متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الوحي يوقف القافلة النبوية
الكتاب : آيات الغدير    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

الوحي يوقف القافلة النبوية

ورحل النبي صلى الله عليه وآله من مكة وهو ناوٍ أن يكون أول عمل يقوم به في المدينة إعلان ولاية عترته، كما أمره ربه تعالى.

لكن في اليوم الثالث من مسيره، عندما وصل الى كراع الغميم، وهو كما في مراصد الإطلاع: موضع بين مكة والمدينة، أمام عسفان بثمانية أميال.. جاءه جبرئيل عليه السلام لخمس ساعات مضت من النهار، وقال له: يامحمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك (ياأيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين).

فخاف النبي صلى الله عليه وآله وخشع لربه، وتَسَمَّرَ في مكانه، وأصدر أمره الى المسلمين بالتوقف، وكان أولهم قد وصل الى مشارف الجحفة، وكانت الجحفة بلدةً عامرةً على بعد ميلين أو أقل من كراع الغميم، ولكن النبي صلى الله عليه وآله أراد تنفيذ الأمر الإلَهي المشدد، فوراً في المكان الذي نزل فيه الوحي.. !


الصفحة 225

قال صلى الله عليه وآله للناس: أنيخوا ناقتي فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي.. وأمرهم أن يردوا من تقدم من المسلمين اليه، ويوقفوا من تأخر منهم حين يصلون اليه..

ونزل صلى الله عليه وآله عن ناقته، وكان جبرئيل الى جانبه، ينظر اليه نظرة الرضا، وهو يراه يرتجف من خشية ربه، وعيناه تدمعان خشوعاً وهو يقول: تهديدٌ.. ووعدٌ ووعيدٌ.. لأمضين في أمر الله، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبنى العقوبة الموجعة في الدنيا والآخرة!

وقبل أن يفارقه جبرئيل أشار اليه فنظر النبي صلى الله عليه وآله فإذا على يمينه دوحة أشجار، فودع جبرئيل ومال اليها، وحطَّ رحال النبوة عند غدير خُمٍّ.

قال بعض المسلمين: فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ينادي: أيها الناس أجيبوا داعي الله.. فأتيناه مسرعين في شدة الحر، فإذا هو واضعٌ بعض ثوبه على رأسه.

ونادى منادي النبي صلى الله عليه وآله في الناس بالصلاة جامعة، ووقت الصلاة لم يحن بعد ولكن حانت قبلها (صلاة) أخرى لا بد من أدائها قبل صلاة الظهر.

إنها فريضة ولاية عترته الطاهرة، ولا بد أن يبلغها عن ربه الى المسلمين مهما قال فيه قائلون، وقال فيهم قائلون.. فقد شدد عليه ربه في ذلك: وأفهمه أن مسألة عترته ليست مسألةً شخصيةً تخصه.. وأنك إن كنت تخشى الناس، فالله أحق أن تخشاه وسيعصمك منهم، فاصدع بما تؤمر!!

ونزل المسلمون حول نبيهم صلى الله عليه وآله، وكان ذلك اليوم قائظاً شديد الحر، فأمرهم أن يكسحوا تحت الأشجار لتكون مكاناً لخطبة الولاية، ثم للصلاة في ذلك الهجير، وأمرهم أن ينصبوا له أحجاراً كهيئة المنبر، ليشرف على الناس..

ورتب المسلمون المكان والمنبر، ووضعوا على أحجاره حدائج الإبل، فصار منصةً أكثر ارتفاعاً، وحسناً..


الصفحة 226

وورد المسلمون ماء الغدير فشربوا منه، واستقوا، وتوضؤوا.. وتجمعوا لاستماع الخطبة قبل الصلاة، ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير، وكانت ستَّ أشجارٍ كبيرة، فجلس كثير منهم في الشمس، أو استظل بظل ناقته..

عرف الجميع أن أمراً قد حدث، وأن النبي صلى الله عليه وآله سيخطب.. فقد نزل عليه وحيٌ أو حدث أمرٌ مهمٌ أوجب أن يوقفهم في هذا الهجير، ولا يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة العامرة، التي تبعد عنهم ميلين فقط!

كان مجموع المشاركين في حجة الوداع من مئة ألف الى مئة وعشرين ألفاً كما ذكرت الروايات، ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى.. أما بعد تمام الحج فقد توزعوا، فمنهم من أهل مكة وقد رجعوا اليها، ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها، وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما اليها..

والذين هم مع الرسول صلى الله عليه وآله عن طريق الجحفة والمدينة ألوفٌ كثيرةٌ أيضاً.. نحو عشرة آلاف.. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام مؤرخاً تضييع قريش لحادثة الغدير:

العجب مما لقي علي بن أبي طالب! إنه كان له عشرةُ آلافِ شاهدٍ ولم يقدر على أخذ حقه، والرجل يأخذ حقه بشاهدين!! الوسائل: 18|174.

***

لم يدم طويلاً تطلع المسلمين الى ما سيفعله النبي صلى الله عليه وآله وما سيقوله.. فقد رأوه صعد على منبر الأحجار والأحداج، وبدأ باسم الله تعالى، وأخذ يرتل قصيدةً نبويةً في حمد الله تعالى، والثناء عليه.. ويشهد الله والناس على عبوديته المطلقة لربه.

ثم قدم لهم عذره، لأنه اضطر أن ينزلهم في مكان قليل الماء والشجر، وما أمهلهم حتى يصلوا الى بلدة الجحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة، المتوفر فيها ما يحتاج اليه المسافر.. ولا انتظر بهم وقت الصلاة، بل ناداهم قبل وقتها، وكلفهم الإستماع اليه في حر الظهيرة..


الصفحة 227

وأخبرهم أنه نزل عليه جبرئيل عليه السلام في مسجد الخيف، وأمره أن يقيم علياً للناس.. ثم قال لهم: إن الله عز وجل بعثني برسالةٍ فضقت بها ذرعاً، وخفت الناس أن يكذبوني، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني: أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي، يقول قائل، ويقول قائل! فأتتني عزيمة من الله بتلة (قاطعة) في هذا المكان، وتواعدني إن لم أبلغها ليعذبني.

وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس، وهو الكافي الكريم، فأوحى إلي: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لايهدي القوم الكافرين.

ثم قال صلى الله عليه وآله: لا إلَه إلا هو، لا يؤمن مكره، ولا يخاف جوره، أقرُّ له على نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية، وأؤدي ما أوحى إلي، حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعةٌ، لا يدفعها عني أحدٌ، وإن عظمت حيلته.

أيها الناس: إني أوشك أن أدعى فأجيب، فما أنتم قائلون ؟

فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت.

فقال: أليس تشهدون أن لا إلَه إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حقٌ وأن النار حقٌ وأن البعث حق ؟

قالوا: يا رسول الله بلى.

فأومأ رسول الله الى صدره وقال: وأنا معكم.

ثم قال رسول الله: أنا لكم فرط، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وسعته مابين صنعاء الى بصرى، فيه عدد الكواكب قدحان، ماؤه أشد بياضاً من الفضة.. فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.

فقام رجل فقال: يارسول الله وما الثقلان ؟

قال: الأكبر: كتاب الله، طرفه بيد الله، وسبب طرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا.


الصفحة 228

والأصغر: عترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.. سألت ربي ذلك لهما فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

أيها الناس: ألستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأني أولى بكم من أنفسكم ؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: قم يا علي. فقام علي، وأقامه النبي صلى الله عليه وآله عن يمينه، وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما، وقال:

من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.

فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، والصغير والكبير.

فقام أحدهم فسأله وقال: يارسول الله ولاؤه كماذا ؟

فقال صلى الله عليه وآله: ولاؤه كولائي، من كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولي به من نفسه!

وأفاض النبي صلى الله عليه وآله في بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والأئمة الإثني عشر من بعده: علي والحسن والحسين، وتسعة من ذرية الحسين، واحدٌ بعد واحد، مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتى يردوا عليَّ حوضي

ثم أشهد المسلمين مراتٍ أنه قد بلغ عن ربه.. فشهدوا له..

وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب.. فوعدوه وقالوا: نعم..

وقام اليه آخرون فسألوه... فأجابهم..

***


الصفحة 229

وما أن أتم خطبته، حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: ألله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وولاية علي بعدي...

ونزل عن المنبر، وأمر أن تنصب لعلي خيمة، وأن يهنئه المسلمون بولايته عليهم.. حتى أنه أمر نساءه بتهنئته، فجئن الى باب خيمته وهنأنه!

وكان من أوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!

وجاء حسان بن ثابت، وقال: إئذن لي يارسول الله أن أقول في علي أبياتاً تسمعهن، فقال: قل على بركة الله، فأنشد حسان:

يـناديهمُ يوم الغـدير نبيُّهُمْ

بخمٍّ فأسمع بالرسول مناديءا

بقول فمن مـولاكمُ ووليُّكُمْ

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلَهـك مـولانا وأنت ولينا

ولم ترَ منا في الولاية عاصيا

فقال لـه قم يا عليُّ فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليـه

وكن للذي عادى علياً معاديا

أخذنا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل: كمال الدين وتمام النعمة للصدوق|276، والإحتجاج للطبرسي: 1|70، وروضة الواعظين للنيسابوري|89، والمسترشد|117، وغيرها.

وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريباً مما في مصادرنا، وتجد ذلك في كتاب الغدير للأميني.

ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه: 7|122 قال:

عن يزيد ابن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم، الى زيد بن أرقم، فلما جلسنا اليه قال له حصين:


الصفحة 230

لقد لقيت يازيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً.

حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا، فلا تكلفونيه.

ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً، بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:

أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين:

أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:

وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.

فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟

قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

قال: ومن هم ؟

قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

قال: كل هؤلاء حرم الصدقة

قال: نعم. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: 2|366، وغيره.. وغيره.

ـ وقال الحاكم في المستدرك 3|148

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض.

هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. انتهى.


الصفحة 231

وقد رأيت أن مسلماً رواه، ولكن لفظ الحاكم فيه إخبارٌ نبوي باستمرار وجود إمام من أهل بيته صلى الله عليه وآله الى يوم القيامة.

ـ وانظر كيف صوَّر ابن كثير القضية في بدايته: 5|408، قال:

لما تفرغ النبي من بيان المناسك، ورجع الى المدينة خطب خطبة عظيمة الشأن في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بغدير خم، تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر في فضل علي بن أبي طالب وأمانته وعدله وقربه إليه، وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه، وقد اعتنى بأمر حديث غدير خم أبو جعفر الطبري، فجمع فيه مجلدين، وأورد فيها طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة. انتهى.

فقد جعل القضية أن كثيراً من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن أبي طالب، متحاملين عليه في أنفسهم، فأوقف النبي المسلمين صلى الله عليه وآله في غدير خم، لكي يثبت لهم براءة علي ويرضِّيهم عنه، فذكر فضله وقربه منه (وأزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه) وبين في خطبته (أشياء) من هذا القبيل! وكان الله يحب المحسنين!

إن هذا الأسلوب إنما يكتب به مؤرخٌ من عشيرة بني عبد الدار، الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارساً منهم حملوا لواء قريش في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن المؤرخ المسلم لا يستطيع أن يكتب به إلا.. إذا كان مبغضاً لعلي بن أبي طالب!

فهل عرفت لماذا يحب (السلفيون) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه ؟!

لماذا الجحفة وغدير خم

والسؤال هنا: لماذا الوحي في طريق المدينة.. والصحراء والظهيرة ؟

والجواب: أن الله تعالى قال بذلك لرسوله: المدينة أيها الرسول مثل مكة، فإن بلغت ولاية عترتك فيها، فقد تعلن قريش معارضتها ثم ردتها! فموقفها من عترتك جازم، ومستميت.. وبما أن واجبك التبليغ مجرد التبليغ، وإنما بعثت للتبليغ، فهو ممكنٌ هنا.. والزمان والمكان هنا مناسبان من جهات شتى، فبلغ ولا تؤخر.


الصفحة 232

ومن أجل أن تكمل التبليغ وتوصل لهم رسالتي.. سوف أعصمك من قريش، وأمسك بقلوبها وأذهانها، وألجم شياطينها الحاضرين، وأعالج آثار التبليغ، وأحفظ نبوتك فيها.. ثم أملي لها بعدك، فتأخذ دولتك وتضطهد عترتك.. حتى يتحقق في أمتك وفي عترتك ما أريد! ولا أسأل عما أفعل، وهم يسألون.

***

والسؤال هنا: كيف تمت عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله من قريش، فلم يحدث تشويش، ولم يقم معترض.. ! صحيح أن ثقل زعماء قريش كانوا في مكة، لكن بعضهم كان في قافلة الرسول صلى الله عليه وآله، وكان فيها قرشيون مهاجرون مؤيدون لهم !فكيف سكتت قريش وضبطت أعصابها، وهي تسمع تبليغ الرسول في علي والعترة ؟! ثم أشهدها النبي صلى الله عليه وآله على تبليغ ذلك.. فشهدت.

ثم طلب منها أن تبلغ الغائبين.. فوعدت.

ثم جاءت الى خيمة علي وهنأته بالولاية، وإمرة المؤمنين!!

الجواب: أنه تعالى أراد للرسالة أن تصل، وللحجة أن تقام، وأن يبقى رسوله صلى الله عليه وآله محفوظ الشخصية سالم النبوة.. فأسكت قريشاً بقدرته المطلقة، وكمَّمَ أفواهها في غدير خم.

والظاهر أن قريشاً أخذت تقنع نفسها بأن المسألة في غدير خم، ليست أكثر من إعلانٍ وإعلامٍ يضاف الى إعلانات حجة الوداع.. وأن النبي صلى الله عليه وآله مازال حياً.. فإن مات، فلكل حادثٍ حديث..

وعندما أرادت قريش أن تخرج عن سكوتها، وتخطو خطوةً نحو الردة.. أنزل الله على ناطقها الرسمي النضر بن الحارث حجراً من سجيل فأهلكه، وأرسل على آخر ناراً فأحرقته!! فزاد ذلك من قناعة قريش بالسكوت فعلاً عن ولاية العترة!

أما النبي صلى الله عليه وآله فكان تفكيره رسولياً، وليس قرشياً..


الصفحة 233

لقد ارتاح ضميره بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره، واتقى غضب ربه وعذابه..

واغرورقت عيناه بدموع الفرح والخشوع، لأن الله رضي عنه بإعلان ولاية علي، وأنزل عليه آية إكمال الدين وإتمام النعمة، فأخبره بأن مهمته وصلت الى ختامها..

كان النبي صلى الله عليه وآله في عيدٍ، لأنه أدى رسالة من أصعب رسالات ربه، فرضي عنه، وقد تكون أصعب رسالةٍ عليه في عمره النبوي على الإطلاق.. وتمت المسألة بسلامٍ ولم تقم قائمة قريش، ولم يصب جابر بن سمرة وغيره بالصمم من لغط الناس عند سماع كلمة عترتي، أو كلمة علي، أو بني هاشم.

ولم تحدث حركة عصيان منظمة، كما حدثت في المدينة عندما طلب النبي صلى الله عليه وآله قبل وفاته بأربعة أيام، أن يأتوه بدواة وقرطاسٍ ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً.. ولم تحدث حركة ردة نهائياً، والحمد لله!

ارتاح ضمير النبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ رسالة ربه كما أمره.. وهذه هي الرسالة التي روى الحسن البصري أن الله أمر رسوله بها فضاق بها صدره، فتوعده ربه بالعذاب إن لم يبلغها، فخاف ربه وصدع بها.. ولكن الحسن البصري كما قال الراوي راوغ فيها وراغ عنها، ولم يخبرهم ما هي! وكل غلمان قريش إخوان الحسن البصري، من الفرس وغيرهم، يراوغون فيها وفي أمثالها، ويخفون ما أنزل الله تعالى في عترة نبيه صلى الله عليه وآله !

كان النبي صلى الله عليه وآله يفكر ربانياً بأعلى مستوى من البيعة.. يفكر على مستوى الأمر الإلَهي والإختيار الإلَهي، الذي لا خيرة فيه لأحد، ولا محل فيه للبيعة، إلا إذا طلبها من الناس النبي أو الوصي، فتجب.

فهذا هو منطق التبليغ، وحسب!

ولذلك لم يشاورهم النبي صلى الله عليه وآله في بيعة علي، لأن اختيار الله تعالى لا يحتاج الى مشورتهم، ولا بيعتهم، ولا رضاهم..

لقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله أن يشاورهم ليتألفهم، ويسيروا معه في الطريق الصحيح.. أما إذا عزمت فتوكل، ولا تسمع لكلام مخلوق لأنك تسير بهدى الخالق!


الصفحة 234

أما إذا عزم الله تعالى واختار للأمة ولياً بعد نبيه صلى الله عليه وآله، وقال لنبيه بلغ ولا تخف، ولست مسؤولاً عن إطاعة من أطاع ومعصية من عصى.. فهل يبقى للمشاورة محلٌّ من الإعراب! وهل يبقى للبيعة محلٌّ من الإعراب!

لقد طلب منهم الرسول صلى الله عليه وآله تهنئة علي عليه السلام إقراراً بالإختيار الإلَهي، وهي تهنئةٌ أقوى من البيعة، وألزم منها للأعناق.. ثم ليفعلوا بعدها ما يحلو لهم.. فإنما على النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغهم، وحسابهم على من يملك كل الأوراق، ويملك الدنيا والآخرة، ويفعل ما يريد.. سبحانه وتعالى!

وتدل رواياتنا على أنه صلى الله عليه وآله طلب منهم مع التهنئة البيعة، فيكون معناها أنه طلب منهم أيضاً إعلان التزامهم بإطاعة علي عليه السلام.. فأعلنوا!

ولكن الأمر من ناحية شرعية وحقوقية، لا يختلف، سواء أمرهم النبي صلى الله عليه وآله ببيعة علي عليه السلام أم أمرهم بتهنئته فقط.. فإن تبليغ الولاية أقوى من التهنئة، والتهنئة أقوى من البيعة.. فالتبليغ اصطفاء، والتهنئة خضوع، والبيعة وعدٌ بالإلتزام.

لقد سكتت قريش آنياً بسبب أنها لم تكن حاضرةً كلها في الجحفة.. وبسبب عنصر المفاجأة، وظرف المكان والزمان.

ولعلها كانت تقنع نفسها بأن منطق التفكير النبوي يبقي لها مساحة للعمل..

ذلك أن التبليغ وإتمام الحجة كلامٌ تركيٌّ عند قريش الناطقة بالضاد!

وحتى البيعة المأمور بها من النبي صلى الله عليه وآله يمكن لقريش أن تجعلها مثل المراسم الدينية الأخرى، وتجردها من معنى إمامة علي وقيادة عترة النبي صلى الله عليه وآله من بعده!

فالباب في تصور قريش مازال مفتوحاً أمامها للتصرف!!

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net