متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المبحث الثالث : الموازنة بين الأدلّة ، رأي الباحث
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الثالث

1 ـ الموازنة بين الأدلّة

قال العلماء : إنّما حُذف العقل في مفهوم الرشد ؛ لأنّ المفروض حصوله ، بل والبلوغ والغرَض حصول ما يعتبر بعد ذلك ، فلا يمكن القول إنّ الرشد هو العقل ، طالما أنّه أحد مُستلزماته . وإلاّ لو بلغَ عاقلاً ، ولكنّه مبذّر متلف لماله ، فهل يُعَدّ راشداً ؟ إلاّ إذا أُريد بالعقل الدين ، وهذا ممّا يمكن أن يتواضع عليه بعض الناس ، فكان إلى جانب كونه تواضعاً محلاًّ للنظر ، فوق ما عليه من تحفّظات عديدة ؛ لأنّ موضوع الآية ومجالها .. قضيّة التصرّف الاقتصاديّ الفرديّ ونمطـه .

وبصدد اعتباره الدين مِن حيث أنّ القرآن وصفهما بالتنافي ، فإن وُجد أحدهما فإنّه يعني غياب الثاني ضرورة ، قال في الكنز : ( إنّهما وإن تضادّا مفهوماً لم يتضادّا تعلّقاً ؛ لأنّهما يُطلقان في أمور المعاش ـ بمعنى من المعاني ـ وفي أمور المعاد بمعنى آخر ، والمراد بالآية أمور المعاش ) ( 51 ) .

وأورد : إنّ سبب تصوّر قول الشيخ بالعدالة وإصلاح المال ظهر مِن خلال عرضه للحديث النبويّ : ( شارب الخمر سفيه ) ، والحال أنّ ذلك من مرويّاته ، لا من فتواه ، وهذه اللفتة دقيقة في مضمونها ؛ حيث اكتشف الباحث بالمقارنة بين رأي الشيخ في ( المبسوط ) و( الخلاف ) ، وبين رأيه في ( التبيان ) أنّ الشيخ لا يشترط العدالة ، الأمر الذي يجعلنا نقف مع العلاّمة الجزائري في تصريحه : إنّ تلك ليست من فتاوى الشيخ إنّما من مرويّاته ( 52 ) ؛ خاصّة وهو صاحب ( التهذيب ) و( الاستبصار ) .

على أنّ هناك مَن يهمس في سنَد الرواية ( 53 ) ، ويرى مع إغماض العين عن سندها ، أنّ مرادها أعمّ من كونه مساقاً على الحقيقة التي عليها مدار الألفاظ ، فيُحتمَل إرادة المجاز .


الصفحة 125

ويذهب صاحب ( الرياض ) إلى أنّها تعيّن في المجاز لعدم التبادر ، وصحّة السلب عادةً ، وقيل : إنّه لو عَرَض للإنسان بعد بلوغه ورشده فِسق .. هلاّ حجَرتُم عليه ؟ والجواب : ليس هناك مِن قائل بذلك ، وإن نَقل في ( اللمعة ) قول الشيخ احتياطاً .

أمّا منع غير المتفقّه من الاتّجار بالسوق ـ وهو أجنبيّ عن الموضوع ؛ لأنّ جهله بفساد البيوع من صحيحها ( فساداً وصحّة شرعيّة ) يمنعه ـ فيتمّ دفعاً لوقوعه في الحرام إلاّ بعد أن يتفقّه .. وهي وظيفة للمحتسب لا علاقة لها بالرشد من جهة كونه حكماً وضعيّاً ، وما قيل في هذا يقال في كراهة الفقهاء للمسلم أن يدفع أمواله للكافر مضاربةً أو توكيلاً .

2 ـ رأي الباحث

يرى الباحث أنّ الاستعمال القرآني لمصطلح الرشد جاء على ضربَين : أحدهما تغلُب عليه الصفة العقائديّة ؛ فكان بمعنى سلامة العقيدة ، كقوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) [هود : 97] ، و ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) [البقرة : 256] ، والثاني تغلُب عليه الصفة العمليّة التكليفيّة ؛ حيث ورد غايةً ( لرفْع حُكم الحَجْر ) على غير الراشد ، كما هو الحال في الآية محلّ البحث ، ذلك أنّ تعلّقها بالأموال يعني أنّ الرشد المراد هو : كيفيّة التصرّف بالأموال .

ولكن هذا لا يمنع من تأثير التصوّر العقائدي على السلوك اليومي التفصيلي ؛ مِن حيث تأثير عدم سلامة المعتقد ، أو ضعف الإيمان ، وبالتالي ضعف الالتزام بأوامر الشرع ونواهيه على نمط التصرّف المالي .

وهذا التداخل أجبر الفقهاء على الاعتراف بأثر العدالة على نمط السلوك ، فقد أشار العاملي إلى أنّ مَن أصرّ على اعتبار الرشد هو التصرّف بالمال فحسب ، بمعزل عن العدالة ، لم يغفل التذكير مشترطاً ألاّ يكون نوع فِسقه ممّا يستلزم التبذير ، فقد عدّ مصنّفات العلماء الذين قالوا بذلك ممّا يربو على العشرين ، فقد ذيّلوا فتاواهم بقولهم : ( إن لم يستلزم الفسق تبذيراً ) ( 54 ) ، وقال : ( إنّ التحجير على هذا الفاسق محلّ وفاق ) ، إنّما محلّ النزاع الفِسق الذي لا يستلزم التبذير .


الصفحة 126

لذلك يرى الباحث صعوبة الفصل بين مدى الالتزام بأوامر الله ونواهيه ، وبين غياب الرشد ... فالتصرّف بالمال إمّا واجب ، كالإنفاق في الحجّ والجهاد والزكاة والخُمس والكفّارات والنذور وغيرها من العبادات الماليّة ، فهي وإن كَثُرت لا سفَه فيها ولا تبذير ، وإمّا مندوب ، وإمّا مباح .

أمّا المندوب ، فللعلماء فيه رأيان :

الأوّل : ما عبّروا عنه بقولهم : ( وصرْف الأموال في وجوه الخيرات ليس بتبذير ) ( 55 ) ، وظاهر العبارة أنّه لا فرْق بين الإفراط في ذلك وعدمه ، واستدلّوا بأنّ الإمام عليّ ( عليه السلام ) تصدّق بالأقراص ، كما هو مشهور ، فنزلت فيه سورة ( هل أتى ) ، وما روي عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) أنّه قاسَم ربّه مالَه حتى النعل .

أمّا الثاني : فاشترطوا للجواز أن تكون في أمواله سعة للإنفاق ، بمعنى كون المُنفَق مِن المال فاضلاً عمّا يحتاج إليه ، وربّما قيّدوه بعبارة ( أن يليق بحاله ) ورجّحه العاملي ، فقد قال : ( ولا تُصغِ إلى ما ذُكر في معناه غير هذا ) ( 56 ) .

1 ـ لقوله تعالى : ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ ) [الإسراء : 29] ، وهو مطلق يتناول محلّ النزاع .

2 ـ وقوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) [البقرة : 219] ، وفسرّه الصادق ( عليه السلام ) أنّه : ( الوسط من غير إسراف ولا إقتار ) ، وعن أبيه الباقر ( عليه السلام ) : ( ما فَضُل عن قُوت السنة ) ، وعن ابن عبّاس : ما فَضُل عن الأهل والعيال .

3 ـ قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إنّما الصدقة عن ظَهر غِنى ) .

4 ـ وقوله تعالى : ( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) [الفرقان : 67] .

أمّا الإنفاق المباح :

فقد قال الفقهاء : ( إنّ صرْف المال في الأغذية النفيسة التي لا تليق بحال المنفِق تبذير ) ، وعقّب العاملي ، فقال : ( وهذا ممّا لا خلاف فيه عندنا ،


الصفحة 127

لصدق الإسراف والتبذير المنهيّ عنهما ) ، خلافاً للشافعيّة الذين يرون أنّ الغاية مِن تملّك المال الانتفاع به والتلذّذ بمبادلاته .

وحصر بعض العلماء التبذير في ما يصدق عليه تضييع المال ، كالغبْن الفاحش ، وأشباهه .

أمّا الإنفاق في المحرّمات ، فهو تبذير وإسراف وسفَه قطعاً ( * ) ، وهذه هي حلَقة الربط بين اشتراط العدالة والسفَه ( فقدان الرشد ) ؛ حيث إنّ الإنفاق في المحرّمات والإنفاق في المباحات بإسرافٍ وتبذير هو فقدان الرشد ؛ لقوله تعالى : ( وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [الأنعام : 141] ، وقد ورد في بعض الأخبار أنّ السرَف يبغضه الله ، حتى طَرْحك النواة وهي لا تصلح لشيء ، وحتى فضْل شرابِك .

وفي رواية إسحاق أنّه ليس في ما أصلح البدن إسراف ، إنّما الإسراف في ما أفسد المال وأضرّ البدن ...

وقد ذهب الفقه الحنفي إلى أنّ السفه يتحقّق مع وجود الإسراف ، بصرْف النظر عن النواحي التي ينفق المال فيها ، فهو في ذاته حرام ؛ عملاً بعموم الآيات الناهية عنه ، وتأسيساً عليه ، فتصوّرهم للحَجْر أنّه : حماية للمال والنظر إلى مصلحة المحجور عليه وأُسرته ، بينما هو في فقه الشافعيّة عقوبة على إضاعة المال في أوجهٍ غير مشروعة .

ــــــــــــــــــــــ

( * ) قال العلاّمة في ( التذكرة ) : ( إنّ إجماع الأُمّة قائم على أنّ صرْف المال في المحرّمات سفَهٌ وتبذير ) .

( 51 ) السيوري ( المقداد ) ، ( م . س ) : 2/182 .

( 52 ) الجزائري ( أحمد ) ، ( م . س ) .

( 53 ) بحر العلوم ، الحَجْر وأحكامه ، ص : 131 ، نقلاً عن رياض المسائل ، كتاب الحَجْر ( غير مُرقّم ) .

( 54 ) العاملي ، ( م . س ) : 5/246 .

( 55 ) المصدر نفسه : 5/253 .

( 56 ) المصدر نفسه .


الصفحة 128


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net