متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أوّلاً : نظرة الإسلام إلى الأرض الموات
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الأوّل 

أوّلاً : نظرة الإسلام إلى الأرض الموات

قال تعالى : ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود : 61] .

وقال : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ....  ) [الأنعام : 165] .

وقال جلّ شأنه : ( أَلَمْ تَرَوْا أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مَا فِي السّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان : 20] .

ترتكز نظرة الإسلام إلى الأرض على مجموعة من الحقائق ، أهمّها :

إنّ الأرض كلّها لله يورثها عباده الصالحين ، وإنّها ، وإن خضعت لمدّةٍ ما لسيطرة غير المسلم .. ، فعلى كيفيّة عودتها تترتّب تكييفات الحكم الشرعي لملكيّتها .

فما أُخذ بقتال ، فإنّ العامر منه ـ الأرض المُنتجة ـ يكون لمجموع المسلمين ، لمَن حضر منهم ولمَن لَحِق بهم ، بأن يثبت عليه حقّ اسمه الخراج ، وهو ( الريع المُطلق ) ، والريع التفاضلي في ما كان أكثر إنتاجاً ، مدفوعاً لصالح المجتمـع . أمّا الموات منها ومِن الأرض الصلحيّة ، والتي أسلم عليها أهلها ، فإنّها عند الفقهاء بين مذهبين :

المذهب الأوّل : إنّها مشتركات عامّة قابلة للإحياء ؛ للخروج من مجال الإباحة العامّة إلى مِلك الفرد المُحترم .

المذهب الثاني : إنّها مِلك المنصب الإلهيّ ( للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخُلفائه وأُولي الأمر إلى يـوم القيامـة ) ، ملكيّة جهة ( إدارة ) يُملّكونها لمَن يُحييها بالشروط التي اشترطها الفقهاء للإحياء .


الصفحة 79

إلى المذهب الأوّل : ذهب المالكيّة ( 3 ) ، والشافعيّة ( 4 ) ، والظاهريّة ( 5 ) ، والحنابلة في قولٍ لهم ( 6 ) .

وإلى المذهب الثاني : ذهب الإماميّة في أرجح أقوالهم ( 7 ) ، والحنفيّة ( 8 ) إلاّ أبا يوسف ( 9 ) ، والزيديّة في قولٍ من أقوالهم ( 10 ) .

أدلّة المذهب الأوّل

1 ـ استدلّ أصحاب المذهب الأوّل بأنّ هذه الأرض هي في الأصل مِلك مُباح ؛ بناءً على أصل ( ما لم يثقل بالاختصاصات العامّة كالمساجد ، أو الخاصّة كالملك المحترم باقٍ على أصل الإباحة ) .

2 ـ وإنّ عموم الآيات القرآنيّة دالّة على ذلك .. لقوله تعالى : ( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) [الجاثية : 13] ، ( أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ ) [الأنبياء : 105] ، وفيها دلالة على الشركة في ما لم يرد عليه حقّ مِلك أو اختصاص أو مَرفَق عامّ .

3 ـ واستدلّوا بقول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ( * ) : ( مَن أحيا أرضاً مَيتة فهي له ، وليس لعرق ظالم حقّ ) ( 11 ) ، رواه أحمد في مسنده ، وأبو داود ، والترمذي ، وصحّحه السيوطي في الجامع الصغير . فالحديث يخلو من إحالة الأرض للمنصب وإبقائها على الشركة العامّة .

4 ـ واستدلّوا بحديثه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الذي يقول فيه : ( مَن أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر ، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة ) ( 12 ) . صحّحه السيوطي .

5 ـ واستدلّوا بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( من سَبق إلى مَن لم يَسبق إليه مُسلم فهو له ) ( 13 ) .

ــــــــــــــــــــــ

( * ) قال الهراسي محقّق الأموال : أعلّ الترمذي الحديث بالإرسال ؛ لأنّه أُرسل مِن طريق هاشم بن عروة عن أبيـه ، ورجّح الدارقطني إرساله ، واختلف فيه على هشام بن عروة اختلافاً كثيراً ...

اُنظر : أبو عبيد ، الأموال ، ص : 302 .


الصفحة 80

6 ـ وما روي عن عائشة ( رضي الله عنها ) أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( مَن أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحقّ بها ) ( 14 ) .

تترتّب على هذا الرأي دلالة مفادها أنّ الأرض المَوات ـ كما هي دلالة الأدلّة ـ مالٌ مُباح يُملَك بالاستيلاء عليه ، غير أنّ هذا الاستيلاء لا يكون بوضع اليد فقط ، بل بإحياء الأرض ، فالأحاديث علّقت التملّك على الإحياء الذي جاء في متن الأحاديث مُطلقاً غير مُقيّد بصفة مُعيّنة ، وما لم يُحدّده الشرع لا يُقيّد إلاّ بدليل مُعتبر ، ويذهب ابن قُدامة إلى أنّ متن الأحاديث عامّ ، فلا يصحّ اشتراط إذن الإمام أو غيره عملاً بإحالة ملكيّتها إليه ( 15 ) .

أدلّة المذهب الثاني

1 ـ حيث ثبت أنّ الله تعالى مالك كلّ شيء ، فإنّه ـ جلّ اسمه ـ يهب مُلكه لمَن يشاء ، ويستخلف عليه مَن يشاء بوساطة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومَن يقوم مقامه .. لذا كانت الأرض الموات مملوكة للإمام أو وليّ الأمر ملكيّة جهة ( إدارة ) ، ومتروكة لنظره يجعلها وِفق ما تحدّده الشريعة ومصلحة المسلمين ؛ لأنّ حقّ الله في المِلك لرسوله ثُمّ لولي الأمر بعده ؛ لخبر معاذ بن جبل ( رضي الله عنه ) أنّه روى عن النبيّ قوله : ( ما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّـه ) ، مصداقاً لقوله تعالى : ( قُلْ هِيَ لِلّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) [الأعراف : 32] ، ولقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( موتان الأرض لله ولرسوله ، ثمّ هي لكم من بعدي ) .

2 ـ استدلّ أبو حنيفة ( رحمه الله ) بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه ) ( 16 ) ( * ) .

3 ـ استدلّ الإماميّة بالحديث المُسند عن أبي خالد الكابلي ، عن الباقر ( عليه السلام ) ، عن آبائه ( عليهم السلام )  قال : ( وجدنا في كتاب عليّ ( عليه السلام ) : ( فمَن أحيا أرضاً


الصفحة 81

مِن المسلمين فليُعمرها ، وليؤدّ خراجها إلى الإمام ) ( 17 ) ، ودلالة الحديث أنّ الأرض الموات بالأصالة للإمام .

ونتيجة لذلك ، فإنّ مَن قام بإحياء الأرض وعمارتها ، فقد اكتسب فيها علاقة على مستوى الحقّ دون المِلك ، وهذا لا يتعارض مع بقاء رقبة الأرض في مِلك الإمام .

4 ـ إنّ الإماميّة والزيديّة يرون أنّ الأرض المَوات من الأنفال ، وحيث أنّ الله تعالى قد أضاف الأنفال إدارةً للرسـول ، فما كان له من جهة المنصب كان لوليّه .

وتتجلّى الثمرة في الخلاف في مباحث كثيرة من كتاب الإحياء ، فأصحاب الرأي الأوّل لا يرون شرط الإذن ، ويرى أصحاب الرأي الثاني أنّ اكتساب الحقّ أو المِلك موقّوف على إذن الوليّ ، وعلى المذهب الأوّل لا يجوز للإمام تقبيل الأرض لمَن يشاء طالما هي من المشتركات العامّة ، فسلطته في تقبيلها مقيّدة ، بينما هي مطلقة عند أصحاب المذهب الثاني ، وأهمّ النتائج التي يفرزها الخلاف تتمثّل في موضع ضمان التلف في الأرض غير المحرزة ذلك :

( إنّ المال المتقوّم هو ما كان محرزاً فعلاً ومحلاًّ لانتفاع معتاد شرعاً حال السعة والاختيار ، هذا النوع إذا تعدّى عليه آخر وأتلفه ضمنه . أمّا غير المتقوّم ، فهو المال الذي لم يكن مملوكاً لأحد ، كالسمك في الماء ، والطير في الهواء ، أو غير منتفع به شرعاً فلا ضمان على مُتلفه ) ( 18 ) .

يقول الدكتور زيدان : ( لا يعدّ مالاً السمك في الماء والمعدن في باطن الأرض ؛ لعدم تقوّمه ) ؛ لفقدانه شرط الحيـازة . ( وغير المتقوّم لا حماية له ولا حُرمة ، وبالتالي لا يضمن مُتلفه أيّ شيء ، فإذا أتلف الإنسان سمكة في الماء أو حيواناً غير مملوك في الفلاة ، فلا ضمان على المتلف ) ( 19 ) .

وهذه النتيجة ، على رأي مَن يرى أنّ الأرض الموات ممتلكات مشتركة بين الناس ، أو بين المسلمين ، على خلاف بين الفقهاء ، يقتضي أن يحكم بوصفها مالاً غير مُحرز ، وبالتالي هو مضطرّ لإسقاط التصرّفات الجنائيّة إذا


الصفحة 82

أتلفها الفرد ـ من جهة ضمان التلف ـ على الأقلّ ، في حين نجد ذلك عند أصحاب المذهب الثاني الذي يرى ملكيّة الأرض الموات أصلاً لمنصب الإمامة جهة ( إدارة ) ، فإنّه سيتحقّق الإحراز في حال منتفع به شرعاً ، ولا ضرورة بعد ذلك لإسقاط التصرّف الجنائي في إتلاف الأرض .

إنّ هذه النتيجة من مقتضيات المذهب الثاني ، وهي تحمي الأرض غير المستثمرة من إزالة الخصوبة ، أو أيّة أفعال تؤدّي إلى تدمير وإهدار قيمة الإنتاجيّة قبل استغلالها .

وبهذا أجد أنّ أصحاب المذهب الثاني أَولى وأحقّ ، وسيتبيّن ذلك في مباحث الإحياء الأُخرى .

النتيجةُ الاقتصاديّةُ المُستلّة مِن الرأي الثاني

بناءً على اعتبار أنّ الأصل في ملكيّة الأرض الموات للدولة ، فإنّ ذلك يعطيها صلاحية استيعاب تطوّرات الأنشطة الاقتصاديّة في تخصيص الموارد والتوزيع الابتدائي لوسائل الإنتاج وفق أولويّات التنمية ، وإيصال الخدمات للأراضي المستصلحة ، كما أنّ هذا الرأي منسجم مع مَن يرى ضرورة التخطيط الاقتصادي في نمط الإدارة الإسلاميّة للنشاط ، ويكوّن هذا الرأي مستنداً فقهيّاً لمعاقبة المحجِر فوق ثلاث سنين أو المعطّل للأرض ، ومنسجم مع مَن يرى أنّ مِن مقاصد الشريعة التوزيع المتكافئ للفُرص الإنتاجيّة لتحقيق التوازن ؛ ذلك لأنّ إطلاق يد المُحيي في اكتساب ملكيّة ما أحيا من الأرض مع تطوّر التقنيّات الزراعيّة حالياً ، ربّما يؤدّي بنا إلى ظهور الإقطاعيّات الكبيرة بما يسبّب التفاوت في الثـروة ( 20 ) .

ولأجل ذلك تبنّت القوانين المعاصرة هذا الاتجاه ( 21 ) .

 

ــــــــــــــــــــــــ

( 3 ) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : 4/66 .

( 4 ) الماوردي ، الأحكام السلطانيّة ، الشافعي ، الأُم : 4/41 .

( 5 ) ابن حزم ، المُحلّى : 8/233 .

( 6 ) ابن قُدامة ، المغني : 5/ 543 .

( 7 ) العاملي ، مفتاح الكرامة .

( 8 ) الكاساني ، بدائع الصنائع : 6/192 .

( 9 ) أبو يوسف ، الخراج ، ص : 64 .

( 10 ) المرتضى ، البحر الزخّار : 4/86 .

( 11 ) السيوطي ، الجامع الصغير : 2/161 ، واُنظر : أبو داود : 2/50 .

( 12 ) المصدر نفسه : 2/161 ، والترمذي رقمه 1392 .

( 13 ) المصدر نفسه : 2/173 ، وأخرجه الموطأ من مرسل عروة : 4/1495 .

( 14 ) أبو عبيد ، الأموال ، ص : 298 ، علّق في الهامش أنّه رواه البخاري بلفظ ( مَن عَمّر أرض ) .

( 15 ) اُنظر : المُغني : 5/543 ، الماوردي ، الأحكام السلطانيّة ، ص : 171 ، أبو يوسف ، ( م . س ) ، ص : 64 .

( 16 ) أخرجه الطبراني ، في المُعجم الكبير ، الحديث رقم 3533 .

( 17 ) الحرّ العاملي ، الوسائل ، ج17 ، الباب 3 : باب إحياء الموات ، الحديث رقم 2 .

( 18 ) مدكور ( محمّد سلام ) ، المدخل للفقه الإسلامي ، ص : 476 .

( 19 ) زيدان ( عبد الكريم ) ، المدخل لدراسة الشريعة الإسلاميّة ، ص : 221 .

( 20 ) المياحي ( عبد الأمير ) ، التنمية في الاقتصاد الإسلامي ، ص : 120 .

( 21 ) مدكور ( محمد سلام ) ، الإباحة عند الأُصوليّين ، ص : 176 ، واُنظر : شرح المادة 784 مِن القانون المدني المصري .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net