متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
بين الرسول الأعظم والمقداد
الكتاب : المقداد بن الأسود الكندي ، أول فارس في الإسلام    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

 

بين الرسول الأعظم والمقداد

 في خلال السنة الأولى للهجرة كان المقداد لا يزال ـ هو وبعض المستضعفين ـ في مكة ، وليس من السهل أن يغادرها إلى المدينة سيما وانه حليف للأسود بن عبد يغوث ـ كما قدمنا ـ فإنه لو فعل لكان مصيره إلى القتل بلا أدنى شك ، لذلك كان يترقب فرصةً سانحةً يمكنه معها الفرار إلى يثرب واللقاء بالرسول والإلتحاق بركبه ، حتى كانت سرية حمزة بن عبد المطلب وكان معها الخلاص ، فقد خرج مع المشركين يوهمهم أنه يريد القتال معهم ، وهكذا إنحاز إلى سرية حمزة ورجع معه الى المدينة .
 وكان نزوله في المدينة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ضيافته ، ولم يكن وحده بل كانوا جماعة ، ومن الواضح أن وضع المسلمين الإقتصادي ـ في تلك الفترة ـ كان متردّياً إلى درجةٍ بعيدة ، بل يظهر أنهم كانوا يعانون الفقر المدقع ـ لولا مساعدة الأنصار لهم ـ فقد تركوا كل ما لديهم من مال في مكة وخرجوا منها صفر اليدين ، لا يملكون إلا أبدانهم وثيابهم ، ورواحلهم ، وليس من الوارد أن يكونوا في خلال ستة أشهر ، أو تسعة ، في وضع إقتصادي مريح على الأقل ، سيما وأن النفقة ـ الصادر ـ اكثر من الوارد ، فبناء المسجد ، وبناء الدور ـ وان كانت من جريد النخل مغروساً بالطين ـ تتطلب بذل مالٍ كثير نسبةً لذلك الوقت وتلك الظروف .
 وقوافل المسلمين الجدد الذين كانوا يأتون المدينة لم تقف عند حد الهجرة ، هجرة النبي ، بل توالت ، فكان على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين أن يستقبلوا


(52)

ضيوفهم ، وأن يهيئوا لهم ما يحتاجون من متطلبات الحياة الضرورية على الأقل .
 فكان إذا هاجر بعض المسلمين ، وزّعهم رسول الله ، اثنان اثنان ، أو ثلاثة ثلاثة . . أو . . حسب العدد على إخوانهم المهاجرين الذين استقرت بهم الدار في المدينة وأصبحوا قادرين على النهوض بأنفسهم وعوائلهم .
 والذي يظهر ، أن المقداد كان من جملة أولئك الوافدين المهاجرين الجدد ، وكان في عدد لا يستهان به ، كما يلحظ ذلك في مطاوي كلامه ، فقد ذكر أحمد بن حنبل بسنده عن المقداد ، قال :
 لما نزلنا المدينة ، عشرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عشرةً عشرةً في كل بيت ! قال : فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
 إلا أن هذه الإقامة في بيت الرسول لا تكون طويلةً بحسب العادة ، إذ يتخللها بعوثٌ وسرايا وغزوات ، قد يطول أمدها ، وعند العودة يتبدّل المكان ، سيّما إذا اخذنا بعين الإعتبار ما لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هيبةٍ في نفوس المسلمين تزرع في نفوسهم الخجل من أن يكلموه في النزول عليه وفي ضيافته .
 يستفاد ذلك من حديث آخر مروي عن المقداد ، حيث قال : أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعُنا وأبصارُنا من الجهد (*) فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليس أحد منهم يقبلنا . » لا لبخل فيهم ، بل لأنهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء ! « فأتينا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ! »
 فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إحتلبوا هذا اللبن بيننا .
____________
1 ـ الإستيعاب ( على هامش الإصابة ) 3 / 476 .
* ـ الجهد : الجوع والتعب والمشقة .


(53)

 قال : فكنا نحتلب ، فيشرب كل انسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصيبه . فيجيء ( صلى عليه وآله وسلم ) ليلاً فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ، ويسمع اليقظان ، ثم يأتي المسجد فيصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب . (1) .
 وفي هذه الأثناء تحصل مواقف نادرة بينه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من جهة وبين اصحابه من جهةٍ أخرى ، وهي بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من اقتباس الحكمة منه صلوات الله عليه والتوجيه الرفيع ، فإنها لا تخلو من ظرف وخفة روح من جانب بعض أصحابه أحياناً ونجده في هذه الحالات يعاملهم معاملة الأب لأبنائه دون قسوةٍ أاو غلظة وربما أنبههم إلى الخطأ أو الغلط بأسلوب هادئ مقنع لا يملك معه مستمعوه إلا الإذعان والإنقياد ولوكم النفس على التفريط إن كان هناك تفريط أو تسامح ، كما حصل للمقداد حين كان في ضيافته صلى الله عليه وآله وسلم على ما جاء في تتمة الرواية .
 قال : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ ، وقد شربتُ نصيبي ـ من اللبن ـ فقال : محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ، ما به حاجة إلى هذه الجرعة .
 فأتيتها فشربتها ، فلما أن وغلت (2) في بطني ، وعلمتُ أنه ليس إليها سبيل ، ندَّمني الشيطان ، فقال : ويحك ؟ ما صنعتَ ؟ أشربتَ شرابَ محمد فيجيء فلا يجده ، فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وآخرتك . !
 وعليّ شملة ، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وأذا وضعتها على رأسي خرج قدماي . وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت .
 قال : فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسلّم كما كان يُسلّم ، ثم أتى المسجد ، فصلى
____________
1 ـ للرواية تتمة تأتي .
2 ـ وغلت : أي استقرت وتمكنت في بطنه .


(54)

ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيءً ، فرفع رأسه الى السماء .
 فقلت : الآن يدعو عليّ فأهلك ، فقال : « اللهم أطعم من أطعمني ، واسقِ من سقاني . » قال : فعمدت الى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة ، فانطلقت الى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإذا هي حافلة (1) واذا هن حفل كلهن ، فعمدت الى إناءٍ لآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه . قال : فحلبت فيه حتى علته رغوة ، فجئت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال :
 أشربتم شرابكم الليلة ؟
 قال : قلت : يا رسول الله ؟ اشرب .
 فشرب ، ثم ناولني ، فقلت : يا رسول الله ، إشرب . فشرب ، ثم ناولني .
 فلما عرفت أن النبي قد روي ، وأصبتُ دعوته ، ضحكتُ حتى القيت إلى الأرض .
 قال : فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إحد سوآتك (2) يا مقداد .
 فقلت : يا رسول الله ، كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا .
 فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما هذه إلا رحمةٌ من الله (3) آفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها .
 قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ؛ ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك
____________
1 ـ حافلة : أي أن ضرعها ملآن باللبن .
2 ـ احدى سوآتك : أي انك فعلت سوآة من الفعلات ، فما هي ؟
3 ـ اي أن أحداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته ، رحمة من الله .


(55)

من أصابها من الناس (1).
 هذا موقف لأبي معبد ينطوي على شيء من الظرف وخفة الروح ، بالإضافة إلى إستشعاره الخطيئة حين عمد إلى شراب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فشربه ، ولاحظنا أن موقف النبي منه كان موقف الشفيق العطوف الرحيم الذي ينظر إلى أصحابه بميزان خاص يتلائم مع عقولهم ونفوسهم ، وربما تلاحظ معي أن الرسول الكريم ـ كما يظهر من الحديث ـ تمنى لو أن المقداد أيقض صاحبيه ليصيبا معهما الشراب ، شراب ذلك اللبن المبارك .
 وموقف آخر لأبي معبد مع الرسول ، تتجلى فيه عظمة الإسلام ، ونبي الإسلام ، كان من جملة المواقف التي خلدت على الزمان بما تحمل من نبل كلمة وسمو خلق ، ورفيع مستوى في التوجيه والتهذيب ، بل وغرس الروح الإنضباطية لدى المسلم .
 فقد سأله ذات مرة : يا رسول الله ، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار ، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ، فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ؛ أفأقتله ـ يا رسول الله ـ بعد أن قالها ؟ !
 قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تقتله .
 قال : فقلت : يا رسول الله ، انه قطع يدي ! ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟
 قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تقتله . فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ! وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال . ! (2)
 ويلاحظ هنا مدى ارتقاء الإسلام بالنفس البشرية إلى آعالي قمم الكرامة
____________
1 ـ صحيح مسلم ج 3 ك 36 ص 1625 ـ 1626 ح 174 .
2 ـ صحيح مسلم ج 1 ك 1 ص 96 ح 155 ـ 156 ـ 157 .


(56)

والإنسانية ، كلمة واحدة فقط من لسانٍ صادق كفيلة بإنقاذ حياة صاحبها من موتٍ محتم .
 أي عمق هذا في تعزيز الروح الإنسانية ، وأي صيانةٍ لها ؟ ؟ هكذا الإسلام دائماً يهتم بصيانة النوع وحمايته ، فكلمة صادقة ، كفيلة في أن تقلب الموازين وكلمة صادقة ، هي مرآة للنفس تعكس آلامها وآمالها ، وليس للحقد في دنيا الإسلام مكان .
 انه موقفٌ شواهد الحكمة فيه ، ومعه .


(57)


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net