متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثانياً : شروط صحّة الإحياء
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

 

ثانياً : شروط صحّة الإحياء

اشترط الفقهاء لصحّة تحقّق مِلك مُحيي الأرض لها مجموعة من الشروط اتّفقوا في بعضها واختلفوا في بعضهـا الآخـر ، وسأُشير إلى ذلك إشارة سريعة . وأهمّ الشروط عند الفقهاء :

1 ـ شرط إذن الدولة ( وليّ الأمر ) .

2 ـ شروط التحجير .

3 ـ انتفاء الموانع :

أ ـ مانع القرب مِن العامر .

ب ـ مانع ارتفاق أهل العمران به .

جـ ـ كونه حريماً لمملوك .

4 ـ تحقّق القصد في عملية الإحياء مِن قِبَل المُحيي .

تفصيل شروط الإحياء

1 ـ الشرط الأوّل : إذْن الدولة ( وليّ الأمر )

اشترط فقهاء الإماميّة ( 30 ) وأبو حنيفة ( 31 ) ومَن وافقه إلاّ أبو يوسف ( 32 ) أنّه لا يصحّ إحياء الموات إلاّ بإذن السلطان مُطلقاً ؛ إذ من دونه يسقط الحقّ المُكتسب عن الإحياء .

أمّا الزيديّة ( 33 ) فربطوا شرط الإحياء بشخص المُحيي ، فذهبوا إلى أنّ المُسلم لا يحتاج إلى إذن ؛ لعموم الحديث ولإطلاقه عن النبيّ ، وهو مُشرِّع ، لا من جهة كونه وليّ أمر المسلمين ، فالذمّي إذا أراد إحياء أرض ميتة احتاج لإذن الدولة ؛ لِما ورد عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( مَوَتان الأرض لله وللرسول ، ثمّ هي لكم من بعدي ) ، واستفيد من مُفردة ( لكم ) أي للمسلمين ، وقد ورد في بعض متون الحديث ( هي لكم من بعدي أيّها المسلمون ) ( 34 ) .

أمّا المالكيّة ( 35 ) ، فإنّ الإذن عندهم مُرتبط بما إذا كان المورد المراد إحياؤه قريباً مِن البلد ، ومعيار القرب أنْ يلامس حريم العامر .


الصفحة 88

في حين جعل الشافعيّة ( 36 ) الإذن مُستحبّاً في ما حماه الإمام من الأرض الموات ، أمّا الظاهريّة ( 37 ) والحنابلة ( 38 ) فلم يشترطوا إطلاقاً .

وقد مرّ أنّ وراء هذا الخلاف أصل ملكيّة الأرض الموات بالعنوان الأصلي . أمّا الأدلّة الفرعيّة التي استند إليها المشترطون ، فهي أدلّتهم نفسها في أنّ الأرض الموات ملكٌ للمنصب الإلهيّ ؛ حيث يرى أبو حنيفة ـ مثلاً ـ أنّ الأرض كلّها مغنومة ، والغنيمة أمرها إلى الإمام ، فصار حكمها حكم موجودات بيت المال ، لا يجوز التصرّف بها من قِبل الأفراد إلاّ بإذن الإمام ، بينما استند مالك إلى أصل المصلحة ، حيث أوجب الإذن في ما لامَس حريم العامر بدلالة الضابط عند المالكيّة ، الذي هو ( مراعاة مدى ما يعدّ الإحياء مضرّاً بمرافق البلد أم لا ، فإذا حكّمت مصلحة المسلمين ، فلا يحكم فيها إلاّ وليّ الأمر ) ( * ) .

إنّ أهمّ ما استوقف الباحث هو أنّ مُشترطي الإذن يؤسّسون مبدأ تخصيص الموارد ، واستثمار موضوع الوفورات الخارجية للمشروعات المتكاملة مع مثيلاتها ، من خلال التخطيط التكامليّ . أمّا إذا تركت مشاريع النموّ سائبة هكذا ، فإنّ ذلك يسبّب هدراً كبيراً لانعدام سمة التكامل .

2 ـ الشرط الثاني : التحجير

التحجير : هو وضع أشياء محيطة بالأرض تُعلِم بإرادة الشخص إحياء الأرض . ويُعدّ التحجير شرطاً ابتدائيّاً ، وكأنّ المُحجّر بتحجيره يمنع غيره من التصرّف بمساحة ما ؛ لذا لا يفيد التحجير أكثر من حقّ أولويّة ، وعليه يقرّر

ـــــــــــــــــــــــ

( * ) لم يكن حتى عام ( 1919م ) أيّ قانون لتخصيص المنشآت المجلبة للضرر ومنعها عن الأحياء السكنيّة في أوربا ، اُنظر : ( مفاهيم ابن خلدون عن التخطيط الحضري ) ، ص : 10 ، بينما نلحظ هذا المناط في ذهن فقهاء المسلمين في القرن الأوّل الهجريّ عند مناقشتهم جواز إحياء ما قَرُب من العامر ، الأمر الذي يدلّ على أنّ الشريعة الإسلاميّة تقرب الذهن البشريّ من الإنجاز العقلي الكبير باختزال الكثير من مراحله ؛ لوجود الإرشاد الإلهي في نصوص الشرع ومفاهيمه .


الصفحة 89

الفقهاء أنّ التحجير لا يُسوّغ المحجِّر بيع الأرض المُحجّرة ، وإن كانوا يصحّحون الصلح عليه للتنازل عن الأولويّة لغيـره ، على خلاف بينهم ، ويمنعون من تأخّره عن مدّةٍ ما ، وفي المدّة خلاف :

أ ـ فهي عند الشيخ الطوسي مُحالة إلى العُرف في تقديرها .

ب ـ وعند غيره من الفقهاء أنّ الحقّ موقوف على ثلاث سنوات .

يستندون في ذلك على قول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ليس لمحتجز حقّ بعد ثلاث سنين ) ، والتحقيق أنّ هذا الأثر يُروى عن عمر بن الخطّاب ( رضي الله عنه ) ، لكن يحمل على سماعه منه ( 39 ) .

قال أبو عبيد : ( وقد جاء توقيته في بعض الحديث عن عمَر أنّه جعله ثلاث سنين ، ويمتنع غيره من عمارتها لمكانـه ، فيكون حكمها إلى الإمام ) ( 40 ) .

أمّا في ما يتعلّق بالإجابة عن السؤال التالي : إذا ترك المحجِّر أرضه هل يوجب ذلك سقوط حقّه ؟ يرى الإماميّة ، في المشهور عندهم ، أنّه لا يسقط ؛ لعدم الموجب ، ولمقتضى الاستصحاب ، والعلاج عندهم أنّ لمَن بيده الأمر إجبار المُحيـي ، فإذا امتنع سقط حقّه ، إلاّ إذا كان قد ترك الإحياء لعذرٍ مُعتبر ، ولأجله يمكن القول : إنّ التحجير مفهوم عُرفـيّ ، وليس له حدّ خاصّ لدى الشرع ، فالمرجع في تحقّقه للعُرف وولاية الأمر .. ( 41 ) .

مقتضيات شرط التَحجير

يلاحظ في مقتضيات شرط التحجير ما يأتي :

أ ـ تحديد مساحات المشروعات المنوي إقامتها على الأرض ، والتعليم على نوع إنتاجها .

ب ـ التعجيل ببدء المشروع واكتمال أُسس المشاريع ، وإلاّ تعرّض المُحيي إلى سحب الحقّ .


الصفحة 90

جـ ـ تدخّل السلطة التنفيذيّة نيابة عن المُجتمع في حثّ المُحيين على إنجاز المشروعات لتحقيق المصالح العامّة .

3 ـ الشرط الثالث : انتفاء الموانع

بعد شرط تحجير الأرض المراد إحياؤها وحصول الإذن ، يلزم أن تكون الأرض غير قريبة من العمران ؛ لأنّ القريب يعدّ من مرافق أهل البلدة ، وربّما يشكل الحقّ هذا حتى على وليّ أمر إحيائه أو إقطاعه ، وليس في آراء الفقهاء معيار محدّد لمعرفة القُرب ، وإن كان من استخدام للصوت ومدى سماعه ، أو لاختفاء جدران آخِر البيوت ، فإنّه ليس من آراء الفقهاء توقيفات وإنّما هي آراء اجتهاديّة ، يقول الدكتور الزحيلي : ( وهذا لا يعتبر ، إنّما يكفي عدم ارتفاق أهل القرية به ) ( 42 ) .

والقريب عند الإمام الشافعي ما كان حريماً لعامر ، وعند أبي حنيفة ما لم يبلغْه الماء ( 43 ) ، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإمام أبا حنيفة قد لاحظ كُلفة الإحياء مُعتبراً وصول الماء أمارة على كون المورد ممّا يسهل الاستفادة منه ، وداخلاً في مرتفقات العامر ، وكون الاستفادة السهلة منه تجعل وليّ الأمر في سعة فيما لو أراد استغلاله للمصلحة العامّة ..

ويعدّ مِن الموانع ألاّ تكون الأرض المُحياة ممّا حماه السلطان للمصالح العامّة أو ممّا أقطعه ، إلاّ أنّ الفقهاء ضيّقوا سلطة الدولة ووسائلها الاقتصاديّة في إدارة اقتصاديّات الموارد المُتاحة ، بأن حكموا بأنّ الأرض المُحجّرة أو المُحماة أو المُقْطعة من قِبل الدولة حينما لا تكون مستغلّة ، فأجازوا إحياءها بعد حصول إذن وليّ الأمر .

ويراد بذلك عدم بقاء المورد المتاح معطّلاً عن الإنتاجيّة الماديّة أو العباديّة ؛ لذلك منعوا إحياء المشاعر المقدّسة لتعلّق حقّ المسلمين بها جميعاً . وفي هذا نلحظ الخلاف الآتي :

يطرح بعض الفقهاء السؤال الآتي : إنّ الأماكن العامّة والموقوفة للنفع العامّ لو خربت هل يصحّ إحياؤها ؟


الصفحة 91

ذهب صاحب ( الشرائع ) إلى أنّ عدم المزاحمة ، أو ما يوجِبها ، يسوّغ إحياء ما لو عمّر لا يضرّ ولا يؤدّي إلى الضيق ، في حين منَع شارح ( الشرائع ) ذلك ، ذاكراً أنّ المنع حاصل في ما لا يوجب المزاحمة أو ما يوجبها خلافاً للمتن .

ولعلّ بعضهم ذكر أنّ المشاعر الموسميّة للاستغلال لا مانع من الاستفادة منها في المواسم الأُخرى ؛ لانتفاء علّة المُزاحمة . والثمرة في ذلك أن لا مانع من تأسيس عمارات أو مشاريع تُستغلّ في غير أوقات الحجّ ـ مثلاً ـ في المشاعر المقدّسة للمعتكفين والناسكين ، ويتساوى في المنع حريم العامر وحريم المملوك .

4 ـ الشرط الرابع : تحقّق القصد في عمليّة الإحياء

يرى الفقهاء أنّ العزم المسبق على إحياء المورد شرط في تحقّق نتائجه ؛ ولذلك يرَون أنّ انتفاء القصد في عمل ما لا يكسب تملّكاً ، كما لو كان شخص ما قد حفر بئراً بُغية البحث عن شيء حتى استنبط منها ماء ، فصار ما تسقيه أرضاً مُحياة ، فلا يلتزم له باكتساب حقّ الاختصاص أو التملّك ، وقد عبّر الفقهاء عن ذلك بإرادة المِلك .

ويُبنى على ذلك أنّ الوكيل والأجير الخاص إذا أحيا أرضاً لا يملكها هو ؛ لعدم تحقّق القصد منه ، ولا الموكِّل ؛ لعدم المُباشرة ، وقد نوقشت المسألة من وجهين :

الأوّل : ما إذا اعتبر التوكيل وحده كافياً في تحقّق القصديّة .

الثاني : ما إذا كان الموجِب للحقّ هو الإحياء ، فإذا تحقّقت العلّة وُجد المعلول ( اكتساب الملكيّة ) ؛ لأنّ ترتّب السبب على المسبّب قهريّ ؛ لذلك يذهب صاحب ( الجواهر ) إلى أنّه لا دليل لُبّيّاً على اشتراطه ، وأنّ ظاهر الأدلّة خلافه ، والإجماع مظنّة على عدم اشتراطه .

أمّا بصدد المناقشة الأُولى ، فإنّ القياس موجب لاعتبار الوكالة في التصرّفات العقديّة ، وعدم اعتبارها في التكوينيّة ، كالإحياء ونحوه ؛ لأنّ الفعل


الصفحة 92

التكوينيّ بطبْعه غير قابل للتوسعة في الانتساب ، فإنّه إنّما ينتسب إلى مَن يقوم به ، زيادة على أنّ الإضافة الفعليّة في متن الحديث ( مَن أحيا أرضاً ) للمالك الأصيل مفقودة في مقام التوكيل العامّ والإجارة ضرورة ؛ حيث لا يصدق تبادراً أنّه على المستأجر والوكيل أنّه قام بالإحياء فعلاً . يرى الشيخ الفياض أنّ أقلّ ما يستدلّ به على بطلان أثر الوكالة والإجارة في إحياء الأرض ، أنّها في الأُمور التكوينيّة بحاجة إلى دليل ، وإلاّ فمقتضى القاعدة بطلان الوكالة فيها ( 44 ) .

 

ـــــــــــــــ

( 30 ) النجفي ، ( م . س ) : 38/11 .

( 31 ) أبو يوسف ، ( م .س ) ، ص : 64 ، الكاساني ، بدائع الصنايع : 6/192 .

( 32 ) أبو يوسف ، ( م . ن ) ، ص : 64 ، اُنظر : عبد الله داماد ، مجمع الأنهر : 2/558 .

( 33 ) ابن المرتضى ( أحمد بن يحيى ) ، البحر الزخّار : 4/87 .

( 34 ) الفياض ( إسحاق ) ، أحكام الأراضي ، ص : 27 ، قحطان الدوري ، صفوة الأحكام ، ص : 16 .

( 35 ) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : 4/66 .

( 36 ) المهذّب ، شرح النووي : 1/423 ، الرملي ، نهاية المحتاج : 5/326 .

( 37 ) ابن حَزم ، ( م . س ) : 8/233 .

( 38 ) ابن قُدامة ، ( م . س ) : 5/543 .

( 39 ) اُنظر في ذلك : أبو عبيد ، ( م . س ) ، ص : 302 .

( 40 ) المُصدر نفسه .

( 41 ) الفيّاض ( إسحاق ) ، ( م . س ) ، ص : 163 .

( 42 ) الزحيلي ، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد : 2/530 .

( 43 ) الماوردي ، ( م . س ) ، ص : 276 .

( 44 ) الفيّاض ( إسحاق ) ، ( م . س ) ، ص : 171 ـ 183 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net