متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
مدخل البحث
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

مدخل البحث

المبحث الأوّل : مفهوم الجريمة في الشريعة الإسلاميّة

يرى العلماء أنّ الجريمة : ( محظورات شرعيّة زجر الله عنها بحدٍّ أو تعزير ) ( 1 ) ، والمراد بالمحظورات : إمّا فعل أمرٍ نهى الشارع عنه ، أو ترْك فِعلٍ أمرَ الشارع به . وقيود شرعيّة : أي ما ورد الأمر بها في الكتاب والسنّة أو الاجتهاد المبني عليهما . أمّا قيد زجَر الله عنه بحدّ أو تعزير : أي ما نصّ على عقوبته مع ذِكر مقدار العقوبة أو لا ، فهل هذا يعني أنّ تقييد النصّ بالعقوبة ركن في اعتبار السلوك جريمة ؟ .

وهل مفهوم المخالفة يعني أنّ ما لم يُقرَن بعقوبة من الأفعال السلبيّة ، ليس ممّا عدّ من الجرائم ؟ بمعنى هل النهي ، الأمر ، مضافاً إلى تحديد العقوبة ، هما رُكنا الجريمة في الفقه الجنائي الإسلامي ، أو أنّ النظرة الشموليّة تقتضي الوقوف عند تحقّق النهي عن الفعل ، النهي عن الترك مطلقاً في باب الجرائم ؟

اختلف الفقهاء في هذا ، فكان هناك ثلاثة مذاهب :

الأوّل : مَن اعتمد الرُكنين ، وهو رأي الماوردي ( 2 ) .

الثاني : إنّ فعل ما أمرَ الشارع بترْكه على وجه الإلزام ، أو ترْك ما أمَر الشارع بفِعله على وجه الإلزام يُعدّ جريمـة ، وهو رأي المتأخّرين مثل أبي زهرة ( 3 ) .

فكلّ ما جانَب الامتثال للشارع حين ألزم ، هو جريمة .

الثالث : مَن يرى أنّ مفهوم الجريمة أخصّ مِن مطلق المخالفة ، فالمخالفة هي جميع صور عدم الامتثال ، بينما الجريمة هي ما اقترن منه بعقوبة في الشرع ، وعلى هذا ابن رشد ( 4 ) . والراجح أنّ في المسألة جانبين :

الجانب القضائيّ : الدنيوي .


الصفحة 143

والجانب الدِيني : الأُخرَوي .

فإذا لاحظنا الجانبين معاً ، فإنّ مطلق الذنْب في الشريعة هو جريمة ، سواء شُرّعت له عقوبة دنيويّة أم لا ، بينما إذا لوحظت المسألة القانونيّة المادّية ( الإجراءات الدنيويّة لتطبيق الأوامر والنواهي ) ، فإنّ رأي الماوردي هو الراجح ؛ لذلك سمّي ما اقترن النهي عنه بعقوبة الجنايات ، قال ابن رشد : ( الجنايات التي لها حدود مشروعة أربعة ) ( 5 ) ، وهي :

ما وقع على النفوس والأبدان وأعضاء الجسد ، كالقتل ، وإتلاف الأعضاء .

وما وقع على الفروج ، كالزنا واللواط والسفاح .

وما وقع على الأموال ، كالحرابة والبغي والسرقة والغصب .

وما وقع على الأعراض والشرف ، كالقذف .

وما وقع باستباحة ما حرّمه الشارع ، كشرب الخمر .

وعلى هذا الرأي وقع اختيار علماء القانون ، إذ عدّوا الجريمة هي : ( الفعل الضارّ الصادر من إنسان ، والذي يقرّر له القانون عقوبةً ما ) ( 6 ) ، بينما اعتبر علماء الاجتماع أنّ الفعل المعبّر عن انحراف عن المعايير والضوابط الجمعيّة للسلوك ، سواء نصّ القانون على اعتباره جريمة أم لا ، سلوك إجراميّ من جهة المفهوم ( 7 ) ، وهو ما يتوافق مع الاتّجاه الثاني الذي عبّر عنه الشيخ محمّد أبو زهرة ( 8 ) ، الذي يرى أنّ الفعل الإجراميّ هو فعل ما نهى الله عنه ، وترْك ما أمَر به . بما يُرادف مفهوم المعصية أو الذنب في الشريعة الإسلاميّة ، أي أنّه متى وُجد الخروج من دائرة الطاعة ، فإنّ أهمّ أركان الجريمة يتحقّق ، وهو عدم الامتثال للأمر الإلهي .

المبحث الثاني : الباعث على الجريمة في الشريعة الإسلاميّة

اختلف علماء الإجرام في الباعث على الجريمة ، فكان هناك عدّة آراء أبرزها :


الصفحة 144

1 ـ الباعث النفسي .

2 ـ الباعث الوراثي .

3 ـ الباعث الاقتصادي .

ويؤثّر هذا الاختلاف قضائيّاً في مدى اختلاف أصحابه في تحديد أركان العمل الجُرمي والظروف المحقّقة له ، وسبُل الوقاية منه ، وأُسلوب معالجته ؛ لذلك اختلفت المذهبيّات في ضوء هذه المرتكزات ، نظراً لاعتماد معايير تُترجِم موقف الفلسفة من الفعل عِبر الهيئات التشريعيّة ، من جهة مدى تعارُضَه مع القيَم السائدة أو المرغوب في سيادتها .

إنّ حدود بحثنا تتمثّل في الفحص عن الباعث في الشريعة الإسلاميّة ، فإنّنا نُعرض عن عَرْض أدلّة الآراء والموازنة بينها ، ونكتفي بالإشارة إليها بوصفها مدخلاً لعرض نظريّة الباعث في الشريعة الإسلاميّة .

ومفهوم الباعث مطلقاً ، ( هو السبب وراء دفع المَرء لارتكاب الجُرم في الحياة الواقعيّـة المادّيـة أو الاجتماعيّـة ) ( 9 ) ، أمّا في الشريعة الإسلاميّة ، فإنّ حشداً من النصوص يشير إلى أنّ الشريعة تفصل بين البواعث من جهة أثرها باعتماد علّة أُولى ، ويمكن أن نطلق عليه الباعث الموضوعي ، وما البواعث الأُخرى المُدّعاة سوى صورٍ أو نتائج لذلك السبب ، وإن احتلّت مجال السبب الوسيط بين الأساسي والنتائج المترتّبة عليه ، وهو السلوك الإجرامي ، ويتّضح ذلك مـن :

1 ـ إشارات القرآن الكريم إلى أنّ فقدان الفرد للإيمان ، أو ضعف إيمانه بالأُصول الاعتقاديّة ؛ هو السبب في ارتكاب الجريمة .

من ذلك قول الله تعالى عن غواية الشيطان : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) [ص : 82] .

وقوله تعالى : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ) [البقرة : 268] .

وقوله أيضاً : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ  ) [المائدة : 91] .


الصفحة 145

2 ـ ما جاء في السنّة النبويّة الشريفة :

قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ألا إنّ في الجسد مُضغة إذا صلُحت صلُح سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب ) ( 10 ) .

وما يماثل هذا الحديث في المعنى .

3 ـ وآراء المفكّرين المسلمين :

ومثاله ما قاله الغزالي : ( إنّ دواعي المعصية هي أبواب الشيطان المفتوحة إلى القلب ) ؛ لذلك يرى ( أنّ حماية القلب فرضُ عَين على كلّ عبد ) ( 11 ) .

إنّ هذه النصوص .. ممثّله لحشدٍ كبير ممّا ورد في الكتاب والسنّة وآراء العلماء في هذا الباب ، بما يكشف عن أنّ الباعث في التصوّر الإسلامي هو ضعف الإيمان لدى المسلم ، وانعدامه لدى غير المسلم ، ومن صوره استسهال اقتراف المعصية ؛ ذلك لأنّ الإيمان يستلزم التقيّد بالأحكام التكليفيّة الإلزاميّة والقيَم الأخلاقيّة التي أمَر بها الشارع على الأقلّ ، إذ إنّ هناك تكاليف أكثر تقييداً للإنسان في دائرة الندْب والكراهية ( 12 ) ؛ ذلك لأنّ العلماء يرون أنّ مصطلح الإيمان : ( تصديق بالجَنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان ) ، وأنّه كما وصفه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( بضْع وسبعون شعبة ، أرفعها قول لا إله إلاّ الله ، وأدناها إماطة الأذى عن طريق المسلمين ) ( 13 ) .

لِما تقدّم يرى الباحث أنّ العقيدة الإسلاميّة بعد ثبوتها للمكلّف بالأدلّة القطعيّة ، تستلزم الإيمان بأنّ الله تعالى مشرّع حكيم ، وأنّ هدْيَه وهديَ رسوله منهاج الحياة الأصوب مطلقاً ، وأنّ أوامره ونواهيه متعلّقها مصلحة الأفراد والجماعات ، والتقيّد بها من لوازم الإيمان ، وأنّ من أبرز مهام وليّ الأمر تطبيق الشريعة في وقائع المجتمع ، وأنّ الإيمان بالمعاد الأُخروي ، وبعِلم الله المحيط بالإنسان ؛ سبب لشعور الفرد بأنّ جميع أعماله ونواياه مُحصاةٌ عليه .

لذلك فإنّ السلوك السلبي ناتج عن الكفر والفسق والعصيان ، والسلوك الإيجابي البنّاء ناتج طبيعيّ عن الإيمان ومقتضياته .


الصفحة 146

أمّا الباعث النفسي ، فللإيمان أُسلوبه في معالجة الانحراف الداخلي ، والسيطرة المنظّمة على الغرائز .

 أمّا الباعث الوراثيّ ، فإنّ الشريعة لا تحسبه عاملاً ، على الرغم من أنّها تأمر بالتزوّج بالأباعد ، بينما في الجانب الاقتصاديّ ، فإنّ أُسلوب الشريعة تتكفّله بالمكافل والضمان ، وبذلك تصادر آثاره السلبيّة من النفس والضمير ، زيادةً على ما تضخّ داخلها من نور الهداية التي تبصّر الإنسان بالفعل البنّاء الخلاّق ، وأثره في الرفعة والسموّ الاجتماعيّ للفرد في الحياة الدنيا والثواب الأُخروي ، ذلك أنّ مفهوم الزمن في الشريعة ، قد جُعل على مرحلتين :

المؤقّت وهو دار الامتحان والاختبار ، والدائم الخالد وهو زمن الجزاء . وبذلك تُبعده هذه المفاهيم العقائديّة عن ارتكاب الفعل الضارّ .

المبحث الثالث : أهميّة البواعث الاقتصاديّة على الجريمة

تقدّم أنّ الشريعة الإسلاميّة تُرجع البواعث جميعها إلى باعثٍ واحد هو الإيمان بالله ومقتضياته ، وأنّها جعلت الباعث النفسي والمناخي أو الجغرافيّ ، إمّا صور خارجيّة لذلك الباعث ، أو عوامل مساعدة . وأيّاً كان اعتبار الشريعة للعامل الاقتصاديّ ، فما مدى أهميّته في دفع الفرد باتّجاه السلوك الإجرامي ؟ .

لقد أظهرت الدراسات المتعدّدة أنّ بين الجريمة وسوء الأوضاع الاقتصاديّة للأفراد علاقة جدليّة ، تصلُح كلّ منهما لأنْ تكون علّة ومعلولاً للأُخرى ، وإن كانت علّة ثانويّة ، وأوضحَتْ أنّ سوء الأوضاع الاقتصاديّة ، وانخفاض دخْل الفرد ، أو قصوره وعجزه من تلبية الحاجات الأساسيّة وسدادها حالة مفضية إلى الجريمة ، فالفقرُ - عامّةً - واحد من أهمّ أسباب ارتكاب الجريمة الاقتصاديّة ، كالسرقة ، والغشّ ، والتورّط في الإنتاج المضرّ ، والرشوة ، والمعاملات الربويّة ، مع عموم الجريمة .

لكن التصوّر الإسلامي ـ كما عرفنا ـ يَعدّه عاملاً مساعداً لارتكاب الجريمة ؛ لأنّه اقترن مع ضعف الإيمان ، فصار الجوّ العامّ ( الباعث ) مهيّأً وقابلاً لارتكابها .


الصفحة 147

وإلى هذا التقييم مال المؤتمرون في ميلانو عام 1985م ، حيث انقسم المجتمعون إلى اعتبار البواعث الاقتصاديّة عوامل رئيسة ، أو عوامل مساعدة ( 14 ) .

وفي دراسة أُخرى أُجريت عام ( 1950م ) على عيّنة مقدارها ( 200 ) من الأحداث الجانحين ، تبيّن أنّ ثلاثة أرباع هؤلاء الجانحين من أُسَر ذات مستوى اقتصاديّ متدنٍّ ، وأنّها تعتمد في كفافها على مساعدات ماليّة تقدّم إليها من هيئات متخصّصة ( 15 ) .

وتوصّلت دراسة في إيطاليا إلى أنّ ( 85 ـ 90% ) من المحكوم عليهم بجرائم اقتصاديّة ممّن ينسب إلى الطبقات الفقيرة .

وفي الوطن العربي لاحظتْ دراسةٌ أنّ نسبة الإجرام ترتفع مع نسبة البطالة ، وتنخفض بانخفاضها ، ووجدَت أنّ تدنّي الأُجور وتقلّبات الدخل أمران مؤثّران في السلوك الإجرامي ، كالاتّجار بالسلع المحرّمة ، والرشوة ، والسرقة ، كلّ ذلك لكي يحقّق الفرد أجراً إضافيّاً ، ولاحظتْ كذلك أنّه عند ارتفاع الأُجور تنخفض جرائم المال ( 16 ) .

وقد ذهبت النظريّة الاجتماعيّة المفسّرة لظاهرة الجريمة إلى أنّ ما يرتكب اعتداءً على المال ( 17 ) في الشتاء أكثر ؛ لأنّه وليد حاجة الفرد إلى الغذاء والملبس بسبب انخفاض الدخل .

يرى الباحث ممّا تقدّم أنّ العوامل ـ البواعث ـ الاقتصاديّة تعدّ عوامل هامّة ، خلافاً لِما انفردت به بعض مدارس علم الإجرام بجعله الباعث الرئيس ، وقد اتّضح لديك أنّ موقف الشريعة حينما تعدّه عاملاً مساعداً للعلّة الأساسيّة ، وهي تدنّي التقوى في ارتكاب الجريمة عامّة ، والجريمة الاقتصاديّة خاصّة ، فإنّها تسعى في تشريعاتها إلى إلغاء أثره السالب ، على أنّنا ينبغي أن نشير إلى أنّه أكثر البواعث وضوحاً في أثره على السلوك ، وسنلحظ في الوقاية والمعالجات أنّ الشريعة الإسلاميّة لا تكتفي بصيانة الفرد في


الصفحة 148

المجال الروحيّ والعقائديّ فقط ، بل إنّها تهتمّ بتحقيق مبدأ كفاية الأفراد ؛ الأمر الذي يعني أنّ الشارع المقدّس يحتاط لهذا الدافع حيطة تشريعيّة مانعة له من دفع الإنسان إلى ارتكاب الفعل الضار المخالف للقانون ، في مجال الجريمة بصورة عامّة ، أو الجريمة الاقتصاديّة بصورة خاصّة .

 

ـــــــــــــــــ

( 1 ) الماوردي ، الأحكام السلطانيّة ، ص : 333 .

( 2 ) المصدر نفسه .

( 3 ) أبو زهرة ، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ، ص : 23 ، اُنظر : الندوة العلميّة لتطبيق التشريع الجنائي : 1/39 .

( 4 ) ابن رشد ، بداية المجتهد : 2/387 .

( 5 ) ابن رشد ، ( م . ن ) .

( 6 ) نشأت ( أكرم ) ، الأحكام العامّة في قانون العقوبات : 13/19 .

( 7 ) المغربي ( سعد ) ، المجرمون ، ص : 113 ، اُنظر : د . محمّد ( عوض ) ، مبادئ عِلم الإجرام ، ص : 38 .

( 8 ) أبو زهرة ، ( م . س ) ، ص : 23 ، ندوة التشريع الجنائي : 1/39 .

( 9 ) خليفة ( أحمد محمد ) ، أُصول علم الإجرام الاجتماعي : ص : 5 .

اُنظر أيضاً : سعيد ( مصطفى ) : الأحكام العامّة في قانون العقوبات : 1/388 . إلياس ( يوسف ) ، مجموعة العقوبات العربيّة : 1/87 .

( 10 ) البخاري ، صحيح البخاري ، ص : 2011 ، سنن ابن ماجة : 2/1319 ، الحديث رقم 3984 .

( 11 ) الغزالي ، إحياء علوم الدين : 3/27 .

( 12 ) عليان ( رشدي ) ، الدوري ( قحطان ) ، أصول الدين الإسلامي .

( 13 ) سنن ابن ماجة ، ص : 2211 ، الحديث رقم 57 .

( 14 ) الوقائع المنشورة للمؤتمر السابع للأمم المتّحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين ، ميلانو ( 1985م ) ص 3/128 .

( 15 ) د . خليفة ، ( م . س ) ، ص : 104 ، 110 .

( 16 ) رمضان ( عمر السعيد ) ، ( م . س ) ، ص : 121 .

( 17 ) العطيف ( جمال ) ، فكرة الجريمة الاقتصاديّة ، ص : 50 .


الصفحة 149


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net