متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
البحث الثاني: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبشر بالأئمة الإثني عشر من بعده
الكتاب : آيات الغدير    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

البحـث الثانـي

النبي صلى الله عليه وآله يبشر بالأئمة الإثني عشر من بعده

في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت أمراً مفروغاً عنه عنده صلى الله عليه وآله، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده، كما هي سنته تعالى في أنبيائه، أن يورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة..

ونبينا صلى الله عليه وآله أفضلهم، ولا نبوة بعده، بل إمامةٌ ووراثةُ الكتاب..

وعترته وذريته صلى الله عليه وآله أفضل من ذريات جميع الأنبياء عليهم السلام وقد طهرهم الله تعالى واصطفاهم، وأورثهم الحكم والكتاب (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم... ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا...).

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله طوال نبوته يبلغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج، والتلويح والتصريح، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده، بل قد لمس صلى الله عليه وآله مراتٍ عديدة عنف قريش ضدهم، فأجابهم بغضب نبوي!

وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي صلى الله عليه وآله لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق، حيث لم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام، واتساع الدولة الإسلامية، والمخاطر المحيطة بها، وإعلان النبي صلى الله عليه وآله قرب رحيله الى ربه.. إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده.


الصفحة 26

بل تدل النصوص ومنطق الأمور، على أن ذلك كان هو الهم الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد النبي صلى الله عليه وآله، وتعمل لمنع إعلان ذلك! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة عليهم السلام بشكل رسمي، وأخذ البيعة لهم من الأمة!

ولا يتسع هذا البحث للإستدلال على المفردات التي ذكرناها.. وكل مفردة منها عليها عدة أدلة.. بل نكتفي هنا باستطلاع خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع.. فقد ذكرت المصادر أنه صلى الله عليه وآله خطب خمس خطب غير خطبة الغدير، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملةً غير منقوصة، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف.. ولكنك تراها مجزأةً مقتضبة، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية.

قال في السيرة الحلبية: 3|333:

خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة، والثانية يوم عرفة، والثالثة يوم النحر بمنى، والرابعة يوم القر بمنى، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً. انتهى.

وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مئة مصدر، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب، من التعارض والتضارب، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها! !

وكل ذنب خطب الوداع أن النبي صلى الله عليه وآله أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده، وحذرهم من الإختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، وأقام عليهم الحجة، كاملةً غير منقوصة!

ولكن رغم كل التعتيم القرشي، فقد وصلنا منها في المصادر القرشية نفسها، ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه، وتأكيده على الإلتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده.. صلى الله عليه وعليهم.


الصفحة 27

ونذكر منها فيما يلي: حديث الأئمة الإثني عشر، حيث اتفق الجميع على أن النبي صلى الله عليه وآله طرح قضيتهم في خطبه على المسلمين في حجة الوداع!

ثم نستعرض أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور، ومنها حديث الثقلين: الكتاب والعترة، وحديث: حوض النبي صلى الله عليه وآله، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه، ويؤمر بهم الى النار!

ـ روى البخاري في صحيحه: 8|127:

جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش!

ـ وفي صحيح مسلم: 6|3:

جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً الى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش!

ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها قال فيها (ثم تكلم بشيء لم أفهمه).

ثم روى ثالثة، جاء فيها (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صَمَّنِيها الناس! فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش). انتهى.

ولم يصرح البخاري أن هذا الحديث جزءٌ من خطبة حجة الوداع في عرفات، وقد قلده غيره في ذلك، ولكن عدداً من المصادر نصت عليه!

ففي مسند أحمد: 5|93 و 96 و 99 (عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فقال...) وفي ص 87 (يقول في حجة الوداع). وفي ص 99 منه (وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب بمنى). انتهى.

وستعرف أن النبي صلى الله عليه وآله كرر هذا الموضوع المهم في عرفات، وفي منى عند الجمرة، وفي مسجد الخيف.. ثم أعلنه شرعياً وصريحاً في غدير خم!

***


الصفحة 28

فما هي قصة الأئمة الإثني عشر؟ ولماذا طرحها النبي صلى الله عليه وآله على أكبر تجمعٍ للمسلمين، وهو يودع أمته؟!

يجيبك البخاري: إن هؤلاء ليسوا أئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله تجب طاعتهم، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما، وأنه صلى الله عليه وآله قد أخبر أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم، وأنهم جميعاً من قريش، لا من بني هاشم وحدهم، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش! وليس فيهم من الأنصار، ولا من قبائل العرب الأخرى، ولا من غير العرب.. وهذا كل ما في الأمر! !

وتسأل البخاري: لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الإثني عشر؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك؟!

يجيبك البخاري: بأن الموضوع مجرد إخبار فقط، فقد أحب النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر أمته بذلك، لكي تأنس به.. فكأنه مجرد خبرٍ صحفي ليس فيه أي عنصرٍ عملي! !

والنتيجة: أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الإثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المبهمة، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك! بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة، واضحة مفهومة، تبين كيف احترمها النبي صلى الله عليه وآله، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها!

***

أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً، لأنه اختار روايةً يفهم منها أن هؤلاء الإثني عشر هم خلفاء يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله !

ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه صلى الله عليه وآله، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين، ولا يحتاج الأمر الى سقيفة واختلافات، ثم الى صراعٍ دموي على الحكم من صدر الإسلام الى يومنا هذا.. وملايين الضحايا.. وانقساماتٍ في الأمة أدت الى تراكم ضعفها.. الى أن.. انهارت خلافتها وخلفاؤها!


الصفحة 29

ولكن رواية مسلم تقول: كلا لم تحل المشكلة، لأن النبي صلى الله عليه وآله أخبر عنهم إخباراً مجملاً! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم؟ ولم يسأله أحدٌ من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير: من هم يا رسول الله؟!

وياليت أحدهم سأله فحددهم، حتى تسلم قريش لهم الأمر بلا منازع؟!

يقول مسلم كما قال البخاري: كلا، كلا.. إنهم فقط أناسٌ ربانيون، يعز الله بهم الإسلام.. وهم من قريش.. من قريش! !

***

وهكذا لا يمكنك أن تصل من البخاري ومسلم الى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الإثني عشر.. فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب، وقالا لك مقولة قريش: إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الإثني عشر فقط، فشمها واسكت!

ولكنك لا تعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما!

فقد روى أحمد في مسنده: 5|92، عن نفس الراوي جابر السوائي قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون (بعدي)...

وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. قال ثم رجع الى منزله، فأتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج. انتهى.

ففي الروايتين كلمة (بعدي) والمفهوم منها أنهم يكونون بعده مباشرة، والثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين، وأن القصة في المدينة، لا في حجة الوداع، فاحفظ ذلك لما يأتي!

وقد وردت كلمة بعدي، ومن بعدي، في عدد من روايات الحديث، منها ما رواه أحمد أيضاً في: 5|94، عن نفس الرواي (يكون بعدي اثنا عشر أميراً، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت القوم..)


الصفحة 30

وفي: 5|99 و 108 عن السوائي أيضاً (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، فتكلم فخفي علي، فسألت الذي يليني أو الى جنبي، فقال: كلهم من قريش).

وفي سنن الترمذي: 3 |340

(يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، قال: ثم تكلم بشىَ لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال قال: كلهم من قريش).

وفي تاريخ البخاري: 1|446 رقم 1426: عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال: يكون بعدي اثنا عشر خليفة.. انتهى.

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر |20 قال:

خرَّج أبو القاسم البغوي بسند حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون خلفي اثنا عشر خليفة. انتهى.

***

إذن، فقد طرح النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع أمر الحكم من بعده، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني عشر!

ولكن ذلك لا يحل المشكلة، بقدر ما يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها:

السؤال الأول:

لماذا نرى أن روايات هذه القضية الضخمة تكاد تكون محصورة عندهم براوٍ واحد، هو جابر السوائي، الذي كان صغيراً في حجة الوداع، ولعله كان صبياً ابن عشر سنوات! ألم يسمعها غيره؟ ألم يروها غيره من كل الصحابة الذين كانوا حاضرين؟! أم أن غيره رواها ولكن رواية جابر فازت لأنها أحسن رواية ملائمة للخلافة القرشية، فاعتمدتها، وسمحت بتدوينها!

السؤال الثاني:

كان المسلمون يسألون النبي صلى الله عليه وآله عن صغير الأمور وكبيرها، حتى في أثناء خطبته، وهذه الروايات تقول إنه أخبرهم بأمر عقائدي، عملي، مصيري، مستقبلي، وتدعي أنه أبهمه إبهاماً، ثم لا تذكر أن أحداً من المسلمين سأله عن


الصفحة 31

هؤلاء الأئمة الربانيين، وما هو واجب الأمة تجاههم؟!

وإذا كانت (قريش) قد ذهبت الى النبي صلى الله عليه وآله في بيته في المدينة، كما يقول نفس الراوي، وطرقت عليه بابه لتسأله عما يكون بعد هؤلاء الإثني عشر، فهل يعقل أنها لم تسأله عنهم، وعما يكون في زمانهم!

وهل تعلم أن قريشاً في المدينة تعني عمر وأبا بكر فقط؟!

وهل يعقل أن أحداً من المسلمين في حجة الوداع، لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عنهم، ولا عما يكون قبلهم، وبعدهم، وعن واجب الأمة تجاههم؟!

السؤال الثالث:

لماذا خفيت على الراوي الكلمة الحساسة، التي تحدد هوية الأئمة الإثني عشر، حتى سأل عنها الراوي القريبين منه؟

ثم رووها عن النبي صلى الله عليه وآله في المدينة أيضاً، فخفيت نفس الكلمة!

ثم لماذا تؤكد مصادر الخلافة القرشية على نقل الكلمة المفقودة عن سمرة وعن عمر بن الخطاب فقط؟!... الى آخر الأسئلة التي ترد على نص هذا الحديث، وتلحُّ على الباحث بالسؤال.

أليس من حق الباحث أن يشك في الأمر.. وأن يبحث بنفسه عن هذه كلمة السر المفقودة في أسواق الحديث والتاريخ؟!

سنحاول في الملاحظات والمسائل التالية، تسليط الضوء على هذا السر المفقود! !

الأولى: هل أن أصل كلهم من قريش: كلهم من عترتي!

ماهو السبب في غياب الكلمة على الراوي؟ ومن الذي سأله عنها فشهد له بها؟

ـ جاء في مسند أحمد: 5|100 و 107 أن الراوي لم يفهم الكلمة، وخفيت عليه قال

(ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال؟ قال: قال كلهم من قريش)

ـ وفي مستدرك الحاكم: 3|617 (وقال كلمة خفيت علي، وكان أبي أدنى اليه مجلساً مني فقلت ما قال؟ فقال كلهم من قريش).


الصفحة 32

ـ وفي مسند أحمد: 5|90 و98 أن النبي صلى الله عليه وآله أخفاها وخفض بها صوته، وهمس بها همساً! (قال كلمة خفية لم أفهمها، قال قلت لأبي ما قال؟ قال قال كلهم من قريش).

ـ وفي مستدرك الحاكم: 3|618 (ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال ياعم؟ قال قال يابني: كلهم من قريش).

ـ وفي معجم الطبراني الكبير: 2|213 ـ 214 ح 1794

عن جابر بن سمرة عن النبي قال: يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً، لا يضرهم من خذلهم، ثم همس رسول الله صلى الله عليه وآله بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي ما الكلمة التي همس بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال أبي: كلهم من قريش).

بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس، فالناس ـ المحرمون لربهم في عرفات، المودعون لنبيهم صلى الله عليه وآله، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه ـ صاروا كأنهم في سوق حراج، وصار فيهم مشاغبون يلغطون عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين، فيضجون، ويكبرون، ويتكلمون، ويلغطون، ويقومون، ويقعدون! !

ـ ففي سنن أبي داود: 2|309 (قال فكبر الناس، وضجوا، ثم قال كلمة خفية، قلت لأبي يا أبة ما قال؟ قال كلهم من قريش). ومثله في مسند أحمد: 5|98.

ـ وفي مسند أحمد: 5|98 (ثم قال كلمة أصمنيها الناس، فقلت لأبي ما قال؟ قال: كلهم من قريش) وفي رواية مسلم المتقدمة (صمنيها الناس).

وفي ص 93 (وضج الناس).

وفي ص 99 (فسمعته يقول: لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً، حتى يملك اثنا عشر كلهم... ثم لغط القوم وتكلموا، فلم أفهم قوله بعد كلهم، فقلت لأبي يا أبتاه ما بعد كلهم؟ قال: كلهم من قريش).

وفي نفس الصفحة (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً، ينصرون على من ناواهم عليه الى اثني عشر خليفة. قال فجعل الناس يقومون ويقعدون...) !


الصفحة 33

أما الذين سألهم جابر بن سمرة عن الكلمة، فتقول أكثر الروايات إنه سأل أباه سمرة، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الأئمة من هاشم الى قريش، متوقفةً على وثاقة سمرة أيضاً! كما رأيت في روايتي البخاري ومسلم، وغيرهما.

ولكن في رواية أحمد: 5|92 (بعدي اثنا عشر أميراً، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت القوم كلهم فقالوا: قال كلهم من قريش). ونحوه في ص 90، وفي ص 108 (يكون بعدي اثنا عشر أميراً، قال ثم تكلم فخفي على ما قال، قال فسألت بعض القوم، أو الذي يلي، ما قال؟ قال: كلهم من قريش).

ـ وفي: 5|99 (فخفي علي فسألت الذي يليني) ونحوه في: 5|108

ـ وفي معجم الطبراني الكبير: 2|277 ح 2044، أن ابن سمرة قال إن القوم زعموا زعماً أن النبي صلى الله عليه وآله قال إنهم من قريش! قال (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميراً، ثم تكلم بشىَ لم أسمعه، فزعم القوم أنه قال: كلهم من قريش).

والواقع أنه يصعب على الإنسان أن يقبل خفاء أهم كلمة عن الأئمة الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله، وفي مثل ذلك الجو الهادىء المنصت في عرفات! ثم لايسأل أحدٌ النبي صلى الله عليه وآله عن الكلمة الخفية التي هي لب الموضوع!

هذا وقد روى ابن سمرة نفسه أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب وهو راكبٌ على ناقته، وهذا يعني أنه كان حريصاً على أن يوصل صوته الى الجميع!

ففي مسند أحمد: 5|87 (ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وكان أبي أقرب الى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني!

بل رووا أنه النبي صلى الله عليه وآله أمر شخصاً جهوري الصوت، فكان يلقي خطبته جملةً جملة، ويأمره أن (يصرخ) بها ليسمعها الناس!

ـ ففي مجمع الزوائد: 3|270

عن عبد الله بن الزبير قال: كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له رسول الله صلى


الصفحة 34

الله عليه وسلم: أصرخ ـ وكان صيِّتاً ـ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا؟ فصرخ، فقالوا: نعم الشهر الحرام، قال فإن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا.

ثم قال: أصرخ: هل تدرون أي بلد هذا... الخ.

وعن ابن عباس... فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته، وكان رجلاً صيتاً فقال: أصرخ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا... الخ. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. انتهى.

والذي يزيد في الشك أنهم رووا الحديث عن نفس هذا الراوي بعدة صيغٍ غير متشابهة، ولكن الكلمة المفقودة في الجميع تبقى نفسها لا تتغير..

بل رووا عنه أنه صدر من النبي صلى الله عليه وآله في المدينة، وليس في حجة الوداع في عرفات.. ولكن الكلمة المفقودة تبقى نفسها، وهي هوية الأئمة الإثني عشر! !

ـ ففي مسند أحمد: 5|97 و 107

عن جابر بن سمرة قال: جئت أنا وأبي الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لابي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش. انتهى.

ثم رووه عنه، والنبي صلى الله عليه وآله يخطب في المسجد النبوي في المدينة، وهو مسجد صغير محدود، ولكن الكلمة نفسها بقيت خفية على جابر بن سمرة حتى سأل عنها الخليفة القرشي عمر بن الخطاب فأخبره بها!

ـ ففي معجم الطبراني الكبير: 2|286 ح 2073 عن جابر بن سمرة (قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخطب على المنبر ويقول: إثنا عشر قيماً من قريش، لا يضرهم عداوة من عاداهم، قال فالتفتُّ خلفي، فإذا أنا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي، في ناس، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت). انتهى.

ـ وقال عنه في مجمع الزوائد: 5|191: رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده، وزاد


الصفحة 35

فيه: ثم رجع يعني النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته، فأتيته فقلت: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج . ورجاله ثقات. انتهى.

فصار الحديث: اثني عشر قيماً والناس يعادونهم. وصار الذي أثبت له هوية هؤلاء القيمين على الأمة جماعة فيهم عمر وأبوه! فقد تغيرت صيغة الحديث ومكانه والشخص الذي سأله عنه الكلمة المفقودة، لكنها ما زالت نفسها مفقودة! !

والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر، هو أبو جحيفة، فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً! ! ولكنه سأل عنها عمه، وليس أباه!

ـ ففي مستدرك الحاكم: 3|618

عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: كنت مع عمي عند النبي صلى الله عليه وآله فقال: لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة، ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ماقال ياعم؟ قال قال يابني: كلهم من قريش. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد: 5|190: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، والبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح. انتهى.

نجد أنفسنا هنا أمام ظاهرة لا مثيل لها في كل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله!!

مما يدل على أن أمر هذا الحديث مهمٌّ جداً، وأن نصه وظروفه ليست طبيعية.. وأن في الأمر سراً، يكمن في كلمة قريش! !

ويرى الباحث من حقه أن يحتمل أن الراوي الأصلي للحديث هو عمر، وهو الذي صححه لهذا الصبي جابر بن سمرة وأثبته له، وأمره أن يرويه هكذا!

فقد روى هذا الحديث الخزاز القمي الرازي في كتابه كفاية الأثر|90، عن عمر وحده، بدون ابن سمرة وأبيه، وبدون أبي جحيفة وعمه، قال:

حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن علي زكريا العدوي، عن شيث بن غرقده العدوي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن العلا قال: حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري، عن شريك بن عبد الله، عن المفضل بن حصين، عن


الصفحة 36

عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الأئمة بعدي اثنا عشر، ثم أخفى صوته فسمعته يقول: كلهم من قريش.

قال أبو المفضل: هذا غريب لا أعرفه إلا عن الحسن بن علي بن زكريا البصري بهذا الإسناد، وكتبت عنه ببجارا يوم الأربعاء، وكان يوم العاشور، وكان من أصحاب الحديث إلا أنه كان ثقة في الحديث. انتهى.

الثانية: لا يصح الوعد الإلَهي بقيادة مجهولة!

إن الوعد النبوي بالإثني عشر من بعده، وعدٌ إلهيٌّ من لدن حكيمٍ خبير بأئمة بعد رسوله صلى الله عليه وآله، كما هي سنته تعالى في الأمم السابقة، ورحمةٌ بهذه الأمة لحل

أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها على الإطلاق!

فهل تقبل عقولنا أن الله تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله بأن يدل أمته على قادة مجهولين؟!

نحن نرى أن الله تعالى قد وعد الأمم السابقة على لسان عيسى عليه السلام برسولٍ يأتي من بعده بأكثر من خمس مئة سنة، ومع ذلك سماه باسمه فقال (يأتي من بعدي اسمه أحمد) صلى الله عليه وآله، فكيف يعقل أن يعد خاتمة الأمم على لسان نبيها بقادتها الربانيين (القيمين على الأمة) ثم لا يسمي أولهم على الأقل، ولا يسمي أسرتهم، بل يكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة متنازعة على الأمور الصغيرة التي هي أقل من السلطة ورئاسة الدولة بآلاف المرات؟!

إن التصديق بذلك يعني نسبة عدم الحكمة الى الله عز وجل، والى ساحة رسوله الحكيم المنزه صلى الله عليه وآله ! وهو أمرٌ لا يجرأ عليه مسلم، بل حتى مستشرقٌ منصف! !

نعم قد يكون من المصلحة في بعض الإخبارات النبوية أن يبدأ النبي صلى الله عليه وآله بإلقائها عامة تثير السؤال، حتى إذا سأله الناس عنها بيءَنها لهم، ليكون بيانها بعد سؤالهم أوقع لها في نفوسهم.. ولكن أين أسئلة المسلمين عن هؤلاء الأئمة، وأجوبة نبيهم صلى الله عليه وآله !

إنك لا تجدها إلا في مصادر أحاديث الشيعة!


الصفحة 37

الثالثة: من قريش، لكن من عترة النبي صلى الله عليه وآله

لو غضينا النظر عن كل االإشكالات على الحديث، وقبلنا أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وآله بصيغته التي صححوها في مصادرهم.. فهو إذن يقول: إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة، وإنهم من قريش.

ويأتي هنا السؤال: من أي قريش اختارهم الله تعالى؟

إن بطون قريش أو قبائلها أكثر من عشرين قبيلة.. وقد ثبت في صحاحهم أن الله تعالى اختار قريشاً من العرب، واختار هاشماً من قريش.. فهل يعقل بعد أن اختار الله تعالى معدن هاشم على غيره، أن يختار الأئمة الإثني عشر الوارثين لنبيه صلى الله عليه وآله القيمين على أمته، من معدن أقل فضلاً ودرجةً من بني هاشم؟! !

ـ ففي صحيح مسلم: 7|58

عن واثلة بن الأسقع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. انتهى.

ورواه الترمذي: 5|245 (هذا حديث حسن صحيح غريب) وقال عنه في ص 243 (هذا حديث حسن صحيح) ثم روى عدة أحاديث بمضمونه، منها:

عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يارسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض (والكبوة المزبلة!)

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً، وخيرهم بيتاً. هذا حديث حسن. وروى بعده نحوه بسند آخر، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. انتهى.

ـ وفي صحيح البخاري: 4|138

باب قول الله تعالى: واذ كر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. وإذ


الصفحة 38

قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة. إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين، الى قوله يرزق من يشاء بغير حساب. قال ابن عباس: وآل عمران: المؤمنون من آل ابراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، صلى الله عليه وسلم.

ـ وفي نهج البلاغة: 1|82: والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حِيزِنا، فكانوا كما قال الأول:

أدَمْتَ لعمري شُرْبَكَ المحضَ صابحاً

وأكلكَ بالزُّبد المقشَّرةَ البـُــجْرا

ونـحــن وهبناك العلاء ولم تكن

علياً، وحُطْنَا حولك الجرد والسمرا

ـ وفي صحيح البخاري: 5|6

عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة! ! انتهى.

ويطول لكلام لو أردنا أن نستعرض ما ورد من القرآن والسنة في اختيار الله تعالى لبني هاشم، واصطفائهم، وتفضيلهم، وحقهم على الأمة. وكل ذلك بسبب أن عترة النبي صلى الله عليه وآله منهم، لأنهم جوهرة معدن هاشم، بل جدهم وهم جوهرة كل بني آدم.

الرابعة: أحاديث النبي صلى الله عليه وآله تفسر حديث الإثني عشر

من المتفق عليه بين المسلمين أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً. بل ذلك أصلٌ عقلائي عند كل الأمم في تفسير نصوص أنبيائها، فإن أيءَ أمةٍ تجد نصاً عن نبيها بالبشارة باثني عشر إماماً من بعده، ولا تعرفهم من هم، تنظر في نصوصه وأقواله وأفعاله، لكي تعرف بواسطتها هؤلاء القادة المبشر بهم على لسانه!

وإذا نظرنا الى ما صدر عن نبينا الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله في حق عترته: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم عليهم السلام، مما اتفق عليه المسلمون، وحكموا بصحته.. لا يبقى عندنا شك في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم هو صلى الله عليه وآله في مناسبات


الصفحة 39

عديدة، وبين للأمة أن الله تعالى مدحهم في آياته، وطهرهم من الرجس تطهيراً، وأوجب على المسلمين مودتهم، وأن يصلوا عليهم معه في صلواتهم، وحرم عليهم الصدقة، وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة، وجعلهم وصيته في أمته، وسماهم مع كتاب الله الثقلين....

ولا يتسع المقام لبسط الكلام فيه، بل تكفي الإشارة الى ما هو

إن المتفق عليه بين المسلمين مما صدر في حقهم من النبي صلى الله عليه وآله من المديح والتعظيم، والتحذيرهم من مخالفتهم وظلمهم.. فيه عبرةٌ لمن كان له قلب، وكفايةٌ لمن ألقى السمع، وشهادةٌ لمن أراد الحجة من الله تعالى، والشهادة من رسوله صلى الله عليه وآله.

الخامسة: اثنا عشر إماماً واثنا عشر شهراً

ذكرت روايات الخطب الشريفة في حجة الوداع، أن النبي صلى الله عليه وآله ذكر الأئمة الإثني عشر، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض، وقرأ آية: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً.. ففي صحيح البخاري: 5|126:

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. انتهى. ورواه أيضاً في: 5|204، و: 6|235، وكذا أبو داود في: 1|435، وأحمد في: 5|37

ـ ورواه في مجمع الزوائد: 3|265، بصيغة أقرب الى أسلوب النبي صلى الله عليه وآله من رواية البخاري، جاء فيها (ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، ثم قرأ: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض...) انتهى.

وقد ذكر المفسرون والشراح السنيون أن قصده صلى الله عليه وآله إلغاء النسيء الذي ابتدعته العرب للأشهر الحرم، وأن وضع التوقيت والزمن قد رجع الى هيئته الأولى، فلا نسيء


الصفحة 40

بعد اليوم.. ولكنه تفسير غير مقنع، فإن نسيء العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك، حتى يرجع الزمن الى حالته الأولى بإلغاء النسيء!

كما أني لم أجد دليلاً على ارتباط استدارة الزمان بالنسىَ في كلامه صلى الله عليه وآله

ولا يبعد أن تكون استدارة الزمان موضوعاً مستقلاً عن النسيء.

وبما أن النبي صلى الله عليه وآله في مقام توديع أمته، وبيان مرحلة مابعده من الهدى والضلال، والعقائد والأحكام، وطريق الجنة والنار.. فقد يقصد بإخباره باستدارة الزمن: أن مرحلةً جديدة بدأت من ذلك اليوم فما بعده، من قوانين الهداية والإضلال الإلهي، ومعالم ذلك هم الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام، الذين ينسجم وجودهم مع نظام الإثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض.

ويؤيد ذلك: قداسة عدد الإثني عشر في القرآن، وأن النبي صلى الله عليه وآله طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً..

وأنه بشر الأمة بالأئمة الإثني عشر من بعده..

ويؤيده: أنه صلى الله عليه وآله أخبر الأمة بوجود أئمة مضلين من بعده، وشدد على التحذير منهم، وبين أن أخطرهم الإثنا عشر منافقاً من أصحابه!

فمقابل كل إمام هدىً إمامُ ضلالٍ، كما أن مقابل كل نبيٍّ عدوٌّ من المجرمين، يعمل لإضلال الناس! قال الله تعالى:

ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا.

يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا.

لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا.

وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا. الفرقان 27 ـ 31

ـ وفي صحيح مسلم: 8|122 ـ 123:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا


الصفحة 41

يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدبيلة، وأربعةٌ لم أحفظ ما قال شعبة فيهم!

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي ـ قال شعبة: وأحسبه قال حدثني حذيفة، وقال غندر: أراه قال في أمتي ـ اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانيةٌ منهم تكفيكهم الدبيلة، سراجٌ من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم.

حدثنا أبو الطفيل قال: كان بين رجلٍ من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟!

قال فقال له القوم: أخبره إذ سألك.

قال: كنا نُخْبَرُ أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. انتهى. ورواه أحمد في: 4|320، وغيرها، ورواه كثيرون.

والنتيجة: أنه لا يبعد أن يكون قصد النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر المسلمين بأن الله تعالى أقام الحياة البشرية من يوم خلق السماوات والأرض، وخلق الجنس البشري، على قانون الهداية والضلال بإتمام الحجة، وإمهال الناس ليعملوا بالهدى أو بالضلال.. فكان لا بد من وجود عنصري الهدى وعناصر الضلال معاً، كعنصري السلب والإيجاب في الطاقة، فألهم النفس البشرية فجورها وتقواها، وأنزل آدم الى الأرض ومعه إبليس، وبعث الأنبياء عليهم السلام ومع كل نبي عدو مضلٌّ أو أكثر، وجعل بعدهم أئمة ربانيين يهدون، وأئمة ضلال منافقين يضلون.. وعدد كل منهم في هذه الأمة اثنا عشر.. وأنه قد بدأت بهم دورةٌ جديدةٌ من الهدى والضلال، كما بدأت بآدم وإبليس.. ولذلك استدار الزمن كهيئته في أوله بانتهاء الفترة، ووضوح الحجة.

ويؤيد ذلك ما ورد من طريق أهل البيت عليهم السلام في تفسير آية (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً).


الصفحة 42

السادسة: راوي الحديث جابر السوائي

روت مصادر السنيين حديث الأئمة الإثني عشر عن عدة رواة، وهم عبد الله بن مسعود، وأبو جحيفة، وجابر بن سمرة السوائي، وهذا الأخير أهمهم، لأن الصحاح اعتمدت روايته، كما تقدم.

وهو جابر بن سمرة بن جنادة. وقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب: 2|35 (يقالين) في نسبه، فقال (يقال: ابن عمرو بن جندب بن حجير ابن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة السوائي. ويقال: من قبيلة عامر بن صعصعة).

ويؤيد هذا الشك أن الذهبي قال في ترجمته: 3|187 (وهو وأبوه من حلفاء زهرة) ولو كان من بني عامر بن صعصعة، لم يحتج أن يكون حليفاً!

وسمرة هذا من الطلقاء، فقد قال في تهذيب التهذيب: 4|206 (وقرأت: بخط الذهبي إنما مات في ولاية عبد الملك ابنه جابر، وأما سمرة فقديم. وذكر ابن سعد أنه أسلم عند الفتح، ولم أقف على من أرخ وفاته غير من تقدم). انتهى.

لكن البخاري قال في التاريخ الكبير: 4|177: إن لسمرة هذا صحبة. انتهى.

أما جابر ابنه فهو فرخُ طليقٍ، فقد كان صغيراً عند فتح مكة، لأنه توفي سنة 76، ولأنه يروي أن النبي صلى الله عليه وآله مسح على خد الصبيان المصلين وكان منهم (سير أعلام النبلاء: 3|187).

ولعل أباه سمرة توفي في حياة النبي صلى الله عليه وآله أو بعده بقليل، فعاش جابر في كنف خاله سعد بن أبي وقاص في المدينة، وقد روي أنه اشترك في فتح المدائن، ولعله كان شاباً حينذاك، ثم سكن الكوفة وابتنى بها داراً (أسد الغابة: 1|254).

وعلى هذا فيكون جابر في حجة الوداع صبياً صغيراً أو مراهقاً، ويكون الراوي الوحيد المعتمد في الصحاح لحديث أئمة هذه الأمة بعد نبيها.. هذا الصبي الطليق من حلفاء قريش!


الصفحة 43

فاعجب لشيوخ الأمة، وكبار الصحابة، حيث لم يكن عندهم ذكاء هذا الصبي الطليق، واهتمامه بمستقبل الأمة، وأئمتها الربانيين!

أو فاعجب للخلافة القرشية كيف سيطرت على مصادر الحديث النبوي عند السنيين، فلم تسمح بتدوين حديثٍ في الأئمة الإثني عشر، الذين بشر بهم نبي الأمة صلى الله عليه وآله إلا حديث هذا الصبي! !

السابعة: درجات الصحة التي أعطوها للأحاديث الثلاثة

في مصادر السنيين ثلاث صيغ لحديث الأئمة الإثني عشر، وثلاثة رواة:

وقد اتفقوا على تصحيح حديث جابر بن سمرة، وعلى تحسين حديث أبي جحيفة المشابه له، وبعضهم صححه. واختلفوا في تصحيح حديث ابن مسعود الذي يختلف عنهما، بحجة أن في سنده مجالد بن سعيد، الذي لم يوثقه إلا النسائي وبعض علماء الجرح والتعديل، وضعفه آخرون.

ولا بد أن نضيف الى رواة الحديث راويين آخرين هما: سمرة السوائي والد جابر وعمر بن الخطاب، لأن الروايات تقول إنه سألهما عن الكلمة الخفية فأخبراه بها.

بل لا بد أن نعد عمر بن الخطاب راوياً مستقلاً، كما تقدم في رواية كفاية الأثر..

واليك جانباً من كلماتهم في حديث ابن مسعود:

ـ قال في مجمع الزوائد: 5|190: باب الخلفاء الإثني عشر: عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبدالله وهو يقرئنا القرآن فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد مذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل. رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. انتهى.

ـ وقال الحاكم: 4|501، بعد رواية هذا الحديث: لا يسعني التسامح في هذا الكتاب عن الرواية عن مجالد وأقرانه، رحمهم الله. انتهى.


الصفحة 44

ـ ولكن ابن حجر حسنه فقال في الصواعق المحرقة|20 ح 3 فقال: وعن ابن مسعود بسند حسن.

وكذا السيوطي في تاريخ الخلفاء|10 حيث قال (وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود).

وكذا البوصيري كما نقل عنه في كنز العمال: 6|89 (رواه مسدد وابن راهويه وابن ابي شيبة وأبو يعلى وأحمد بسند حسن).

وقد روت مصادرهم حديث ابن مسعود مثل أحمد: 1|398 و 406،

وكنز العمال 6|89، عن طبقات ابن سعد وابن عساكر، وفي 12|32، عن أحمد، والطبراني، وابن حماد.. وغيرهم.

وإذا كانت علة رواية ابن مسعود عندهم وجود مجالد، فقد روته مصادرنا بسند ليس فيه مجالد، كما في كتاب الإختصاص للصدوق|233، وكفاية الأثر للخزاز|73، والغيبة للنعماني|106، وسيأتي بعض ذلك.

ولكن ذلك لا يشفع للحديث عند إخواننا السنيين ولا يجعله يستحق أكثر من لقب (حسن) ! بل يبدو أن هذه الدرجة من الصحة ثقيلة عليهم، لأن مشكلة هذا الحديث الأصلية عندهم أنه لم يذكر عبارة (كلهم من قريش) وأنه يفهم منه أن هؤلاء الأئمة الربانيين يجب أن يكونوا حكام الأمة بعد نبيها، ويضع علامة استفهام كبيرة على ماتم في السقيفة في غياب بني هاشم، وانشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله!!

الثامنة: تضارب متون الأحاديث الثلاثة

روت مصادر السنيين حديث جابر بن سمرة بصيغتين، وجاء حديث أبي جحيفة بإحداهما، وانفرد حديث ابن مسعود بصيغته.. فتكون الصيغ ثلاثاً:

الأولى:

مفادها أن هؤلاء الموعودين يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله، وأنهم من قريش. وهذا مضمون أكثر روايات ابن سمرة. وقد عرفت أن أنهم صححوا هذه الصيغة، وقد صححها الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1075.


الصفحة 45

الثانية:

أنهم يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وأنهم من قريش، وأن الإسلام لا يزال عزيزاً مدة حكمهم، ثم يضعف ويذل، أو ينهار. وهي صيغة عدد من روايات جابر بن سمرة، وكل روايات أبي جحيفة أيضاً. وقد صححها كثير من علمائهم، ومنهم الألباني في سلسلته أيضاً برقم 376، عن ابن سمرة، وحسن رواية أبي جحيفة، وجعل رواية ابن مسعود شاهداً على صحتهما، ورد زيادة أبي داود وغيره التي تصف هؤلاء الأئمة بأن الأمة تجتمع عليهم، ووصف هذه الزيادة بأنها منكرة.

الثالثة:

أنهم يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله كأوصياء موسى وعيسى عليهم السلام بدون ذكر قريش. وهي صيغة أكثر روايات حديث ابن مسعود.

وأهم ملاحظة على هذه الأحاديث وصيغها: تفاوتها واضطرابها، وهو أمر غير مقبول في حديث من هذا النوع.. فإنا لو وجدنا نصاً شبيهاً به يروونه عن شيخ قبيلة صغيرة، قاله لقبيلته وهو يودعها قبل موته، ويخبرها بفراسته عن شيوخها الذين سيحكمونها من بعده.. لقلنا بوقوع تحريفٍ في كلامه!

فكيف نقبل بذلك لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسيد البلغاء، وهو يودع خاتمة الأمم، ويخبرها عن ربه بأئمتها من بعده، وعلى أوسع ملأٍ من جماهيرها! !

وتتوجه التهمة بالدرجة الأولى الى احتمال تحريف هوية هؤلاء الأئمة، والمتهم به هو السلطة التي حكمت بعد النبي صلى الله عليه وآله لأنها هي المستفيدة من ذلك، وهي التي أبعدت أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله عن الحكم، بل بادرت الى بيعة السقيفة بدون أن تخبرهم، مغتنمةً انشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله!!

ويتأكد الشك عندما نجد أن التفاوت والتعارض، قد تركز على صفة هؤلاء الأئمة الموعودين، ومقامهم الإلهي، وهويتهم، ونسبهم، ووقتهم، ومدتهم!

وهو تعارض ليس قليلاً قابلاً للحل، لأنه موجودٌ حتى في الصيغ والألفاظ المنقولة عن الراوي الواحد!


الصفحة 46

وهو أمرٌ يوجب تضعيف الثقة بصيغ الحديث في مصادر السنة، ويقوي الثقة بصيغه المتوافقة، المجمع على مضمونها، الواردة في مصادرنا، والتي تقول إنه صلى الله عليه وآله قال إنهم عليٌّ والحسن والحسين، وتسعةٌ من ذرية الحسين عليهم السلام

التاسعة: الأئمة الإثنا عشر لا يحتاجون الى اختيار ولا بيعة

وهو أمرٌ واضح، فما دام الله تعالى قد اختارهم، فواجب الأمة أن تطيعهم (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) فهم يستمدون شرعيتهم من رب الأمة، ورب الناس ومالكهم، وهو الحكيم الخبير بما يصلح عباده.. واختياره للناس أفضل من اختيارهم لأنفسهم، وألزم.

فالأئمة الإثنا عشر من هذه الناحية مفروض الطاعة من الله تعالى شبيهاً بالأنبياء عليهم السلام، والنبي لا يكون بالإنتخاب، ولا يحتاج الى أن يبايعه الناس.. بل لو لم يبايعه أحد من الناس، وآذوه وقتلوه.. فإن ذلك لا ينقص من وجوب طاعته شيئاً!

ولو بايعه كل الناس لكان معناه اعترافهم بحق الطاعة الذي جعله الله له، وإعلان التزامهم به، لا أكثر.

فبيعة الناس للأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام إنما هي بيعة اعترافٍ والتزامٍ بحقهم في الإطاعة، وهي تؤكد هذا الحق، ولا تنشئه.

وهذا هو السبب في أن النبي صلى الله عليه وآله كان يأخذ البيعة على المسلمين في المنعطفات الهامة في حياة الأمة، ليؤكد بذلك عليهم الإلتزام بإطاعته في السراء والضراء، والحرب والسلم، وفيما أحبوه أو كرهوه!

وهذا هو السبب نفسه في أن النبي صلى الله عليه وآله بعد أن بلَّغ الأمة ولاية علي عليه السلام في غدير خم، أمر بأن تنصب له خيمة وأن يهنئه المسلمون بولايته التي أمر الله تعالى بها.. أن يهنئوه تهنئةً، ثم يبايعوه..


الصفحة 47

فالإختيار الإلَهي قد تمَّ، وهو يحتاج الى قبولٍ وتهنئةٍ، ولا يحتاج الى مشورتهم ولا الى بيعتهم، لكن لو طلبها النبي صلى الله عليه وآله منهم وجبت عليهم.. ولو طلبها عليٌّ عليه السلام منهم، وجبت عليهم أيضاً.

ولهذا لا تنفع مناقشة المناقشين بأن ما طلبه النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين في الغدير كان مجرد التهنئة لعلي عليه السلام بالولاية، ولم يكن البيعة.. لأن صدور الأمر الإلهي بولايته يُفْرِغ البيعة البشرية من القوة الإنشائية، ويحصر قيمتها في الإعتراف والإلتزام بالأمر الإلهي، كلما طلبها منهم النبي صلى الله عليه وآله أو الولي عليه السلام.

والقاعدة الكلية في هذا الموضوع: أن الأمة إنما تملك الولاية على نفسها واختيار حكامها ـ في حدود ماثبت في الشريعة المقدسة ـ في حالة عدم اختيار الله تعالى لأحد.. أما إذا اختار عز وجل إماماً فقد قضي الأمر، ولم يبق معنىً لاختيار الأمة لحاكم آخر، إلا أنها تتفلسف في مقابل ربها عز وجل، وتخالف اختيار مالكها الحكيم سبحانه..

العاشرة: قرشية الحديث ألقاها عمر في البحر

ومما ينبغي تسجيله هنا: أن الذي رفع راية (أن الخليفة من قريش والخلافة لا تكون إلا في قريش) هو الخليفة عمر بن الخطاب، فقد احتج على الأنصار في السقيفة بأن قريشاً قوم النبي صلى الله عليه وآله وقبيلته فهم أحق بسلطانه! وكان هدفه من ذلك تسكيت الأنصار، الذين يعيش القرشيون في بلدهم وضيافتهم، حتى لا يقولوا نحن نصرناه ونحن أولى بخلافته! !

وقد نجح عمر بهذا المنطق القبلي في السقيفة، بسبب تفرق كلمة الأنصار، رغم مخالفة رئيسهم سعد بن عبادة مخالفةً عنيفة.

ولكن عمر نفسه عند وفاته تخلى عن مبدأ قرشية الخليفة، وألقى به في البحر، وأكد أنه لو كان سالم الفارسي مولى أبي حذيفة الأموي حياً، لعهد اليه بالخلافة! !


الصفحة 48
ـ ففي تاريخ المدينة: 3|140:

عن عبد الله بن بريدة: لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له: لو استخلفت؟ قال: لو شهدني أحد رجلين استخلفته ـ أني قد اجتهدت ولم آثم ـ أو وضعتها موضعها: أبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة! !

ـ وفي مجمع الزوائد: 4|220

عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب كان مستنداً الى ابن عباس وعنده ابن عمر وسعيد بن زيد فقال: إعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئاً، ولم أستخلف من بعدي أحداً، وأنه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله عز وجل.

فقال سعيد بن زيد: أما إنك لو أشرت برجل من المسلمين لائتمنك الناس، وقد فعل ذلك أبو بكر، وائتمنه الناس.

فقال عمر: قد رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً، وإني جاعلٌ هذا الأمر الى هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

ثم قال: لو أدركني أحد رجلين، ثم جعلت هذا الأمر اليه لوثقت: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح. انتهى.

وبذلك فتح عمر الباب لأبي حنيفة وغيره، لكي يلغوا هذا الشرط من الخلافة الإسلامية، وقد استفاد من فتواه السلاجقة والمماليك، ثم تبنى العثمانيون مذهب أبي حنيفة، ونشروا فقهه بسبب فتواه هذه، وتسموا خلفاء النبي صلى الله عليه وآله.

موقف الوهابيين من شرط القرشية في الحاكم

نشترط نحن الشيعة الإمامية في الأئمة أن يكونوا من قريش من عترة النبي صلى الله عليه وآله بسبب ثبوت النص عليهم بأسمائهم وعددهم، فالإمامة عندنا لا تثبت إلا بالنص فقط، والنص إنما هو على هؤلاء الإثني عشر عليهم السلام.

وبما أن خاتمهم الإمام المهدي عليه السلام غائب، فالحكم في الأمة في عصرنا يكون


الصفحة 49

بالوكالة عنه، والوكيل لا بد أن تتوفر فيه شروط الفقاهة والعدالة وغيرها.. ولا نشترط فيه أن يكون قرشياً.. وبذلك نلتقي عملياً لا نظرياً مع الذين يسقطون شرط القرشية في الحاكم العادل.

أما إخواننا الشيعة الزيديون، فالإمامة عندهم غير محصورة بالائمة الإثني عشر عليهم السلام بل هي مفتوحةٌ لكل عالم من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام، فهم يشترطون في الإمام الشرعي أن يكون قرشياً علوياً.

وأما المسلمون السنيون، فمنهم من يوافقنا على إسقاط شرط القرشية في عصرنا، عملاً بقول الخليفة عمر، وفتوى أبي حنيفة..

ومنهم غير عربٍ ولكنهم متعصبون لقريش أكثر من عمر، وملكيون أكثر من الملك.. ومن هؤلاء أئمة الوهابية، مثل الألباني، حيث صحح حديث اشتراط القرشية في الإمام في سلسلة أحاديثه الصحيحة برقم 1552، وقال في آخره 4|70:

ولذلك فعلى المسلمين إذا كانو صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية، أن يتوبوا الى ربهم ويرجعوا الى دينهم، ويتبعوا أحكام شريعتهم، ومن ذلك أن الخلافة في قريش، بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه.

أما في: 3|7، فقد صحح حديث الخلافة في قريش برقم 1006، وقال في آخره: قلت: وفي هذه الأحاديث الصحيحة ردٌّ صريحٌ على بعض الفرق الضالة قديماً، وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً، الذين لا يشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً.

وأعجب من ذلك أن يؤلف أحد المشايخ المدعين للسلفية رسالة في (الدولة الإسلامية) ذكر في أولها الشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة، إلا هذا الشرط، متجاهلاً كل هذه الأحاديث وغيرها مما في معناها، ولمَّا ذكرته بذلك تبسم صارفاً النظر عن البحث في الموضوع. ولا أدري أكان ذلك لأنه لا يرى هذا الشرط كالذين أشرنا إليهم آنفاً، أم أنه كان غير مستعد للبحث من الناحية العلمية.


الصفحة 50

وسواءً كان هذا أو ذاك، فالواجب على كل مؤلف أن يتجرد للحق في كل ما يكتب، وأن لا يتأثر فيه باتجاه حزبي أو تيار سياسي، ولا يلتزم في ذلك موافقة الجمهور أو مخالفتهم. انتهى.

والطريف أن الألباني صحح حديثاً آخر برقم 1851 يقول:

(الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة) وعلى فتواه يجب أن يكون الحاكم في عصرنا من قريش من أيِّ قبائلها كان، وأن يكون الوزراء من الأنصار.. وأن يكون وزير الإرشاد والأوقاف والمفتي وكل من عمله الإعلام والدعوة من الأفارقة، والأحوط أن يكون من أثيوبيا!!

ذلك أن الوجوب الذي استفاده من الحديث وأفتى به بوجوب القرشية في الحاكم، تتساوى فيه الخلافة، والوزارة، والدعوة!!

لقد فات هذا الشيخ أن فقه الحديث أهم من سنده، وأنه متقدمٌ عليه رتبةً، وأن مثل هذا الحديث بعيدٌ عن منطق النبي صلى الله عليه وآله، ولو صح فهو يحكي عن ظرفٍ معين، وليس تشريعاً الى يوم القيامة!

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net