متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
< متابعة >
الكتاب : آيات الغدير    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

الحادية عشرة: تخبط الشراح في تفسير الأئمة الإثني عشر

إذا أردنا أن نكون أمناء مع النص النبوي، يلزم أن نقول: إن كلمة (من بعدي) في الحديث الشريف تدل على أن إمامة هؤلاء الإثني عشر تبدأ بعد وفاته صلى الله عليه وآله مباشرة، ولا تدل على أنهم سيحكمون من بعده، لأنها إخبارٌ عن وجودهم فقط، سواءً كانوا حكاماً أو محكومين. بل تدل صيغ الحديث المتقدمة عن ابن سمرة وابن مسعود، على أن الأمة تخذل هؤلاء الأئمة الإثني عشر وتعاديهم، وذلك يشمل إبعادهم عن الحكم، ولكنه ذلك لا يضرهم شيئاً.

وقد تقدم في رواية تفسير الطبري (يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً، لا يضرهم من خذلهم... إثنا عشر قيماً من قريش لا يضرهم عداوة من عاداهم)


الصفحة 51

وبذلك لا تجد مانعاً من انطباق الحديث على الأئمة الإثني عشر من عترة النبي صلى الله عليه وآله حتى لو لم يحكموا، أو لم يحكم منهم إلا علي والحسن عليهما السلام، وسيحكم منهم المهدي الموعود من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله.

كما أن الأحاديث التي تذكر مايكون بعدهم تدل على أن مدتهم طويلة، فبعضها ذكر أنه يكون بعدهم الهرج والفوضى والنفاق، وأشار الى انهيار الأمة.. وبعضها ذكر أن زمنهم يمتد مادامت الأرض، وأن مدتهم إذا تمت ساخت الأرض بأهلها.. وهذا يؤيد نظرية امتداد عصر هؤلاء الأئمة عليهم السلام الى آخر الدنيا، كما نصت أحاديثنا.

ـ قال أبو الصلاح الحلبي المتوفى سنة 437 في كتابه تقريب المعارف|173:

ورووا عن عبد الله بن أبي أمية مولى مجاشع، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يزال هذا الدين قائماً الى اثني عشر من قريش، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها. انتهى. ونحوه في إعلام الورى|364، وهو موافق لما في مصادرنا عن أهمية وجود الحجة لله تعالى في أرضه في كل عصر..

ـ ففي الكافي: 1|179 و 534

عن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني واثنا عشر من ولدي وأنت يا علي زرُّ الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الإثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها، ولم ينظروا. انتهى.

وعلى هذا التفسير الذي يساعد عليه نص الحديث، يكون هدف النبي صلى الله عليه وآله من طرح الأئمة الإثني عشر في أهم تجمع للمسلمين في حجة الوداع، هو: توجيه الأمة اليهم لو أنها أخذت بحظها وأطاعته فيهم !

بل يمكن القول: إنه يتعين تفسير الحديث بالائمة الإثني عشر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، لأن كل تفسير له بغيرهم لا يصح لكثرة الإشكالات التي ترد عليه.


الصفحة 52

ـ قال الكنجي الشافعي في ينابيع المودة|446

قال بعض المحققين: إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة... فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان، علم أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم من غير بني هاشم، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال كلهم من بني هاشم في رواية عبد الملك، عن جابر، وإخفاء صوته صلى الله عليه وآله في هذا القول يرجح هذه الرواية، لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم.

ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية، لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلة رعايتهم الآية: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، وحديث الكساء.

فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الإثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم، وأعلاهم نسباً، وأفضلهم حسباً، وأكرمهم عند الله....

ويؤيد هذا المعنى، أي أن مراد النبي صلى الله عليه وآله الأئمة الإثني عشر من أهل بيته، ويشهد له ويرجحه: حديث الثقلين، والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب، وغيرها....

وفي نهج البلاغة من خطبته على كرم الله وجهه: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم.. بنا يستعطى الهدى، وبنا يستجلى العمى.

وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وآله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر.


الصفحة 53

واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن عملهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه، وهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق. انتهى.

***

ولكن عامة الشراح السنيين لا يقبلون هذا التفسير، ويحذرون أتباعهم من أن يقنعهم الشيعة بأن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على الأئمة الإثني عشر من عترته !!

ويقولون لأتباعهم: إن حديث الأئمة الإثني عشر صحيحٌ مئة بالمئة، لكن لا تقبلوا تفسير الشيعة، ونحن إن شاء الله نفسره لكم تفسيراً صحيحاً..

ولكنهم الى يومنا هذا لم يستطيعوا أن يقدموا لهم تفسيراً مقنعاً للحديث، ولن يستطيعوا.. لأنهم يريدون تطبيق هؤلاء الإثني عشر على الخلفاء الذين حكموا بعد النبي صلى الله عليه وآله من الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن الزبير، وسلسلة خلفاء بني سفيان وبني مروان، ثم بني العباس.. وربما غيرهم من أمويي الأندلس، والسلاجقة، والمماليك، والأتراك !!

وعندما يجدونهم أضعاف العدد المطلوب، يلجؤون الى الفرضيات، فيختارون أحسن الخلفاء الأمويين، والعباسيين ويخلعون عليهم صفة الأئمة الربانيين، فيثبتون هذا ويحذفون ذاك! اختياراً وحذفاً (كيفياً) لمجرد تكميل العدد!

وبعضهم لا يكمل معه العدد ممن اختارهم فيقول: إن الباقين سوف يأتون!

ومن الواضح أنها تطبيقاتٌ لا تقف عند حد، ولا تستند الى أساس، وأن الذي يسلكها يكلف نفسه شططاً، كمن يكلف نفسه بأن يختار اثني عشر شخصاً من رؤساء المسلمين وملوكهم المعاصرين، ويقول عنهم إنهم قادةٌ ربانيون اختارهم الله تعالى، ووعد الأمة بهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله !


الصفحة 54

ولو أن العلماء السنيين فكروا أكثر لما جشموا أنفسهم هذه العقبة:

أولاً:

لأن هؤلاء الأئمة الربانيين الموعودين مختارون من الله تعالى، فلا بد أن يكونوا متفقين، لأنهم جميعاً على خط واحد وهدى من ربهم ونبيهم.

بينما خلفاء السنيين وأئمتهم مختلفون متقاتلون..

فهل سمعتم بالحرب والقتال بين الأنبياء عليهم السلام حتى تقنعونا بإمكانها بين الأئمة الربانيين عليهم السلام وأن بعضهم يكيد للآخر ويفسقه ويكفره، ويذبحه ذبح الخروف، أو يسمل عينيه ويقطع لسانه ويديه ورجليه !!

وثانياً:

لأنهم بإعطاء صفة الإمام من الله تعالى للخليفة الذي يحبونه، ابتداءً من الخليفة عمر بن الخطاب.. الى السلطان سليم العثماني، يصيرون ملكيين أكثر من الملك، وخليفيين أكثر من الخليفة، ويثبتون لهم ما لم يدعه أحد منهم لنفسه!

فلو كان أحدهم إماماً ربانياً مختاراً من الله تعالى مبشراً به من رسوله.. لعرف نفسه وادعى هو ذلك! حيث لا يمكن أن يكون شخص إماماً وحجة لله على عباده وحاكماً باسمه.. ثم لا يعرف هو نفسه مقامه الإلَهي العظيم !!

ولا نجد أحداً من هؤلاء الخلفاء ادعى أنه إمامٌ من الله تعالى غير الأئمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله.

وثالثاً:

ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وآله قال إنهم يكونون من بعده، ولم يقل إنهم يحكمون.. فلماذا يلزمون أنفسهم بالعثور على الأئمة الإثني عشر الموعودين في الحكام فقط.. وإذا ألزم الباحث نفسه في مسألة بما لا يلزم فيها، فقد تورط فيها وأقام في ورطته!

ورابعاً:

إن الذين يعدونهم أئمة ربانيين، مبشراً بهم من رب العالمين، قد ثبت أن أكثرهم قد لعنهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله !!

فهل رأيتم أمةً يحكمها بأمر الله تعالى الملعونون على لسان نبيها؟ !!

وكيف يلعن الله تعالى أشخاصاً ويحكم عليهم بالطرد من رحمته لخبثهم، ثم يختارهم أو يختار من أولادهم أئمةً ربانيين، هداةً لعباده، وحكاماً لبلاده !!


الصفحة 55

فقد ثبت في مصادر السنيين أن النبي صلى الله عليه وآله قد لعن الحكم وابنه مروان، ونفاهما من المدينة حتى أعادهما عثمان، وأنه رأى أبا سفيان راكباً على جمل يجره معاوية ويقوده ولده الآخر، فلعن الراكب والقائد والسائق (راجع مجمع الزوائد: 1|113) الى آخر هذا البحث الذي لا يتسع له موضوعنا، ولا تتسع له صدور أتباع الأمويين !

***

ولهذه الأسباب كثرت أقوالهم واحتمالاتهم في تفسير الأئمة المبشر بهم، ولعلها زادت عن الثلاثين قولاً..! وكلها معلولة ينقضها الحديث الشريف، وينقض بعضها بعضاً:

ـ ولعل أقدمها قول ابن حبان الذي نقله عنه في عون المعبود في شرح سنن أبي داود: 11| 361، قال:

وأما: الخلفاء اثنا عشر، فقد قال جماعة منهم أبو حاتم بن حبان وغيره: إن آخرهم عمر بن عبد العزيز، فذكروا الخلفاء الأربعة، ثم معاوية، ثم يزيد ابنه، ثم معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم عبد الملك ابنه، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن العزيز. وكانت وفاته على رأس المائة. انتهى.

ولكن هذا التفسير الأموي لابن حبان وجماعته، قد نسخه العلماء الذين جاؤوا من بعدهم وأحبوا العباسيين، فأدخلوا بعضهم في بشارة النبي صلى الله عليه وآله، وخذفوا بني أمية، كلاً أو بعضاً !

ويلاحظ أن هذا التفسير حذف اسم الإمام المهدي عليه السلام مع أنه مبشرٌ به بأحاديث صحيحة عندهم، ويشمله قول جده صلى الله عليه وآله (من بعدي اثنا عشر إماماً).

كما حذفوا اسم الإمام الحسن عليه السلام مع أنه بايعه المسلمون ماعدا أهل الشام وحكم ستة أشهر، وقد أثبته السنييون المتأخرون عنهم.

بل كان يجب أن يثبتوا اسمه واسم أخيه الحسين عليهما السلام لأن النبي صلى الله عليه وآله شهد بأنهما إمامان قاما أم قعدا، وشهد بأنهما سيدا شباب أهل الجنة. 


الصفحة 56

بينما أثبت هذا التفسير اسم يزيد بن معاوية، وجعله من الأئمة الربانيين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله، وهي درجةٌ لا يطمع فيها يزيد ولا محبوه العقلاء، لأنهم الى اليوم يكافحون لإثبات إسلام يزيد، وعدم ارتداده بسبب تصريحاته، وعدم فسقه بسبب جرائمه التي ارتكبها في كربلاء، وفي استباحة المدينة، وفي هدم الكعبة !

كما عدوا منهم على هذا التفسير معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) الذي ولوه الخلافة بعد أبيه يزيد، فخطب خطبته الأولى والأخيرة، وتبرأ فيها من ظلم أبيه يزيد وجده معاوية! وشهد بأن الخلافة حقٌّ شرعي لعلي عليه السلام، وأن معاوية ظلمه وغصبها منه، ثم عزل نفسه عنها، فقتله بنو أمية!

فلو كان هذا الشخص من الأئمة الإثني عشر الربانيين لعرف هو ذلك، وما خلع نفسه وعرَّضها لغضب أسرته الحاكمة الباطشة !

كما أن هذا التفسير تجاهل حديث (سفينة) الثابت عندهم القائل إن الخلافة ثلاثون سنة، وبعدها الملك العضوض، وقد صححه المحدثون، وأخذ به المفسرون الآخرون.. الى آخر الإشكالات عليه !

ويطول الكلام لو أردنا أن نستقصي محاولات كبار علمائهم تفسير الحديث الشريف، ولكن الذي يسهل الأمر أن كلامهم في ذلك متشابه، وأنه ما زال الى اليوم يدور في محور التفسير الأموي !!

وفيما يلي نماذج من تفاسيرهم وما يرد عليها:

ـ قال السيوطي في تاريخ الخلفاء |10:

قال القاضي عياض: لعل المراد بالإثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس الى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة، زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم، الى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم.


الصفحة 57

قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري: كلام القاضي عياض أحسن ما

قيل في الحديث وأرجحه، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: كلهم يجتمع عليه الناس.

قلت: وعلى هذا فقد وجد من الإثنا عشر خليفة: الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية.

ويحتمل أن يضم اليهم المهتدي من العباسيين، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر، لما أوتيه من العدل، وبقي الإثنان المنتظران: أحدهما المهدي، لأنه من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.

***

ولكن السيوطي وابن حجر أخذا بزيادة (وكلهم تجتمع عليهم الأمة) التي تقدم أنها لم تثبت، وأن الألباني الوهابي وغيره قالوا إنها منكرة.

كما أنهما تجاوزا حديث سفينة الذي صح عندهم، والذي يحدد المدة الزمنية للخلافة الراشدة بثلاثين سنة! وبذلك يصير المطلوب لهم أحد عشر حاكماً في ثلاثين سنة، ويبطل انتقاء أحد من الحكام الأمويين والعباسيين !

مضافاً الى أن نقل السيوطي لكلام عياض وابن حجر لم يكن دقيقاً مع الأسف! فقد تجاهل كلام ابن حجر الذي عدهم الى الثاني عشر من بني أمية، فقال (والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك) بينما أوصلهم السيوطي في بني أمية الى ثمانية، ووضع فيهم اثنين من خلفاء بني العباس !!.. واليك فقرات من كلام ابن حجر في فتح الباري لتعرف الخلل في نقل السيوطي عنه! قال:

قال ابن بطال عن المهلب: لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث يعني بشىَ معين! فقوم قالوا: يكونون بتوالي إمارتهم.

وقوم قالوا: يكونون في زمن واحد كلهم يدعي الإمارة !


الصفحة 58

قال: والذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميراً !

قال: ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا، فلما أعراهم من الخبر، عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد. انتهى (أي كلام ابن بطال). وهو كلام من لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم، وهو كون الإسلام عزيزاً منيعاً.

وفي الرواية الأخرى صفة أخرى وهو أن كلهم يجتمع عليه الناس، كما وقع عند أبي داود، فإنه أخرج هذا الحديث من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه عن جابر بن سمرة بلفظ: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة. وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن الأسود بن سعيد عن جابر بن سمرة بلفظ: لا تضرهم عداوة من عاداهم.

وقد لخص القاضي عياض ذلك فقال: توجه على هذا العدد سؤالان:

أحدهما: أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سفينة، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه بن حبان وغيره: الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً. الثلاثون سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي.

والثاني: أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد.

قال والجواب عن الأول: أنه أراد في حديث سفينة: خلافة النبوة، ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلك.

وعن الثاني: أنه لم يقل لا يلي إلا اثنا عشر، وإنما قال يكون اثنا عشر، وقد ولي هذا العدد، ولا يمنع ذلك الزيادة عليهم.

قال: وهذا إن جعل اللفظ واقعاً على كل من ولي، وإلا فيحتمل أن يكون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل، وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة، ولا بد من تمام العدة قبل قيام الساعة.


الصفحة 59

وقد قيل: إنهم يكونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم يتسمى بالخلافة، ومعهم صاحب مصر، والعباسية ببغداد، الى من كان يدعى الخلافة في أقطار الأرض، من العلوية والخوارج.

قال: ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم: ستكون خلفاء فيكثرون.

قال: ويحتمل أن يكون المراد أن يكون الإثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة، ويؤيده قوله في بعض الطرق: كلهم تجتمع عليه الأمة، وهذا قد وجد فيما اجتمع عليه الناس الى أن أضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم الى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم. وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر.

قال: وقد يحتمل وجوهاً أخر.. والله أعلم بمراد نبيه. انتهى. (أي كلام عياض)

والإحتمال الذي قبل هذا، وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد كلهم يطلب الخلافة، هو الذي اختاره المهلب كما تقدم. وقد ذكرت وجه الرد عليه، ولو لم يرد إلا قوله كلهم يجتمع عليه الناس، فإن في وجودهم في عصر واحد يوجد عين الافتراق، فلا يصح أن يكون المراد.

ويؤيد ما وقع عند أبي داود: ما أخرجه أحمد والبزار من حديث بن مسعود بسند حسن، أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل.

وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث وتطلبت مظانه، وسألت عنه فلم أقع على المقصود به، لأن ألفاظه مختلفة، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة، ثم وقع لي فيه شيء وجدت الخطابي بعد ذلك قد أشار اليه، ثم وجدت كلاماً لأبي الحسين بن المنادي وكلاماً لغيره.


الصفحة 60

فأما الوجه الأول، فإنه أشار الى ما يكون بعده وبعد أصحابه، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنه أشار بذلك الى عدد الخلفاء من بني أمية، وكأن قوله: لا يزال الدين أي الولاية الى أن يلي اثنا عشر خليفة، ثم ينتقل الى صفة أخرى أشد من الأولى.

وأول بني أمية يزيد بن معاوية، وآخرهم مروان الحمار، وعدتهم ثلاثة عشر، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لكونهم صحابة! فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته، أو لأنه كان متغلباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير، صحت العدة.

وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة، حتى استقرت دولة بني العباس، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيراً بيناً.

قال: ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود من حديث بن مسعود رفعه: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً. (لا أعرف من صححه غير الألباني)

قلت: لكن يعكر عليه أن من استقرار الملك لبني أمية عند اجتماع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين، الى أن زالت دولة بني أمية فقتل مروان بن محمد في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، أزيد من تسعين سنة...

قال: وأما الوجه الثاني فقال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي: يحتمل في معنى حديث: يكون اثنا عشر خليفة، أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في كتاب دانيال: إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولده، فيتم بذلك اثنا عشر ملكاً، كل واحد منهم إمام مهدي.

قال ابن المنادي: وفي رواية أبي صالح عن بن عباس: المهدي اسمه محمد بن


الصفحة 61

عبد الله، وهو رجل ربعة مشرب بحمرة، يفرج الله به عن هذه الأمة كل كرب ويصرف بعدله كل جور، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلاً، ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين، وآخر من غيرهم، ثم يموت فيفسد الزمان.

وعن كعب الأحبار: يكون اثنا عشر مهدياً، ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال.

قال: والوجه الثالث: أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام الى يوم القيامة، يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم.

ويؤيده ما أخرجه مسدد في مسنده الكبير، من طريق أبي بحر أن أبا الجلد حدثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة. وعلى هذا فالمراد بقوله: ثم يكون الهرج، أي الفتن المؤذنه بقيام الساعة، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج الى أن تنقضي الدنيا. انتهى كلام بن الجوزي ملخصاً بزيادات يسيرة. (وتابع ابن حجر:)

والوجهان الأول والآخر قد اشتمل عليهما كلام القاضي عياض، فكأنه ما وقف عليه، بدليل أن في كلامه زيادة لم يشتمل عليها كلامه.

وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه، أرجحها الثالث من أوجه القاضي لتأييده

بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: كلهم يجتمع عليه الناس.

وإيضاح ذلك أن المراد بالإجتماع انقيادهم لبيعته. والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، الى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الإختلاف، الى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل بن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين. والثاني


الصفحة 62

عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، واجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على بن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان، ثم ثار على مروان بنو العباس، الى أن قتل.

ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح، ولم تطل مدته، مع كثرة من ثار عليه، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها الى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض، الى أن لم يبق من الخلافة إلا الإسم في بعض البلاد، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة. ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك.

فعلى هذا يكون المراد بقوله: ثم يكون الهرج، يعني القتل الناشيء عن الفتن وقوعاً فاشياً يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام، وكذا كان. والله المستعان.

والوجه الذي ذكره بن المنادي ليس بواضح، ويعكر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده رفعه: سيكون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمر القطحاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه. فهذا يرد على ما نقله بن المنادي من كتاب دانيال.

وأما ما ذكره عن أبي صالح فواهٍ جداً، وكذا عن كعب....

فالأولى أن يحمل قوله: يكون بعدي اثنا عشر خليفة، على حقيقة البعدية فإن


الصفحة 63

جميع من ولي الخلافة من الصديق الى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفساً، منهم اثنان لم تصح ولايتهما، ولم تطل مدتهما، وهما معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وتغيرت الأحوال بعده، وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون.

ولا يقدح في ذلك قوله: يجتمع عليهم الناس، لأنه يحمل على الأكثر الأغلب، لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير، مع صحة ولايتهما، والحكم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن، وبعد قتل بن الزبير. والله أعلم.

وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الإثني عشر منتظمة، وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك فهو بالنسبة الى الإستقامة نادر. والله أعلم.

وقد تكلم ابن حبان على معنى حديث تدور رحى الإسلام، فقال: المراد بقوله: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين، انتقال أمر الخلافة الى بني أمية وذلك أن قيام معاوية عن علي بصفين حتى وقع التحكيم، هو مبدأ مشاركة بني أمية ثم استمر الأمر في بني أمية من يومئذ سبعين سنة، فكان أول ماظهرت دعاة بني العباس بخراسان سنة ست ومائة، وساق ذلك بعبارة طويلة، عليه فيها مؤاخذات كثيرة، أولها دعواه أن قصة الحكمين كانت في أواخر سنة ست وثلاثين، وهو خلاف ما اتفق عليه أصحاب الأخبار، فإنها كانت بعد وقعة صفين بعدة أشهر، وكانت سنة سبع وثلاثين. والذي قدمته أولى بأن يحمل الحديث عليه. والله أعلم. انتهى.

***

وقد رأيت أن ما اختاره ابن حجر غير ما نسبه اليه السيوطي..

ورأيت تحيرهم جميعاً وكثرة احتمالاتهم، وتضاربها! وأن أكثرهم أخذوا زيادة


الصفحة 64

(تجتمع عليه الأمة) محوراً لتفسيرهم، مع أنها لم تثبت واستنكرها عدد منهم ورأيت أن القاضي عياض لم يجزم بشىَ، بل ذكر وجوهاً عديدة بكلمة قيل ويحتمل.. وأن ابن حجر رجح الإحتمال الثالث منها، فقال (وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجهٌ أرجحها الثالث من أوجه القاضي).

والنتيجة التي يخرج منها القارىء لتفاسيرهم: أنهم يضيعون عليه الحديث الذي أرادوا أن يفسروه، وهو حديث صحيحٌ عندهم صريحٌ بالبشارة النبوية باثني عشر إماماً ربانيين، هداةٍ مهديين، قيمين على الأمة، ولكنهم يصرون على تلبيس الحديث لحكام بني أمية، وعلى خلطه بزيادةٍ وأحاديث غير ثابتة، لا يستقيم لها معنى، ولا أثر فيها للبلاغة النبوية !!

***

وإذا أردت مزيداً من الأمثلة على ضياعهم فاقرأ عون المعبود 11|362 ـ 364:

قال: بعض المحققين: قد مضى منهم الخلفاء الأربعة، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة. وقيل: إنهم يكونون في زمانٍ واحد يفترق الناس عليهم.

وقال التوربشتي: السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعنى، أن يحمل على المقسطين منهم، فإنهم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء.

وإن قدر أنهم على الولاء، فإن المراد منه المسمون على المجاز! كذا في المرقاة.

وقال الشيخ الأجل ولي الله المحدث في قرة العينين في تفضيل الشيخين: وقد استشكل في حديث: لا يزال هذا الدين ظاهراً الى أن يبعث الله اثني عشر خليفةً كلهم من قريش، ووجه الإستشكال: أن هذا الحديث ناظرٌ الى مذهب الإثني عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماماً.

والأصل أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً، فقد ثبت من حديث عبد


الصفحة 65

الله بن مسعود: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة، أو ست وثلاثين سنة، أو سبع وثلاثين سنة، فإن يهلكوا فسبيل من قد هلك، وإن يقم لهم دينهم، يقيم سبعين سنة مما مضى.

وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث، ونحن نقول ما فهمناه على وجه التحقيق:

إن ابتداء هذه المدة من ابتداء الجهاد في السنة الثانية من الهجرة...!!

وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سنة خمس وثلاثين من ابتداء الجهاد وقعت حادثة قتل ذي النورين وتفرق المسلمين....

ولكن الله تعالى بعد ذلك جعل أمر الخلافة منتظماً، وأمضى الجهاد الى ظهور بني العباس، وتلاشي دولة بني أمية...

فتارةً أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خلافة النبوة، وخصصه بثلاثين سنة، والتي بعدهم عبرها بملكٍ عضوضٍ، وتارة عن خلافة النبوة، والتي تتصل بها كليهما معاً، وعبرها باثني عشر خليفة...

فالتحقيق في هذه المسألة: أن يُعتبروا بمعاوية وعبد الملك وبنيه الأربع (كذا) وعمر بن عبد العزيز، ووليد بن يزيد بن عبد الملك، بعد الخلفاء الأربعة الراشدين.

وقد نقل عن الإمام مالك أن عبد الله بن الزبير أحق بالخلافة من مخالفيه، ولنا فيه نظر، فإن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما قد ذكرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تسلط ابن الزبير واستحلال الحرم به مصيبةٌ من مصائب الأمة، أخرج حديثهما أحمد عن قيس بن أبي حازم قال: جاء ابن الزبير الى عمر بن الخطاب يستأذنه في الغزو، فقال عمر: أجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فرد ذلك عليه، فقال له عمر: في الثالثة أو التي تليها: أقعد في بيتك، والله إني لأجد بطرف المدينة منك وأصحابك أن تخرجوا فتفسدوا علي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الحاكم.


الصفحة 66

فمن لفظه بطرف المدينة، يفهم أن واقعة الجمل غير مراد ها هنا، بل المراد خروجه للخلافة، والى هذا المعنى قد أشار علي رضي الله عنه في قصة جواب الحسن رضي الله عنه، ولم ينتظم أمر الخلافة عليه.

ويزيد بن معاوية ساقطٌ من هذا البين، لعدم استقراره مدة يعتد بها، وسوء سيرته. والله أعلم. انتهى.

وأنت ترى أن صاحب قرة العينين اعترف بأن ملك بني أمية ملكٌ عضوضٌ، وأن خلافتهم ليست خلافة نبوة.. ومع ذلك فسر بهم الحديث، وطبق عليهم البشارة النبوية بالائمة الإثني عشر الربانيين القيمين بأمر الله تعالى على أمة نبيه !

كما ترى أنه حذف منهم الإمام الحسن والإمام المهدي عليهم السلام، وحذف ابن الزبير الذي أثبته الإمام مالك وآخرون... الخ. !

وهو مع ذلك ينتقد الذين غلطوا في تفسيره فيقول (وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث) ووعد الناس بأن يرفع المعضلة، ويحل المشكلة !!

ثم اقرأ ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية: 3|248:

ذكر الأخبار عن الأئمة الإثني عشر الذين كلهم من قريش. وليسوا بالإثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر بسرداب سامرا، وليس له وجودٌ ولا عين ولا أثر.

بل هؤلاء الأئمة الإثنا عشر المخبر عنهم في الحديث: الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الإثني عشر. انتهى.

ولعله يقصد بالقولين القول بتتابعهم زمنياً، وعدمه، ولكنهما وجهان في كل واحد منهما عددٌ من الأقوال.. وقد ذكر هو جملةً منها، ثم أشار ابن كثير الى


الصفحة 67

الإحتمالات، وركز منها على مناقشة البيهقي فقال: فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الإثني عشر المذكورين في هذا الحديث، هم المتتابعون الى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد، فإنه مسلكٌ فيه نظر، وبيان ذلك: أن الخلفاء الى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة:

الخلافة بعدي ثلاثون سنة. ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع، لأن علياً أوصى اليه وبايعه أهل العراق، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام، حتى اصطلح هو ومعاوية كما دل عليه حديث أبي بكرة، في صحيح البخاري. ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبةً على عدله وأن أيامه كانت من أعدل الأيام، حتى الرافضة يعترفون بذلك.

فإن قال: أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالب ولا ابنه، لأن الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما، وعدَّ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير، فإن الأمة لم تجتمع على واحد منهما.

فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عاداً للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد بن سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام، فهؤلاء عشرة، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، ولكن


الصفحة 68

هذا لا يمكن أن يسلك، لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر، وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة، بل والشيعة، ثم هو خلاف ما دل عليه نصاً حديث سفينة عن رسول الله أنه قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عضوضاً. وقد ذكر سفينة تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة، وقد بينا دخول خلافة الحسن، وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً، ثم صار الملك الى معاوية لما سلم الأمر اليه الحسن بن علي.

وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيان أن الخلافة قط انقطعت بعد الثلاثين سنة لا مطلقاً، بل انقطع تتابعها، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك، كما دل عليه حديث جابر بن سمرة.

وقال نعيم بن حماد: حدثنا راشد بن سعد، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حذيفة بن اليمان قال: يكون بعد عثمان اثنا عشر ملكاً من بني أمية، قيل له: خلفاء؟ قال: لا، بل ملوك.

وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة، عن أبي بحر قال: كان أبو الجلد جاراً لي، فسمعته يقول يحلف عليه: إن هذه الأمة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل البيت، أحدهما يعيش أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة.

ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الرد، وهذا عجيب منه !

وقد وافق أبا الجلد طائفةٌ من العلماء، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا.

وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: إن الله تعالى بشر ابراهيم بإسماعيل، وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً. انتهى.

ويقصد ابن كثير ما هو موجود في التوراة الفعلية ـ العهد القديم والجديد 1|25 ـ طبعة مجمع الكنائس الشرقية ـ في سفر التكوين، الإصحاح السابع عشر، قال:


الصفحة 69
18 ـ وقال ابراهيم لله ليت اسماعيل يعيش أمامك.

19 ـ فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه اسحق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً، لنسله من بعده.

20 ـ وأما اسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيراً جداً. اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة.

21 ـ ولكن عهدي أقيمه مع اسحق، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت، في السنة الآتية. انتهى.

وقد وردت ترجمتها عن كعب الأحبار (قيماً) وترجمها بعضهم (إماماً)..

فالنص موجودٌ في التوراة، وفي مصادر السنة، والشيعة، وهو مؤيدٌ لبشارة نبينا صلى الله عليه وآله، ولكنه لا يحل مشكلة المفسرين السنيين، بل يزيدها !

***

ومن أعقل هؤلاء الشراح وأكثرهم إنصافاً في هذا الموضوع: ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543، فقد اعترف في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي بأن تطبيق الحديث على هؤلاء يصل الى طريق مسدود، ورجح أن يكون الحديث ناقصاً لأن الموجود منه لا يفهم له معنى.. قال:

روى أبو عيسى عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش. صحيح.

فعددنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر أميراً فوجدنا: أبا بكر، عمر، عثمان، علي، الحسن، معاوية، يزيد، معاوية بن يزيد، مروان، عبد الملك، مروان بن محمد بن مروان، السفاح، المنصور، المهدي، الهادي، الرشيد، الامين،المأمون، المعتصم، الواثق، المتوكل، المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي، المعتضد، المكتفي، المقتدر، القاهر، الراضي، المتقي، المستكفي


الصفحة 70

المطيع، الطائع، القادر، القائم، المقتدي، أدركته سنة أربع وثمانين وأربعمائة وعهد الى المستظهر أحمد ابنه، وتوفي في المحرم سنة ست وثمانين، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل، وخرجت عنهم سنة خمس وتسعين.

وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة الى سليمان بن عبد الملك.

وإذا عددناهم بالمعنى، كان معنا منهم خمسة: الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز، ولم أعلم للحديث معنى، ولعله بعض حديث !! انتهى.

***

وقد اتضح أن المفسرين السنيين بذلوا كل جهدهم لتفسير هؤلاء الأئمة الإثني عشر الموعودين في التوراة على لسان ابراهيم، ثم على لسان نبينا صلى الله عليه وآله، على ملوك بني أمية، ولكنهم واجهوا ثلاثة مشاكل أساسية لا حل لها:

الأولى:

زيادة عدد هؤلاء (الخلفاء) الذين يعترفون بأنهم ليسوا خلفاء النبي صلى الله عليه وآله بل خلفاء الهواء! على الإثني عشر، الأمر الذي يدخلهم في بوابة الحذف والإثبات التي لا ضابط لها، ولا آخر !

والثانية:

أنهم يشعرون أن هذا الثوب الالَهي لايمكن إلباسه لجماعتهم.. وأنهم مهما دافعوا عن سيرة هؤلاء (الخلفاء غير الخلفاء) وتستروا على تاريخهم، ففيهم مفضوحون، لابد من الإعتراف بسوئهم، ولا يمكن أن يكون أحدهم إماماً ربانياً، وقيماً عظيماً على الأمة، موعوداً من الله تعالى على لسان أعظم الأنبياء عليهم السلام.

والثالثة:

أنهم بهذا التفسير يدعون لهؤلاء الملوك منصباً ربانياً لم يدعوه هم لأنفسهم! فيصيرون بذلك كمن يدعي نبوة لنبيٍّ، والنبي المزعوم ينكرها !!

وأخيراً، فقد نصح المفسرون السنيون أتباعهم أن لا يأخذوا بتفسير الشيعة، ووعدوهم بأن يفسروا لهم الحديث الشريف بأصح من تفسير الشيعة، وقد رأينا أنهم داروا في تفسيره كثيراً، وراوحوا مكانهم..


الصفحة 71

فمن حق السني أن يعود على بدء، ويسألهم عن تفسير حديث نبيه صلى الله عليه وآله الصحيح وبشارته القطعية باثني عشر إماماً، ربانياً، ملهماً، مميزاً بعلمه وشخصيته وسلوكه، قيماً من ربه على الأمة.. يكونون جميعاً على هدىً واحد، وخطٍ واحد..

ومن حقنا أن نقول لهم: إذا لم تفسروه، فاعذرونا أن نفسره بالأئمة من أهل بيت النبي وعترته الطاهرين صلى الله عليه وآله، وأولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي الموعود عليه السلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: بنا بدأ الله وبنا يختم.

تورط الشراح في حديث سفينة

سفينة مولى أم سلمة، وثقه علماء الجرح والتعديل السنيون، وروى عنه البخاري وغيره من أصحاب الصحاح حديثاً يتعلق بالموضوع وصححوه.

ـ قال الترمذي: 3|341

عن سعيد بن جمهان قال حدثني سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك (عضوضٌ).

ثم قال لي سفينة: أمسك عليك خلافة أبي بكر، ثم قال وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم قال أمسك خلافة علي، فوجدناها ثلاثين سنة.

قال سعيد: فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟

قال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوكٌ من شر الملوك.

وفي الباب عن عمر وعلي قالا: لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئاً . هذا حديث حسن، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان، لا نعرفه إلا من حديثه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 5|220، و221، بدون كلام سفينة عن ملوك بني أمية. وقال عنه الحاكم: 3|71 وقد أسندت هذه الروايات بإسناد صحيح مرفوعاً الى النبي 9. انتهى.

ـ ورواه ابن كثير في البداية والنهاية: 3|198 ثم روى بعده عن عبد الرحمن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خلافة نبوة ثلاثون عاماً، ثم


الصفحة 72

يؤتي الله ملكه من يشاء، فقال معاوية: رضينا بالملك!!. انتهى.

وإذا صح حديث سفينة فهو إخبارٌ نبويٌّ عن انحراف الأمة بعد الثلاثين سنة، وعدم شرعية الحكم فيها.

وبما أن عدد الحكام في هذه الفترة لم يزيدوا عن خمسة، فلا بد أن يكون الأئمة الإثنا عشر من غير الحاكمين، أو تكون تكملتهم من غيرهم !

فحديث سفينة يحكم بخطأ جعل الأئمة الإثني عشر من الحكام، كما هو واضح.

ولكن أكثر الشراح أشربوا في قلوبهم حب بني أمية، وارتكبوا كل تناقض لجعل ملكهم العضوض إمامةً ربانية، وجعل حكامهم المعروفين بسلوكهم وبطشهم، أئمةً ربانيين، مبشراً بهم على لسان رسول رب العالمين !!

والذي يزيدك اطمئناناً بما قلناه، أنهم قبلوا حديث سفينة (الخلافة ثلاثون سنة) وقد فسره راويه ونفى الخلافة عن بني أمية، وقال إنهم ملوكٌ شر ملوك!

ومع ذلك جعلوهم أئمة ربانيين، اختارهم الله تعالى لقيادة هذه الأمة !

ومنهم من حاول نفي تفسير سفينة وقال إنه زيادةٌ لم تثبت، مثل الألباني! وكذلك لم يثبت عندهم كل ما في تاريخ بني أمية من ظلمٍ عضوضٍ للناس !!

ـ قال العيني في عمدة القاري: 16|74

فإن قلت: يعارض حديث سفينة ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة: لا يزال هذا الدين قائماً ما كان اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، الحديث.

قلت: قيل إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، وأراد بهذا خلافة النبوة، ولم يرد أنه لا يوجد غيرهم.

وقيل: هذا الحديث فيه إشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلين من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء ، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة، ثم قد كان بعد ذلك خلفاء راشدون منهم عمر بن عبد العزيز، ومنهم المهتدي بأمر الله العباسي، ومنهم المهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان. انتهى.


الصفحة 73

فانظر الى هذا التصرف بالألفاظ من أجل مصلحة الأمويين، حيث جعل الخلافة الشرعية نوعين: خلافة نبوة وهي التي كانت لمدة ثلاثين سنة، وخلافةً شرعية ليست خلافة عن النبي صلى الله عليه وآله ! بل هي خلافةٌ عن بني تبعٍ وبني حِمْيءر مثلاً، وهي التي امتدت بعد الثلاثين، وهي التي بشر بها النبي صلى الله عليه وآله بقوله: اثنا عشر خليفة أو إماماً !!.

وقد تمسك الشراح المحبون لبني أمية بهذا الإبتكار وفرحوا به، لأنه يبقي لهم إمكانية التلاعب بالحديث، وتفسيره بأئمتهم الربانيين من بني أمية !!

ـ قال ابن كثير في البداية والنهاية: 3|198

فإن قيل: فما وجه الجمع بين حديث سفينة هذا، وبين حديث جابر بن سمرة، المتقدم في صحيح مسلم؟...

فالجواب: أن من الناس من قال: إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة ثم وقع تخبيطٌ بعدهم في زمان بني أمية.

وقال آخرون: بل هذا الحديث فيه بشارةٌ بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء (التتابع) وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة، ثم كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رضي الله عنه وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة، حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ليس قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز!

ومنهم من ذكر من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي.

والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت، واسمه محمد بن عبد الله، وليس بالمنتظر في سرداب سامرا، فإن ذاك ليس بموجود بالكلية، وإنما ينتظره الجهلة من الروافض. انتهى.

فترى أن ابن كثير لا جواب عنده على إشكال حديث سفينة، ولذلك قال: من الناس من قال.. وقال آخرون.. ومنهم من ذكر! وليته أكمل الرواية عن سفينة كما


الصفحة 74

وردت في مصادرهم!

أما مدحه لعمر بن عبد العزيز أو المهدي العباسي، فلا يصير دليلاً على أنه أحد الأئمة الربانيين المبشر بهم مهما كثر! وإلا لاستحق كل ممدوح مثلهما أن يكون منهم! فإن دخول أحدٍ في عداد أشخاصٍ بشر بهم أنبياء الله تعالى يحتاج الى دليل على أنه مقصودٌ بهذا النص، وأنه واحدٌ من هؤلاء الربانيين الذين أختارهم الله تعالى وأعطاهم مقاماً فوق مدح المادحين من البشر!

وأما تكراره اتهام الشيعة بانتظار ظهور المهدي من سرداب سامرا، من المكذوبات علينا، فنحن ننتظر ظهور المهدي عليه السلام من مكة كما ينتظره هو، وسرداب سامرا بيته وبيت أبيه وجده عليهم السلام، وهو مكانٌ مباركٌ، نصلي فيه ونتبرك به.

ـ وقال في هامش عون المعبود: 11|361

ذكر الشيخ ابن القيم رحمه الله... حديث: الخلافة بعد وثلاثون سنة، وحديث اثنا عشر خليفة، ثم قال: فإن قيل: فكيف الجمع؟

قيل: لا تعارض بين الحديثين، فإن الخلافة المقدرة بثلاثين سنة هي خلافة النبوة كما في حديث أبي بكرة. انتهى.

ولم يقل ابن قيم ولا غيره إذا لم تكن خلافة بني أمية خلافة نبوة فهي خلافة ماذا ياترى؟ ؟ وهل تبقى لها صفة إسلاميةٌ وربانية، بعد أن وصفها النبي صلى الله عليه وآله بأنها ملكٌ عضوضٌ، كما اعترف صاحب قرة العينين وغيره!

وهل يعني إقرارهم بأنها ملك عضوض، ونفيهم عنها صفة الخلافة الإسلامية، إلا أنها خلافةٌ جاهليةٌ عضوضة؟ فهل يتصور عاقلٌ أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله يبشران الأمة بأئمة جاهليين، يعضونها بظلمهم؟ !

ولو أن ابن حبان وابن حجر وابن قيم وصاحب قرة العينين وأمثالهم.. اكتفوا بتعصبهم لبني أمية، لكان خطبهم أسهل، ولكنهم مع الأسف أصروا على تسخير الأحاديث النبوية لنصرتهم، وتطبيق بشائر الأنبياء عليهم السلام على ملوكهم !!


الصفحة 75

ومن طريف عمل الألباني في الحديث، أنه صحح عدة أحاديث عن الإنحراف والأئمة المضلين، الذين سيحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله، ومنها حديث برقم 2982 (إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه!).

وحديث برقم 2864 (إنه سيلي أموركم من بعدي رجالٌ يطفئون السنة ويحدثون بدعة).

وحديث برقم 2865 (إني ممسكٌ بحجزتكم عن النار، وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب، ويوشك أن أرسل حجزتكم...) الخ.

وحديث برقم 1749 أول من يغير سنتي رجلٌ من بني أمية. وجعل هذا الحديث الأخير تحت عنوان من أعلام نبوته الغيبية، وقال بعده: ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة. والله أعلم.

وحديث برقم 744 (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دخلاً عباد الله خولاً ومال الله دولاً).

كما صحح حديث سفينة برقم 459، ولكنه جعله تحت عنوان: خلافة النبوة!

ومع كل هذه الأحاديث التي صححها، قال مدافعاً عن الأمويين: فلا ينافي مجىء خلفاء آخرين من بعدهم لأنهم ليسوا خلفاء النبوة. فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم! كما هو واضح !! ويزيده وضوحاً قول شيخ الإسلام في رسالته المذكورة: ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء، وإن كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء الأنبياء..الخ. انتهى.

فقد أفتى تبعاً لإمامه ابن تيمية، بأن الأئمة الإثني عشر المبشر بهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله القيمين على الأمة بتعيين رب العالمين هم.. معاوية ويزيد وبنو الحكم بن أبي العاص، الذين صحت فيهم أحاديث ذمٍّ قاصعة !!

وكأنه لا يعرف أنه بسبب غلوه في بني أمية يعطي الحجة على ربه سبحانه، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله !!


الصفحة 76

فماذا يقول إذا قال له مستشرقٌ مثلاً: إنكم أيها المسلمين تقولون إن ربكم مزاجي ونبيكم مزاجي أيضاً، لأنهما يلعنان أشخاصاً ويذمانهم ويتبرآن منهم.. ثم يتغير مزاجهما فيرضيان عنهم، ويعلنان للمسلمين: إنا نبشركم بهم وبأولادهم، إنهم صفوة البشر، أئمةٌ، ربانيون، معصومون، قيمون على الأمة !!

وهل دخل المستشرقون الخبثاء، وهل دخل سلمان رشدي وأمثاله، وطعنوا في الإسلام، إلا من أبواب أحاديث التعصب لقريش وبني أمية، وكعب الأحبار؟ !

الثانية عشرة: نماذج من أحاديثنا في الأئمة الإثني عشر عليهم السلام

ـ روى الصدوق في الخصال|466 ـ 467، حديث ابن مسعود المتقدم بعدة أسانيد فيها مجالد بن سعيد، وأسانيد أخرى ليس فيهما مجالد، قال:

حدثنا أبو علي أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال البغدادي قال: حدثنا محمد بن عبدوس الحراني قال: حدثنا عبدالغفار بن الحكم قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن مطرف، عن الشعبي، عن عمه قيس بن عبد قال: كنا جلوساً في حلقة فيها عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فقال: أيكم عبد الله بن مسعود؟

فقال عبد الله: أنا عبد الله بن مسعود.

قال: هل حدثكم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون بعده من الخلفاء؟

قال: نعم، اثنا عشر، عدد نقباء بني إسرائيل.

حدثنا أبو القاسم عتاب بن محمد الوراميني الحافظ قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل، ومحمد بن عبيد الله بن سوار قالا: حدثنا عبد الغفار بن الحكم قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن مطرف عن الشعبي.

قال: عتاب بن محمد: وحدثنا إسحاق بن محمد الأنماطي قال: حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير، عن أشعث بن سوار عن الشعبي. قال عتاب بن محمد: 


الصفحة 77

وحدثنا الحسين بن محمد الحراني قال: حدثنا أيوب بن محمد الوزان قال: حدثنا سعيد بن مسلمة قال: حدثنا أشعث بن سوار، عن الشعبي، كلهم قالوا عن عمه قيس بن عبد.

قال أبو القاسم عتاب: وهذا حديث مطرف قال: كنا جلوساً في المسجد، ومعنا عبد الله بن مسعود، فجاء أعرابي فقال: فيكم عبد الله؟

قال: نعم أنا عبد الله، فما حاجتك؟

قال: يا عبد الله أخبركم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون فيكم من خليفة؟

قال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ قدمت العراق، نعم، اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل.

قال: أبو عروبة في حديثه: نعم عدة نقباء بني إسرائيل. وقال جرير عن الأشعث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله قال: الخلفاء بعدي اثنا عشر، كعدد نقباء بني إسرائيل. انتهى. (ورواهما في كمال الدين وتمام النعمة|271، بنفس السند)

وأكبر عملٍ حديثي قام به قدماء علمائنا في هذا الموضوع، بل هو أجلُّ ما وجدته في الموضوع من الأعمال العلمية المقارنة، تأليف المحدث الخبير علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي، من علماء أوائل القرن الرابع وكتابه القيم (كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر) وقد ذكر منهجه في مقدمته فقال في ص 7:

أما بعد: فإن الذي دعاني الى جمع هذه الأخبار، عن الصحابة والعترة الأخيار، في النصوص على الأئمة الأبرار، أني وجدت قوماً من ضعفاء الشيعة ومتوسطيهم في العلم، متحيرين في ذلك ومتعجزين، يشكون فرط اعتراض المشبهة عليهم، وزمرات المعتزلة، تلبيساً وتمويهاً عاضدتهم عليه، حتى آل الأمر بهم الى أن جحدوا أمر النصوص عليهم، من جهةٍ لا يقطع بمثلها العذر، حتى أفرط بعضهم وزعم أن ليس لها من الصحابة أثر.... فلما رأيت ذلك كذلك، ألزمت نفسي الإستقصاء في هذا الباب موضحاً ما عندي من البينات، ومبطلاً ما أورده المخالفون من الشبهات، تحرياً لمرضاة الله، وتقرباً الى رسوله والأئمة من بعده.


الصفحة 78

وأبتدىء بذكر الروايات في النصوص عليهم من جهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله المعروفين مثل عبد الله بن العباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأبي أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن أسيد، وعمران بن الحصين، وسعد بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وأبي قتادة الأنصاري، وعلي بن أبي طالب، وابنيه الحسن والحسين عليهم السلام.

ومن النساء: أم سلمة، وعائشة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.

ثم أعقبه بذكر الأخبار التي وردت عن الأئمة صلوات الله عليهم، مما يوافق حديث الصحابة، في النصوص على الأئمة، ونص كل واحد منهم على الذي من بعده، ليعلموا إن أنصفوا ويدينوا به، ولا يكونوا كما قال الله سبحانة (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) إذ مثل هذه الأخبار تزيل الشك والريب، ويقطع بها العذر، وإن الأمر أوكد مما ذهبوا اليه. انتهى.

ثم عقد قدس الله نفسه باباً لما روي عن كل واحد من الصحابة الذين ذكرهم، وأورد فيه حديثه أو أحاديثه، بسند متصل منه اليه، الى رسول الله صلى الله عليه وآله، فحفظ بذلك عدداً من النصوص التي ضاعت في مصادر إخواننا السنيين، أو تشتتت في مصنفاتهم، أو بقي منها أجزاء مجزأة، وأحياناً بقي الحديث بكامله!

ونورد فيما يلي نماذج منها:

ـ قال في ص 23 في باب ما جاء عن عبد الله بن مسعود:

أخبرنا محمد بن عبد الله رحمه الله قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمارة الثقفي قال: حدثني أحمد بن عبدالجبار العطاردي قال: حدثنا محمد بن الحسان الضرير التومني قال: حدثنا علي بن محمد الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الكريم، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن حبش بن المعتمر، عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الأئمة بعدي اثنا عشر كلهم من قريش.


الصفحة 79

وهذا عبد الله بن مسعود روى عنه السائب، ومسروق، وقيس بن سعد، وحبش بن المعتمر.

أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني رحمه الله قال حدثنا أبو علي محمد بن زهير بن الفضل الأبلي قال: حدثنا أبو الحسين عمر بن الحسين بن علي بن رستم قال: حدثني ابراهيم بن يسار الرمادي قال: حدثني سفيان بن عتبة، عن عطا بن السائب، عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الأئمة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، والتاسع مهديهم.

وقال في ص 73 في باب ما جاء عن أنس بن مالك:

حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري قال: حدثنا محمد بن أحمد الصفواني قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحمصي قال: حدثنا بن حماد، عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حشر معنا، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى. فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟

قال: عدد نقباء بني اسرائيل.

فقال: كلهم من أهل بيتك؟

قال: كلهم من أهل بيتي، تسعة من صلب الحسين، والمهدي منهم.

وقال في ص 113 في باب ما جاء عن أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد:

أخبرنا أبو المفضل الشيباني قال: حدثني حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي قال: حدثنا محمد بن مسعود، عن يوسف بن السخت، عن سفيان الثوري، عن موسى بن عبيدة أياس بن مسلمة بن الأكوع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا سيد الأنبياء، وعلي سيد الأوصياء، وسبطاي خير الأسباط ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين، ومنا مهدي هذه الأمة.

فقام اليه أعرابي فقال: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟


الصفحة 80

قال: عدد الأسباط، وحواري عيسى، ونقباء بني إسرائيل.

وقال في ص 120 في باب ما جاء عن عمار بن ياسر:

أخبرنا محمد بن عبدالله بن المطلب الشيباني قال: حدثنا محمد بن الحسين بن حفص الحثعمي الكوفي قال: حدثنا عباد ابن يعقوب قال: حدثنا علي بن هاشم، عن محمد بن عبدالله، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار، عن أبيه، عن جده عمار قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض غزواته، وقتل علي عليه السلام أصحاب الألوية وفرق جمعهم، وقتل عمراً بن عبد الله الجمحمي، وقتل شيبة بن نافع، أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت له: يا رسول الله صلى الله عليك إن علياً قد جاهد في الله حق جهاده. فقال: لأنه مني وأنا منه، وارث علمي وقاضي ديني، ومنجز وعدي، والخليفة بعدي، ولولاه لم يعرف المؤمن المحض، حربه حربي وحربي حرب الله، وسلمه سلمي وسلمي سلم الله، ألا إنه أبو سبطيَّ، والائمه من صلبه، يخرج الله تعالى الأئمة الراشدين، ومنهم مهدي هذه الأمة.

فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا المهدي؟

قال: يا عمار إن الله تبارك وتعالى عهد اليَّ أنه يخرج من صلب الحسين تسعة، والتاسع من ولده يغيب عنهم، وذلك قوله عز وجل: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين، يكون له غيبة طويلة يرجع عنها قوم، ويثبت عليها آخرون، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، ويقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، وهو سميي، وأشبه الناس بي.

يا عمار ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه، فإنه مع الحق والحق معه. يا عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين: الناكثين والقاسطين ثم تقتلك الفئة الباغية.

قلت: يا رسول الله أليس ذلك على رضا الله ورضاك؟

قال: نعم على رضا الله ورضاي، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه.


الصفحة 81

فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر الى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أخا رسول الله، أتاذن لي في القتال؟

قال مهلاً رحمك الله، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله، فأعاد عليه ثالثاً فبكى أمير المؤمنين وقال: إنه اليوم الذي وصفه لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فنزل أمير المؤمنين عليه السلام عن بغلته وعانق عماراً وودعه، ثم قال:

يا أبا اليقظان جزاك الله عن الله وعن نبيك خيراً، فنعم الأخ كنت، ونعم الصاحب كنت. ثم بكى عليه السلام وبكى عمار.

ثم قال: والله يا أمير المؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم خيبر: يا عمار ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه، فإنه مع الحق والحق معه، وستقاتل الناكثين والقاسطين، فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء، فلقد أديت وأبلغت ونصحت.

ثم ركب وركب أمير المؤمنين عليه السلام ثم برز الى القتال، ثم دعا بشربةٍ من ماء فقيل له ما معنا ماء، فقام اليه رجل من الأنصار فأسقاه شربةً من لبن، فشربه ثم قال: هكذا عهد الي رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربةٌ من لبن.

ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفساً، فخرج اليه رجلان من أهل الشام فطعناه وقتل رحمه الله.

فلما كان في الليل طاف أمير المؤمنين عليه السلام في القتلي، فوجد عماراً ملقىً بين القتلى، فجعل رأسه على فخذه، ثم بكى عليه السلام وأنشأ يقول:

ألاأيـهـا الموت الـذي لست تاركي

أرحنـي فـقـد أفنـيت كل خـليلِ

أراك بصيراً بـالـذيـن أحـبـهـم

كـأنك تـمـضي نـحوهم بـدليلِ

ـ وقال في ص 180 في باب ما جاء عن أم سلمة:

حدثنا علي بن الحسن بن محمد بن مندة قال: حدثنا أبو الحسين زيد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخزاز بالكوفة في سنة سبع وسبعين وثلثمائة قال: حدثنا العباس بن العباس الجوهري ببغداد في دار عميرة قال: حدثني عفان بن مسلم قال:


الصفحة 82

حدثني حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن سداد بن أوس قال: لما كان يوم الجمل قلت: لا أكون مع علي ولا أكون عليه، وتوقفت عن القتال الى انتصاف النهار، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة، قالت: من أين أقبلت؟

قلت: من البصرة.

قالت: مع أي الفريقين كنت؟

قلت: يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال الى انتصاف النهار، وألقى الله عز و جل أن أقاتل مع علي.

قالت: نعم ما عملت، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من حارب علياً فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله.

قلت: فترين أن الحق مع علي؟

قالت: إي والله، عليٌّ مع الحق والحق معه، والله ما أنصف أمة محمد نبيهم، إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله، وأخروا من قدمه الله تعالى ورسوله! وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم، وأبرزوا حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله الى الفناء! والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لأمتي فرقة وجعلة، فجامعوها إذا اجتمعت، وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا، وإن سالموا فسالموا، وإن زالوا فزالو معهم، فإن الحق معهم حيث كانوا.

قلت: فمن أهل بيته؟

قالت: أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم؟

قالت: هم الأئمة بعده كما قال: عدد نقباء بني إسرائيل: علي وسبطاه، وتسعة من صلب الحسين، هم أهل بيته هم المطهرون، والأئمة المعصومون.

قلت: إنا لله هلك الناس إذاً؟ !.

قالت: كل حزب بما لديهم فرحون. انتهى.

***


الصفحة 83


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net