متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أبو سفيان : في الجاهليَّة ، في الإسلام
الكتاب : شخصيات ومواقف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

أبو سفيان :

شخصيَّة بارزة في العائلة الأُمويَّة ، لها تاريخها المعروف قبل الإسلام ، ثمَّ بعد الإسلام لها سيف مسلول على هذا الدين ، وعلى نبيِّه وصحابته قرابة عشر سنوات .

فلْنقرأ صفحاته ، لنُفسِّر القديم والجديد في حياة بَني أُميَّة !

في الجاهليَّة : عُرِف أبو سفيان قبل الإسلام بمُراودة البغايا والتردُّد على دور البِغاء . حتَّى أخرج سبط ابن الجوزيّ الحنبليّ عن كتاب ( مثالب العرب ) لأبي المنذر هشام الكلبيّ أنَّه قال : وكان الزُّناة ـ الذين اشتهروا بمَكَّة ـ جماعةً ، منهم : أبو سفيان ، وعُتبة بن أبي سفيان أخو مُعاوية ( 2 ) .

وقد نقلت كُتب التاريخ عيِّناتٍ شاهدة على ذلك .. فقد اشتهرت

ــــــــــــــــــــ

2 ـ تذكرة خواصّ الأمّة: 117 .


الصفحة 59

علاقاته مع المُحصنات ، ومنهنَّ ( أُمُّ زياد بن أبيه ) ، فقد وُلِد زياد على فراش عُبيد مولى ثقيف ، فقال أبو سفيان يوماً : واللهِ ، إنّي لأعرف الذي وضعه في رحم أُمِّه . فقال له عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( ومَن هو يا أبا سفيان ؟! ) ، قال : أنا . قال : ( مَهلاً يا أبا سفيان ) . فأنشد أبياتاً داليَّة ( 1 ) .

ومع ( أُمِّ عَمْر بن العاص )  كانت له مُعاشِرة ، حتَّى إنَّ عَمْراً اختصم فيه يوم ولادته رجلان : أبو سفيان والعاص بن وائل ، فقيل : لتَحكمْ أُمُّه ، فقالت : إنَّه مِن العاص ، فقال أبو سفيان : أما إنِّي لأشكُّ ، أنَّني وضعتُه في رحم أُمِّه . فأبت إلاَّ العاص ، فقيل لها : أبو سفيان أشرف نسباً ، فقالت : إنَّ العاص بن وائل كثير النفقة عليَّ ، وأبو سفيان شَحيح . وفي ذلك يقول حسَّان بن ثابت يُخاطب عَمْر بن العاص ـ حينما هَجا رسولَ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ـ :

أبوك أبو سفيان لا شكَّ قد بدَتْ     لـنا فيك منه بيِّناتُ الـدلائـلِ

ففاخِرْ بـه إمَّا فخرتَ ولا تكنْ     تُفاخر بالعاص الهجينِ بنِ وائلِ ( 2 )

والزِّنا في الأسرة الأُمويَّة أمرٌ عريق ، رافق الكُفر والشِّرك والفِسق ، حتَّى عُرِفت منها نساء كثيرات كُنَّ مِن ذوات الأعلام والرايات ،

ـــــــــــــــــــ

1 ـ الاستيعاب ، لابن عبد البرِّ 1 : 195 . وتاريخ دمشق ، لابن عساكر 5 : 410 .

2 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 2 : 101 .


الصفحة 60

ومنهنَّ جَدَّة أبي سفيان ـ أمُُّ أُمِّه ـ ( حمامة ) .

ومَن هي حمامةُ يا تُرى ؟!

يُعرِّفها الثقفيّ في خبر طريف يقول فيه : إنَّ عقيل بن أبي طالب ورد على مُعاوية بن أبي سفيان ، فقال له مُعاوية : يا أبا يزيد ، ما تقول فيَّ ؟ قال عقيل : دَعْ عنك . قال : لتقولنَّ . قال : أتعرف حمامة ؟ قال مُعاوية : ومَن حمامة ؟ قال : أخبرتُك .

ومضى عقيل وخرج ، فأرسل مُعاوية إلى بعض النسَّابة فقال : أخبرْني مَن حمامة ؟ قال : أعطني الأمان على نفسي وأهلي . فأعطاه الأمان ، قال : حمامة جَدَّتُك ، وكانت بغيَّةً في الجاهليَّة ـ لها راية ٌ ـ تؤتى .. !!

قال أبو بكر بن الزبير : هي أُمُّ أُمِّ أبي سفيان ( 1 ) .

وأمَّا ( أُمُّ جميل ) فهي أُخت أبي سفيان ، وقد كان لها قَدَم السَّبق في مُحاربة الرسول والرسالة ، ولقيت في ذلك عناءً مِن جمعها الأشواك ، وإلقائها في طريق النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) كيما تجرح قدميهِ الكريمتين . حتَّى نزلت فيها وفي زوجها سورة كاملة تختم عليهما بالعذاب المُقيم .

( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي

ــــــــــــــــــ

1 ـ الغارات ، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفيّ 1 : 65 .


الصفحة 61

جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) ( 1 ) .

قال الشيخ الطنطاوي : ( حمَّالة الحطب ) أي حطب جَهنَّم ؛ لأنَّها في الدنيا كانت تحمل الأوزار بالسعاية بين الناس ، والنميمة ، ومُعاداة الرسول ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، وتحمل زوجها على إيذائه ، وكانت توقد نار الخصومة . ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) ، أي : حال كونها في عُنقها حبلٌ مِن الحبال المفتولة فتْلاً شديداً ، سواء أكان ليفاً أم جلداً أم غيرهما ، فهذا معنى المَسَد ، وهو ما مُسِّد ـ أي : فـُتِل ـ . فالمعنى أنَّها تحمل تلك الحزمةَ مِن الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطَّابون ؛ تحقيراً لها وتصويراً بصورة الحطَّابات ( 2 ) .

وقال العلاَّمة الطباطبائيّ : التبُّ والتُّباب هو الخُسران والهلاك ـ على ما ذكره الجواهريّ ـ ، ودوام الخُسران على ـ ما ذكره الراغب  ـ وقيل : الخَيْبة ... وأبو لهب هو عبد العِزَّى بن عبد المُطَّلب عمّ النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) .. كان شديد المُعاداة للنبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) ، مُصِرَّاً على تكذيبه ، مُبالغاً في إيذائه بما يستطيعه مِن قول وفعل ...

( سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ) ، أيْ : سيدخل ناراً ، وهي نار جهنَّم الخالدة ، وفي تنكير لَهَب تفخيم له وتهويل . ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) ، عطف على ضمير الفاعل المُستكنِّ في ( سيصلى ) ، والتقدير : وستصلى امرأتُه .. و ( حمالةَ الحطب ) بالنصب ، وصف مقطوع عن الوصفيَّة للذمِّ ، أيْ : أذمَّ حمالةَ الحطب ، وقيل : حال مِن ( امرأته ) . ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) .. والظاهر أنَّ المُراد أنَّها ستتمثّل في النار التي تصلاها يوم القيامة ، في هيئتها التي كانت تتلبَّس بها في الدنيا ، وهي أنَّها كانت تحمل أغصان الشوك وغيرها وتطرحها بالليل في طريق رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) تُؤذيه بذلك ، فتُعذَّب بالنار وهي تحمل الحطب ، وفي جيدها حَبْلٌ مِن مَسَد ...

وفي ( تفسير القُمِّيّ ) : في قوله تعالى : ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال : كانت أُمُّ جميل بنت صخر ، وكانت تنمُّ عن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله )

ـــــــــــــــــــ

1 ـ سورة المَسَد .

2 ـ تفسير الجواهر 25 : 285 .


الصفحة 62

وتنقل أحاديثه إلى الكُفَّار .

وفي ( قُرْب الإسناد  ) للحميريّ ، بإسناده إلى موسى بن جعفر ( عليه السلام) : ( .. ومِن ذلك أنَّ أُمَّ جميل ، امرأة أبي لهب ، أتتْه حين نزلت سورة ( تبَّت ) ومع النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) أبو بكر بن أبي قحافة ، فقال : يا رسولَ الله ، هذه أُمُّ جميل مُحفِظة ـ أي مُغضبة ـ تُريدك ، ومعها حجَر تُريد أنْ ترميَك به ، فقال ( صلَّى الله عليه وآله ) : إنَّها لا تراني . فقالت لأبي بكر : أين صاحبُك ؟ .. جئتُه ، ولو أراه لَرميته ، فإنَّه هجاني ، واللاتِ والعزَّى إنِّي لشاعرة . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، لَمْ تَرَك ؟!

قال ( صلَّى الله عليه وآله ) : لا ، ضرب اللهُ بيني وبينها حِجاباً ) ( 1 ) .

وأمَّا زوجة أبي سفيان فهي ( هند ) ، وهي أشهر مِن أنْ تُعرَّف ؛ لأنَّها كانت بالفضائح تُعرَف .. ، فهي في الجاهليَّة مِن ذوات الأعلام ، تستقبل كلَّ وارد على أيِّ حال ( 2 ) .

وحينما وُلِد لها مُعاوية تنازع عليها أربعة رجال ؛ لأنَّهم كانوا واقعوها في طُهرٍ واحد .

وبعد أنْ جَنَّدت ( هند بنت عُتبة ) ـ وهي مِن الشجرة الملعونة في القرآن ـ كلَّ جهودها ، وعبَّأت أُسرتها وقومها ليلاً ونهاراً ضِدَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ، وحاربت الإسلام بجيوش قريش والأحزاب عشرين عاماً

ــــــــــــــــــــ

1 ـ الميزان 20: 384ـ 387 .

2 ـ ناسخ التواريخ ، للميرزا محمّد تقيّ لسان الملك سبهر ـ تاريخ معاوية : 329 .


الصفحة 63

ـ ثلاثة عشر عاماً قبل الهِجرة بمَكَّة وسبعة أعوام بعد الهِجرة إلى فتح مَكَّة ـ ، وبعد أنْ حرَّضت المُشركين واليهود لشَنِّ الحروب ضِدَّ المسلمين ، وبعد أنْ أغرت ( وحشيَّاً ) بنفسها ومالِها لقتل حمزة سيِّد الشهداء ، ثمَّ جاءت فمثَّلت بجسده الزاكي ، فشقَّت بطنه ولاكت كبِدَه ، وشربت دمه ، وقطَّعت أصابع يديه .

وبعد أنْ فُتِحت مَكَّة وخابت قريش .. أتت هند تُبايع النبيَّ الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) على شروط أيةٍ مِن سورة ( المُمتَحَنة ) ( 1 ) .. وهذه رواية البيعة :

* إنَّ النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) بايعهنَّ ، وكان على الصفا وكان عمر أسفلَ منه ، وهند بنت عُتبة مُتنكِّرة مع النساء ؛ خوفاً مِن أنْ يعرفها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله  ) فقال : ( أُبايعكنَّ على أنْ لا تُشركْنَ بالله شيئاً ) ، فقالت هند : إنَّك لَتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذتَه على الرجال ! . وذلك أنَّه بايع الرجال يومئذٍ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( ولا تَسرقْن ) ، فقالت هند : إنَّ أبا سفيان رجل مُمسِك ـ أي بخيل ـ وإنِّي أصبتُ مِن ماله هنات ـ أي سرقت منه شيئاً ـ .. فلا أدري أيحلُّ لي أم لا ؟! فقال أبو سفيان : ما أصبتِ مِن مالي فيما مضى فهو لكِ حلال . فضحك رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وعرفها ، فقال : ( وإنَّكِ لَهندُ بنت عتبة ؟ ) ، قالت : نعم ، فاعفُ عمَّا سلف يا نبيَّ الله ، عفا اللهُ عنك . فقال : ( ولا تَزْنينَ ) ، فقالت هند : أوَ تزني الحُرَّة ؟! فتبسَّم عمرُ بن الخطّاب ؛ لِما جرى بينه

ــــــــــــــــــ

1 ـ الآية 12 . 


الصفحة 64

وبينها في الجاهليَّة ( 1 ) .

وهند هذه .. هي بنتٌ لعتبة بن ربيعة ، وبنتُ أخٍ لشيبة بن ربيعة ، وأختٌ للوليد بن عتبة . وهؤلاءِ الثلاثة سمَّاهمُ القرآن ( مُفسدين ) و ( فُجَّار ) .

* روى الحافظ الحاكم الحسكانيّ الحنفيّ بأسانيد عديدة ، قال في بعضها : عن ابن عبّاس ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... ) : عليٌّ وحمزة وعبيدةُ بن الحارث ( ... كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ ... ) : عُتبةُ وشيبةُ والوليد ، ( ... أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ ... ) : عليٌّ وأصحابه ( ... كَالْفُجَّارِ ... ) عتبة وأصحابه ( 31 ) .

وفي حديث آخر ، عن ابن عبّاس أنَّها نزلت في عتبة وشيبة ، والوليد بن عتبة ( 32 ) .

في الإسلام :

ويُمكِّن الله تعالى رسولَه ( صلَّى الله عليه وآله ) مِن طُغاة قريش ، وخونة اليهود ، وناقضي العهود والمواثيق ، وتُفتَح مَكَّة فيُخذَل أبو سفيان وجنوده ،

ـــــــــــــــــــ

1 ـ مجمع البيان ، في ظِلِّ آية مُبايعة النساء : المُمتحنة : 12 ، وتذكرة خواصِّ الأُمَّة : 114ـ 117 ، وجمهرة رسائل العرب : 554 ، وشرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 2: 102 . والفخريّ ، لابن الطقطقا : 74 ، وغير ذلك مِن المصادر .

2 ـ شواهد التنزيل 2: 112 ـ113 ، والآية في سورة ص: 28 .

3 ـ تفسير فرات الكوفيّ: 131 .


 الصفحة 65

ولم تنظر العيون إلاَّ نظراتِ الدهشة والإعجاب ، لمَّا رأت مِن هيبة الإسلام وعظمة رسوله وعِزَّة المؤمنين .

قال العبّاس بن عبد المُطَّلب ـ وهو يتحدَّث حول فتح مَكَّة ـ : فلمَّا أصبح غدوتُ به ـ أي بأبي سفيان ـ على رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ، فلمَّا رآه قال : ويحك ـ يا أبا سفيان ـ ! ألم يأنِ لك أنْ تعلم أنْ لا إله ألاَّ الله ؟ فقال : بأبي أنت وأُمِّي ! ما أوصلك وأكرمك ، وأرحمك وأحلمك ! واللهِ ، لقد ظننتُ أنْ لو كان معه إلهٌ لأغنى يوم بدر ويوم أُحد . فقال : ويحك ـ يا أبا سفيان ـ ! ألَم يأن لك أنْ تعلم أنِّي رسول الله ؟ فقال : بأبي أنت وأُمِّي ! أمّا هذه .. فإنَّ في النفس منها شيئاً . قال العبّاس : فقلتُ له : ويحك ( 1 ) ! اشهدْ بشهادة الحقِّ قبل أنْ يُضرَب عُنقك . فتشهَّد .. ( 2 ) .

* وفي روايةٍ أُخرى حول فتح مكَّة أيضاً : سأل أبو سفيان بديلَ بن ورقاء : ما هذه النيران ؟ قال : هذه خزاعة . قال : خزاعةُ أقلُّ وأقلُّ مِن أنْ تكون هذه نيرانهم ، ولكنْ لعلَّ هذه تميمُ أو ربيعة . قال العبّاس : فعرفت صوت أبي سفيان ، فقلت : يا أبا حنظلة ، قال : لبَّيك ، فمَن أنت ؟ قلت : أنا العبّاس . قال : فما هذه النيرانُ ؟ فداك أبي وأمي ! قلت : هذا رسول الله في عشرة ألاف مِن المسلمين . قال : فما الحيلة ؟ قلت : تركب في عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ وفي نسخة أُخرى : ويلك .

2 ـ مجمع البيان 10: 554 ـ557 ، عنه بحار الأنوار 21: 104 .


الصفحة 66

قال العبّاس : فأردفته خَلْفي ثمَّ جئت به . فكلَّما انتهيتُ إلى نار قاموا إليَّ ، فإذا رأَوني قالوا : هذا عمُّ رسول الله ، خلُّوا سبيله .. فجلست عند رأس رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) فقلت : بأبي أنت وأُمِّي ! أبو سفيان وقد أجَرْتُه . قال : أدخِلْه . فقام بين يديه فقال : وَيْحك ـ يا أبا سفيان ـ ! أما آنَ لك أنْ تشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأنِّي رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأُمِّي ! ما أكرمك ، وأوصلَك وأحلمك ! أما والله ، لو كان معه إلهٌ لأغنى يوم بدر ويوم أُحد ، وأمَّا أنَّك رسول الله .. فوَ الله ، إنَّ في نفسي منها لَشيئاً . قال العبّاس : يُضرَب ـ واللهِ ـ عُنُقك في هذه الساعة ، أو تشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّه رسول الله . قال : فإنِّي أشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّك لرسول الله . تلجلج بها فوه ( 1 ) .. ( 2 ) .

حتَّى إذا أحسّ أبو سفيان بالأمان ، عاد يكيد المكائد ، لا سِيَّما بعد أنْ ولاَّه أبو بكر ، فأظهر كفرَه ونفاقَه مِن جديد ، حتَّى اشتهر عنه أنَّه نادى : يا بني أُميَّة ، تلاقفوها تلاقف الصبيانِ للكُرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان .. لا جَنَّة ولا نار ( 3 ) .

ــــــــــــــــــ

35 ـ في مناقب آل أبي طالب 1: 177 ـ 180: فتلجلج لسانه وعليٌّ يقصده بسيفه ، والنبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) مُحدق بعليّ . فقال العبّاس : يُضرَب ـ والله ـ عُنقك الساعة أو تشهد الشهادتين . فأسلم اضطراراً .

36 ـ إعلام الورى بأعلام الهُدى ، للطبرسيّ : 114والإرشاد ، للمُفيد : 60 ـ 64 .

37 ـ ذكر ابن عبد البرِّ في الاستيعاب بذيل ( الإصابة في تمييز الصحابة  ) لابن حجر العسقلانيّ 4: 87 ما يقرب منه .


الصفحة 67

أي اهجموا على الزعامة والسلطة والحُكم ، وهذا ما جابَه بهِ الإمامُ الحسن ( عليه السلام ) معاوية ، في احتجاج كبير اجتمع فيه رؤوس الضلال : عمرو بن عثمان ، وعمرو بن العاص ، وعتبة بن أبي سفيان ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، والمُغيرة بن شعبة .. وقد تواطئوا على أمرٍ واحدٍ يقوده عليهم معاوية . فتكلَّموا ونضحوا كُفراً ونفاقاً ، وكان الإمام الحسن ( عليه السلام ) يُجابههم بحُجَجٍ دامغة ، ويُذكِّرهم مثالبهم في الجاهليَّة والإسلام .. وكان مِن ذلك قوله لمُعاوية :

( .. ثمَّ أُنشدكم بالله ، هل تعلمون أنَّ أبا سفيان دخل على عثمان ـ حين بُويع في مسجد رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ـ فقال : يا ابن أخي ، هل علينا مِن عين ؟ ( 1 ) قال : لا ، فقال أبو سفيان : تداولُوا الخلافة ـ يا فتيانَ بني أُميَّة ـ ! فو الذي نفسُ أبي سفيان بيده ، ما مِن جنَّةٍ ولا نار ! وأُنشدُكم بالله ، أتعلمونَ أنَّ أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بُويع عثمان وقال : يا ابن أخي ، اخرجْ معي إلى بقيع الغرقد . فخرج حتَّى إذا توسَّط القبور اجترَّه فصاح بأعلى صوته : يا أهلَ القبور ، الذي كنتم تُقاتلونا عليه ( 2 ) صار بأيدينا وأنتم رميم ؟! ) ( 3 ) .

قالها صريحة .. كما قاتل الإسلام مِن قبلُ بسيوف صريحة .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ أي : مِن رجلٍ غريب .

2 ـ يقصد الحُكم .

3 ـ الاحتجاج ، للشيخ أبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسي : 275 .


الصفحة 68

فعشرون عاماً كانت تشهد عليه أنَّه أفرز أحقاده على الدين الحنيف وأهله .. حتَّى نزل قولُه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( 1 ) ، فرُوي عن مُجاهد قال : نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفَّار يوم أُحد ( 2 ) . وحتّى نزل قوله تعالى : ( ... فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) ( 3 ) ، فجاء عن مُجاهد وغيره أنَّ الآية نزلت في أبي سفيان وأصحابه .. وتسالم على ذلك غير واحد مِن أهل التفسير والحديث والتاريخ والسيرة ( 4 ) .

ومِن هنا توافرت روايات اللعن على أبي سفيان ، أيَّامَ كان في الجاهليَّة يُقاتل دين الله ، وأيَّام تظاهر بالإسلام يكيد به وبأهله .

تعالوا نتبيَّنْ ذلك في الأخبار :

* ذكر ابن أبي الحديد المُعتزليّ أنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) لعنَ أبا سفيان في سبعة مواطن :

الأوَّل : يوم لقيَ رسولَ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) خارجاً مِن مكَّة إلى الطائف ، يدعو ثقيفاً إلى الدين . فوقع برسول الله وسبَّه وشتمه ، وكذَّبه

ـــــــــــــــــــ

1 ـ الأنفال : 36 .

2 ـ جامع البيان ، للطبريّ 10: 159ـ 160 . والكشَّاف ، للزمخشريّ 2: 13 . وتفسير الرازي 4: 379 . وتفسير ابن كثير 4: 37.. وغيرها

 3 ـ التوبة :12 .

4 ـ جامع البيان 10: 62 . وتفسير الخازن ، للبغداديّ الصوفيّ 3: 53 ، وغيرهما .


الصفحة 69

وتوعَّده وهَمَّ أنْ يبطش به ، فلعنه الله ورسوله ، وصُرِف عنه .

الثاني : يوم العير ، إذ عرض لها رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وهي جائية مِن الشام ، فطردها أبو سفيان وساحَلَ بها ، فلم يطُف المسلمون بها ، ولعنه رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ودعا عليه ، فكانت واقعة بدر لأجلها .

الثالث : يوم أُحد .. حيث وقف أبو سفيان تحت الجبل ورسولُ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) في أعلاه ، وأبو سفيان يُنادي : (  أُعلُ هُبَل ، اُعلُ هُبَل ـ مِراراً ـ .. فلعنه رسولُ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) عشر مرَّات ، ولعنه المسلمون .

الرابع : يوم جاء أبو سفيان بالأحزاب ، وغطَفان واليهود .. فلعنه رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وابتهل ـ أيْ : دعا عليه ـ .

الخامس : يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدُّوا رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) عن المسجد الحرام ، والهَدْيَ معكوفاً أن يَبلُغَ مَحِلَّه ، وذلك يومَ الحُديبية ، فلعن رسولُ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) أبا سفيان ، ولعن القادةَ والأتْباع ، وقال ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( ملعونونَ كلُّهم ، وليس فيهم مَن يؤمن ) . فقيل : يا رسول الله ، أفما يُرجى الإسلام لأحدٍ منهم ؟! فكيف باللعنة ؟ فقال ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( لا تُصيبُ اللعنةُ أحداً مِن الأتباع ، وأمَّا القادة فلا يُفلح منهم أحد ) .

السادس : يوم الجمل الأحمر .

السابع : يوم وقفوا لرسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) في ( العَقَبة  ) ليستنفروا ناقته ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، منهم أبو سفيان ( 1 ) .

ــــــــــــــــــ

1 ـ شرح نهج البلاغة 2: 102ـ 102 .


الصفحة 70

ولعلَّ هذا الخبر مُستفاد مِن خبرٍ أشرنا إليه آنفاً في احتجاج الإمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية و أزلامه .. حيث خاطبه بصريح القول وواضح العبارة :

( ... أُنشدكم بالله ، هل تعلمون أنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن ؟ :

أوّلُهنَّ : حين خرج مِن مَكَّة إلى المدينة ـ وأبو سفيان جاءٍ من الشام ـ فوقع فيه أبو سفيان فسبَّه و أوعده وهَمَّ أنْ يبطش به ، ثمَّ صرفه الله عزَّ و جلَّ عنه .

والثاني : يوم العْيِر ، حيث طردها أبو سفيان ليُحرزها مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) .

والثالث : يوم أُحد .. قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : اللهُ مولانا ولا مولى لكم . وقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فلعنه الله وملائكته ورسوله والمؤمنون أجمعون .

والرابع : يوم حُنين ، يوم أبو سفيان بجمع قريش وهوازن ، وجاء عُيينةُ بغطفان واليهود ، فردَّهمُ الله عزَّ وجَلَّ بغيظهم لو ينالوا خيراً ( 1 ) .. هذا قول الله عزَّ وجلَّ له في سورتين في كليتهما يُسمِّي أبا سفيان وأصحابه كفَّاراً ، وأنت يا معاوية يومئذ مُشرك على رأي أبيك

ـــــــــــــــــــــ

 1 ـ إشارةٌ إلى قوله تعالى : ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيَّاً عَزِيزاً ) الأحزاب : 25 .


الصفحة 71

بمَكَّة ، وعليٌّ يومئذٍ مع رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وعلى رأيه ودينه .

والخامس : قول الله عزَّ وجلَّ : ( ... وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ... ) ( 1 ) ، وصددتَ أنت وأبوك ومُشركو قريشٍ رسولَ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ، فلعنه الله لعنةً شملتْه وذرَّيَّتَه إلى يوم القيامة .

والسادس : يوم الأحزاب ، يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش ، وجاء عُيينهُ بن حُصين بن بدر بغطفان ، فلعن رسولُ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) القادةَ والأتباع والساقةَ إلى يوم القيامة . فقيل : يا رسول الله ، أمَا في الأتباعِ مؤمن ؟ فقال : لا تُصيب اللعنةُ مؤمناً مِن الأتباع ، أمَّا القادة فليس فيهم مؤمنٌ ولا مُجيبٌ ولا ناجٍ .

والسابع : يوم الثنيَّة ، يوم شدَّ على رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) اثنا عشر رجلاً ، سبعة منهم مِن بني أُميَّة وخمسة مِن سائر قريش . فلعن الله تبارك وتعالى ، ورسولُه ( صلَّى الله عليه وآله ) مَن حلَّ الثنيَّة غيرَ النبيِّ ( صلَّى الله عليه وآله ) وسائقِه وقائده ... ) ( 2 ) .

ومَن لعنه رسولُ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ـ دعياً مِن الله تعالى أنْ يطرده مِن رحمته ، وهو مُستجاب الدعوة ـ فإنَّ مآله ـ لا شكَّ ولا ريب ـ لإلى الهاوية والسعير ، وبئس المصير .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ الفتح : 25 .

2 ـ الاحتجاج : 274 . وتذكرة خواصِّ الأُمَّة : 114ـ 119 . وفي المثالب ، لهاشم بن محمّد الكلبيّ تفصيل ، فراجع . ولا يفوتنَّ علينا كتاب الفتن مِن بحار الأنوار : ج28 .


الصفحة 72


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net