلت (2).
     أُمِر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية المباركة بالصبر ـ الذي منه كظم الغيض ـ على ما يسمعه من الاَقوال البذيئة التي لا تليق ومقام النبوة الشامخ ، صبراً لا عتاب فيه على أحد ، ولا اعتزاز بالشخصية ، أو دفاع عن الذات ، بل تركهم إلى الله سبحانه ، مع الهجر الجميل الذي لا يترك في نفوسهم شيئاً من وخز الضمير ما داموا لم يقابلوا بالمثل ، بل بالهجر الجميل الذي لم يترك في نفوسهم اشمئزازاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يزرع فيهم ما يحول بينهم وبينه صلى الله عليه وآله وسلم مستقبلاً فلا يُقبلوا عليه ولا يسمعوا هديه ، بل كان هجراً جميلاً لم يقطع خيوط المودة ولم يهدم جسور التواصل التي تمر من خلالها رسالة السماء التي تنشد لاُولئك التكامل وسعادة الدارين.


1 ـ المزمل 73 : 10.
2 ـ التفسير الكاشف 7 : 449.


(22)

     والملاحظ في هذه الآية المباركة أن الله سبحانه استخدم لفظة الهجر ولم يستخدم مكانها لفظة الترك ، ولعل الاَمر يعود إلى أن الترك يعني التخلي تماماً عنهم ، بينما الهجر يحمل معه معنى امكانية الرجوع إليهم والتبليغ فيهم مرة ثانية ، ولاَجل هذه الاحتمالية يلزم أن يكون الهجر جميلاً؛ لاَنهم في حاجة إلى المعاودة والنصح والارشاد الذي لا يتحقق مع تواصل الهجر المستمر بلا انقطاع. ومن هنا يعلم أنّ رحمة الله عزَّوجل لا يمكن تصور حدودها ، فهي شملت حتى من يسيء إلى مقام الرسل والانبياء ، أملاً أن يصلُحوا في مستقبل أيامهم ويعودوا إلى حضيرة الاِسلام لينهلوا من آدابه ويتخلقوا بمكارم أخلاقه.
     ولا يخفى ما في ذلك من عبرة عظيمة ، وموعظة جليلة ، إذ يمكن للمسلم الرسالي أن يستثمر الصبر على الاذى والهجر الجميل ؛ ليحصد مايحمد عقباه.

     الآية الخامسة : (ادفع بالَّتي هي أحسن)
     ( وَلا تَستَوي الحَسنَةُ وَلا السّيّئةُ ادفَعْ بالَّتي هِي أحسَنُ فإذا الذِي بَينَكَ وَبينَهُ عَداوةٌ كأنَّهُ وَليٌ حَمِيمٌ ) (1) في هذه الآية المباركة يتبين لنا حكم الله جلّ جلاله في المجالين : التكويني والتشريعي ، عند التفريق بين الحسن والحسنة من جهة ، والسيء والسيئة من جهة اُخرى ؛ إذ إنّ إرادته سبحانه شاءت أن تكون الطبيعة ويكون العقل شاهدين على التفاوت بين الاثنين ، وإلاّ كان الحسن والقبيح على حدٍ سواء ، والمحسن والمسيء بمنزلة واحدة ، وواقع الحال ليس كذلك ؛ إذ عدم التساوي بين الحسنة والسيئة


1 ـ فصلت 41 : 34.


(23)

مسلّم عند سائر العقلاء ، ومقرر في جميع الشرائع بلا خلاف.
     ولا يخفى بأن الاساءة للآخرين لها آثارها السلبية في تحقيق التكافل والتعاون ، واثارة البغضاء والعداوة ؛ لذا كان الاَمر بدفعها من أقصر الطرق وأوضحها فائدة ، وأكثرها عائدة ، وذلك بان تقابل بالاحسان ؛ إذ الانسان مجبول على حب وتقدير من أحسن إليه.
     وقد حملت لنا هذه الآية التوجيه الفذّ الذي يمكن من خلاله الوصول إلى هذه الغاية السامية ، وذلك بعقد مبدأ الرفق واللطف في عملية التدافع بين الحسن والاَحسن فلا يُقدم الحسن على الاَحسن ، ولا الفاضل على الاَفضل ، أو المهم على الاَهم. وهذه قاعدة عقلائية تستذوقها النفوس وترضاها الطبائع وتدعو إليها الفطرة ، وأمر بها الشرع ـ كما عرفت ـ بقوله : ( ادفَعْ بِالتي هِيَ أحسَنُ ).
     الآية تقول : فرق بعيد بين عملك يا محمّد وأنت تدعو إلى الله وتتحمل الاَذى في سبيله صابراً محتسباً وبين عمل الذين أجابوا دعوتك بالاِعراض والاَذى والافتراء.. إن عملك صلوات وحسنات ، وعملهم سيئات ولعنات.. وعلى الرغم من ذلك فعليك ان ترفق بهم وتتسامح معهم وتصبر على سفاهتهم ، فإنّ منهم من لو قابلته بهذه السماحة لعاد إلى ربّه وعقله ، وانقلبت عداوته لك إلى محبّة ، وبغضه إلى مودّة (1).
     كأنه وليٌّ حميم :
     ثم أن الآية ـ من أجل إرساء هذه الدعامة المهمة في آثارها


1 ـ التفسير الكاشف 6 : 492.


(24)

والموضوعية في واقعها ـ أسست بناءً مهذباً للنفوس يقوم على هذه الحقيقة المتينة في حكمتها ، اللطيفة في رقتها ، الرحيمة في هدفيتها فقالت : ( فَإذا الَّذي بَينَكَ وَبَينهُ عَدَاوةٌ كأنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ ) (1) أي اصبر على الاَذى ، واكظم الغيظ الذي تبتلى به ، واحلم عمن أساء إليك ، وتعامل مع مصدر اتعابك وشانئيك تعامل الرؤوف الرحيم العطوف الكريم برفق ولطف يمس قلوبهم القاسية فيحولها من قسوتها وجفوتها عليك إلى تعاطفها وتجاذبها إليك ، ومن غفوتها ونومتها التي هي عليها ، إلى اليقظة والصحوة التي أنت فيها. فهي تأمرنا باعتماد منهجية الرفق مع أعداءنا إلى الحد الذي يجلي الفرد الواحد منا أمام اعداء دعوته ( كَأنهُ وَليٌّ حَميمٌ ) فيستقطب مجامع قلوبهم إليه حتى تصير اذان صاغية لهديه وارشاده فيستنقذها من ضلالها وجهالتها إلى الهدى والنور الذي هو عليه والدين والفكر الذي يدعو إليه.
     ثم أن الدفع بالتي هي أحسن والتحلي بالرفق قبال الذي بينك وبينه عداوة حتى تبدو له كأنك وليٌّ حميم ، ليست قضية تخص البعد التبليغي فحسب دون المجالات الحياتية الاُخرى ، سياسية أو اجتماعية أو سلوكية عامة. فكل هذه المساحات وغيرها هي ليست في غنى عن هذا المبدأ الاخلاقي القويم الذي يبلور الشخصية الرصينة في حركتها الفردية والاجتماعية ، ويكشف عن سماحتها وعلو همتها وعظم قدرها.
     وكم صدقت هذه القاعدة على حالات كانت في منتهى التوتّر ، وشيكة أن تقود إلى سفك دماء كثيرة بغير حقّ ، فإذا الهياج ينقلب إلى سكون ، ويعود الزمام المنفلت إلى محلّه ، ذلك حين قوبل الغضب المجنون


1 ـ فصلت 41 : 34.


(25)

بنبرات هادئة من نفسٍ مطمئنة ! وبالعكس تصنع الكلمة الاُخرى ، فينقلب السكون غضباً مجنوناً ، وينفلت الزمام..
     المؤرّخ الفيلسوف أبو علي مسكويه ينقل في (تجارب الاُمم) بالتفصيل الحوار الخطير الذي أداره الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام مع الزبير بن العوام قبل نشوب معركة الجمل ، إذ دعاه فالتقيا بين الصَفّين فقال له : (« يا زبير ، أتذكر يوم مررتَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بني غنم فنظر إليَّ وضحِك وضحكتُ إليه ، فقلتَ : لا يدع ابن أبي طالب زَهوه ! فقال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مَه ! إنه ليس كذلك ، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم » ؟
     قال الزبير : اللهمّ نعم ، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا ، والله لا أقاتلك أبداً.
     فانصرف عليّ عليه السلام وحكى ذلك لاَصحابه ، ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها : ما كنتُ في موطن مذ عقلت إلاّ وأنا أعرف فيه أمري ، غير موطني هذا !
     قالت : ما تريد أن تصنع ؟
     قال : اُريد أن أدَعَهم وأذهب.
     قال له ابنه عبدالله : جمعتَ هذين الفارين حتى إذا جرّد بعضهم لبعض أردتَ أن تتركهم وتذهب ؟! أحسست رايات ابن أبي طالب وعلمت أنّها بأيدي فتية أنجاد !!
     فغضب الزبير حتّى اُرعِد ، ثم قال : ويحك ، إني قد حلفتُ ألاّ اُقاتله !
     قال : كفّر عن يمينك !!


(26)

     فدعا غلاماً له يقال له مكحول فأعتقه.
     فقال عبدالرحمن بن سليمان التميمي :

لم أرَ كاليوم أخا إخوان اعجَبَ مِن مكفِّرِ الاِيمان

بالعتقِ في معصية الرحمن

     قال مسكويه : وإنّما حكينا هذه الحكاية لاَنّ فيها تجربة تستفاد ، وإن ذهب ذلك عن قوم فإنّا ننبّه عليه ، وذلك أنّ المُحنق ربّما سُكِّن بالكلام الصحيح ، والساكن ربّما أحنق بالزور من الكلام) (1).
     غير أن تلك السماحة لا تؤتي أثرها إلاّ وهي صادرة مع القدرة على الردّ، وإلاّ انقلبت في نفس المسيء ضعفاً وذلاً ، فلا يبقى عندئذ للحسنة أثر على الاِطلاق.
     كما أن هذه السماحة لا تتعدى حالات الاِساءة الشخصية ، أما العدوان على العقيدة أو على العرض والمال فلا يقابل إلاّ بمثله ، فالنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يحسن إلى من أساء إليه فوضع الاَذى في طريقه أو أسمعه غليظ الكلام ونحو ذلك ، ويعفو ويصفح ، هو نفسه القائل حين يكون العدوان على العقيدة : « والله ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الاَمر ، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه » (2).


1 ـ تجارب الاُمم 1 : 322. ونصّ الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين الزبير ثابت لدى سائر المؤرخين ، فانظر : الكامل في التاريخ 2 : 335.
2 ـ تاريخ الطبري 1 : 545.


(27)

     ولا شكّ أن الوصول لمثل هذا أمر متعسر على الجميع ولا يحلق في سماء فضيلته إلاّ الكمّل من الناس وبدرجات متفاوتة هي على قدر هِمّة الساعين إليه.
     ذو حظٍ عظيم :
     ولاَجل هذه الحقيقة القائمة بين الناس نرى الآية القرآنية المباركة التي تلتها تصرّح بهذا الاَمر. إذ تقول ( وَمَا يُلَقَّـهَا إلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّـهَا إلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (1) فهي تعلن أن مبدأ الرفق والبلوغ من خلاله إلى درجة الدفع بالتي هي أحسن حتى يصير كأنه وليٌّ حميم ، أمر يليق بالعينات السائرة في درب التكامل ، وقد استحقت الدخول في زمرة الذين صبروا وطبيعي أن هذه الزمرة هي من ذوات « الحظ العظيم » أي من ذوات الرأي السديد ، والعقل الراجح ، والرعاية الخاصة ، والنصيب الاَوفر في مجال الفيوضات الربانية بما يستحقونه على صبرهم وتحملهم في سبيل الله ، وبما لهم من حظٍّ وافر في مكارم الاخلاق وفواضل السجايا.
     فهنيئاً للصابرين منّا في درب الاِسلام العزيز ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعلى رَبِّهِم يَتَوكَّلُون ) (2) ( ... وَبَشّرِ الصَابِرِينَ * الَّذينَ إذا أصَابَتهُم مُصيبَةٌ قَالُوا إنَّا للهِ وإنّا إليهِ رَاجعُونَ * أُولئِكَ عَليهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ واُولئِكَ هُمُ المهتَدُونَ ) (3).
     في حديث قدسي شريف ـ يسنده الاِمام الصادق عليه السلام إلى رسول


1 ـ فصلت 41 : 35.
2 ـ النحل 16 : 42.
3 ـ البقرة 2 : 155 ـ 157.


(28)

الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال الله تعالى : « إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً ، فمن أقرضني منها قرضاً أعطيته بكلِّ واحدةٍ عشراً إلى سبع مئة ضعف وما شئتُ من ذلك ، فمن لم يقرضني قرضاً فأخذتُ منه شيئاً قسراً فصبر أعطيته ثلاث خصال لو أعطيتُ واحدةً منهنّ ملائكتي لرضوا بها منّي ».
     قال الاِمام الصادق عليه السلام : « قوله تعالى : ( الَّذينَ إذا أصَابَتهُم مُصِيبةٌ قَالُوا إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعُونَ * أُولئِكَ عَليهِم صَلَواتٌ مِنَ رَبِّهم ) فهذه واحدة من ثلاث خصال ، ( ورَحمَةٌ ) اثنان ، ( وَأُولئِكَ هُمُ المهتَدُونَ ) ثلاث.. هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً فصبر » (1).
     هذه الصلوات والرحمة عليهم في الدنيا تصنع فيهم الشخصية الفذة وتمنحهم العزيمة الصامدة ( وَلِمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلكَ لِمَنْ عَزمِ الاَُمُورِ ) (2) فالغفران ـ وهو مفردة من المفردات التي يقوم عليها مبدأ الرفق ـ هو من أعلى الاَعمال شرفاً وأكثرها ثباتاً ، وإنّه لكاشف قطعاً عن هممٍ عالية وعقولٍ راجحة ومروءة صادقة ، يلازمها على الدوام ترفّع على تتبع عثرات الآخرين ، وبهذا يكسب ودّهم ويسمو عليهم لسمو روحه عن دوافع الثأر للذات والتذبذب في حضيض (الاَنا).
     هذه بعض الآيات المحكمات التي يمكن الاستفادة منها والاستضاءة بأنوارها والاهتداء بها في موضوع الرفق تفيّأنا تحت ظلالها الوارفة في وقفتنا القصيرة هذه ، والمتأمل في آيات الذكر الحكيم يجد غيرها من الآيات البينات التي تدعو إلى الرفق واللين واللطف والرأفة في حركة الفرد والمجتمع.


1 ـ تفسير البرهان 1 : 359 ـ 360 تحقيق مؤسسة البعثة ـ ط1 ـ 1415 هـ.
2 ـ الشورى 42 : 43.


(29)

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net