غزوة الغابة *
الغابة : : موضع قرب المدينة من ناحية الشام ، فيه شجر كثيف ومرعَّى خصب للإِبل ، وكان للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عشرون لقحة *1 ترعى في مكان يقال له : البيضاء . *2 فلما أجدب قربوها للغابة تصيب من أثلها وطرفائها . فكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند المغرب . وفي ذات يوم استأذن أبو ذر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يذهب إلى تلك الإِبل ليحتلبها ويغدو بلبنها إليه ، فقال له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اني اخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير عليك ـ ونحن لا نأمن من عيينة بن حصن وذويه ! هي في طرف من أطرافهم . فألح عليه أبو ذر فقال : يا رسول الله إإذن لي . فلما ألح عليه قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لكاني بك قد قتل إبنك ، وأخذت إمرأتك ، وجئت تتوكأ على عصاك *3 يقول ابو ذر : والله انا لفي منزلنا ، ولقاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد ____________ * ـ وقعت في السنة السادسة للهجرة ، وتسمى أيضاً : غزوة ذي قرد . *1 ـ اللقحة : الواحدة من الإبل الحامل ، ذات اللبن ، جمعها : لقاح . *2 ـ البيضاء : موضع تلقاء حمى الربذة . *3 ـ وكان أبو ذر يقول في ذلك : عجباً لي ! إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول « لكأني بك » وأنا ألح عليه ، فكان والله على ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
(110)
رُوِّحت ، وعطنت وحلبت عتمتها (1) ونمنا ، فلما كان الليل أحدق بنا عُيينة في أربعين فارساً ، فصاحوا بنا وهم قيام على رؤوسنا فأشرف لهم ابني فقتلوه ، وكانت معه إمرأته وثلاثة نفر فنجوا ، وتنحيت عنهم ، وشغلهم عني إطلاق عُقل اللقاح ، ثم صاحوا في أدبارها فكان آخر العهد بها . ونترك لأبي معبد يكمل القصة : قال المقداد بن عمرو : لما كانت ليلة السَّرح ، جعلت فرسي سبحة لا تقر ضرباً بأيديها وصهيلاً ، فيقول أبو معبد (2) : والله إن لها شأناً ! فننظر آريَّها (3) فإذا هو مملؤ علفاً ! فيقول : عطشى ! فيعرض الماء عليها فلا تريده ، فلما طلع الفجر اسرجها ولبس سلاحه ، وخرج حتى صلى الصبح مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلم يرَ شيئاً ، ودخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيته ، ورجع المقداد إلى بيته ، وفرسه لا تقر ، فوضع سرجها وسلاحه واضطجع ، وجعل إحدى رجليه على الأخرى ، فأتاه آتٍ فقال : إن الخيل قد صيح بها . وكان سلمة بن الأكوع قد غدا قاصداً الغابة ليأتي بلبن اللقاح إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلقي غلاماً في ابل لعبد الرحمن بن عوف ، فأخبره أن عيينة بن حصن قد اغار في اربعين فارساً على لقاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنه قد رأى مدداً بعد ذلك أمد به عيينة . قال سلمة : فاحضرت فرسي راجعاً إلى المدينة حتى وافيت على ثنية الوداع (4) فصرخت بأعلى صوتي : يا صباحاه ! ثلاثاً ، أسمِعُ من بين ____________ 1 ـ العتمة : ظلمة الليل ، وكانت العرب تسمي الحلاب باسم الوقت . 2 ـ هو نفسه المقداد ، وهنا انتقل بحديثه من صيغة المتكلم الى الغائب مبالغةً في الأهمية . 3 ـ الآري : حبل تشد به الدابة في محبسها . 4 ـ ثنية الوداع : عن يمين المدينة ودونها ، وهي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة .
(111)
لابَتْيها . (1) ثم نادى : الفَزَع ! الفَزَع ! ثلاثاً * ثم وقف واقفاً على فرسه حتى طلع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الحديد مُقَنّعاً فوقف واقفاً . فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو ، عليه الدرع والمغفر شاهراً سيفه . فعقد له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لواءً في رمحه ، وقال : امضِ حتى تلحقك الخيول ، ونحن على أثَرِك . قال المقداد : فخرجت وأنا أسال الله الشهادة حتى أدرك اخريات العدو ، وقد أذمَّ (2) بهم فرس لهم فاقتحم فارسه وردف أحد أصحابه ، فأخذُ الفرس المذّم فإذا هو ضَرع (3) أشقر ، عتيق ، لم يقوَ على العدو ، وقد غدوا عليه من أقصى الغابة فحسِر (4) فأربط في عنقه قطعة وترٍ وأخليّه ، وقلت : إن مرَّ به أحد فأخذه جئته بعلامتي فيه ، فأدرك مسعدةَ فأطعنه برمح فيه اللواء ، فزلَّ الرمح وعطف علي بوجهه فطعنني ، وآخذُ المرحَ بعضدي فكسرته ، وأعجزني هرباً ، وأنصبُ لوائي ، فقلت : يراه أصحابي ! ويلحقني أبو قتادة معلماً بعمامةٍ صفراء على فرس له ، فسايرته ساعةً ونحن ننظر إلى دبر (5) مسعدة فاستحث فرسه ، يعني أبو قتادة ـ فتقدم على فرسي ، فبان سبقه ، فكان أجود من فرسي حتى غاب عني فلا أراه . ثم ألحقه فإذا هو ينزع بردته ، فصحت : ما تصنع ؟ قال : خيراً ، أصنعُ كما ____________ 1 ـ يا صباحاه : كلمة كان العرب يستعملونها لإِستنفار الناس فيما إذا دهمتهم غارةٌ . و « لابتيها » كناية عن انه اسمع جميع من في المدينة . * ـ في السيرة النبوية : وبلغ رسول الله صياح ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة : الفزع ! الفزع إلخ (3 ـ 76 ) وأظنه أشتباه ، لأن مثل هذا بعيد على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . 2 ـ أذّم : أعيى وتأخر . 3 ـ الضرع : الضعيف . 4 ـ حسرْ : تعب وأعيا . 5 ـ الدبر : من الأدبار وهو الهرب .
(112)
صنعت بالفرس . فإذا هو قد قتل مسعدة وسجاه ببردِه . ورجعنا ، فإذا فرس في يد عُلبةَ بن زيد الحارثي ، فقلت : فرسي هذا ، وعلامتي فيه ! فقال : تعال إلى النبي ، فجعله مغنماً . وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو ليسبق الخيل مثل السبع . قال سلمة : حتى لحقت القوم ، فجعلت أرميهم بالنبل واقول حين أرمي : خذها مني وأنا ابن الأكوع ، فتكر علي خيل من خيلهم ، فإذا وجَّهت نحوي انطلقت هارباً فاسبقها واعمد إلى المكان المعور *1 فاشرف عليه وأرمي بالنبل إذا امكنني الرمي وأقول :
خـذهـا ، وأنـا ابـن الأكوع * والـيـوم يـوم الـرُّضـع
فما زلت أكافحهم وأقول : قفوا قليلاً يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار ، فيزدادون علي حنقاً فيكرون علي ، فاعجزهم هرباً حتى انتهيت بهم إلى ذي قَرَد *2 ولحِقَنَا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والخيول عشاءً ، فقلت : يا رسول الله ، إن القوم عطاش وليس لهم ماءٌ دون أحساء كذا وكذا *3 فلو بعثتني في مائة رجل ، استنقذت ما بأيديهم من السرح ، وأخذت باعناق القوم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ملكت ، فأسجح *4 ، ثم قال النبي ____________ *1 ـ المعور : المكمن للستر . *2 ـ ذي قرد : مكان يبعد عن المدينة مسيرة يوم وقيل يومين . *3 ـ دون أحساء كذا وكذا : أي دون بلوغهم مكان كذا وكذا . *4 ـ ملكت فاسجح : أي قدرت ، فسهل ، وأحسن العفو . وهو مثل معروف .
(113)
( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنهم ليُقرَونَ في غطفان (1) قال : ثم توافت الخيل وهم ثمانية : المقداد وأبو قَتَادة ، ومُعاذ بن ماعِص وسعد بن زيد ، وأبو عيَّاش الزُرَقي ، ومُحرِز بن نَضلَة ، وعُكاشة بن مِحصَن ، وربيعة بن أكثَم . ولم تزل الأمداد تترى ، حتى إنتهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذي قرد ، فاستنقذوا عشر لقائح ، وافلت القوم بما بقي ، وهي عشر . وقتل في هذه المعركة من المسلمين واحد ، وهو محرز بن نضلة . قتله مسعدة . وقتل من المغيرين خمسة مسعدة بن حكمة ، قتله أبو قتادة ، وأوثار وابنه عمرو بن أوثار ، قتلهما عكاشة بن محصن ، وحبيب بن عيينة كان على فرس له ، قتله المقداد بن عمرو ، وكذلك فَرقَة بن مالك قتله المقداد أيضاً . وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة ، قول حسان بن ثابت .
لولا الـذي لاقـت ومـسَّ نسورهـا * بجنـوب سـاية أمـس فـي الـتقـواد (2) لـلـقينـكم يحمـلـن كـل مدجـَّج * حـامـي الـحقيقـة مـاجـد الأجـداد (3) ولـسـر أولاد الـلـقيطـة أنـنـا * سـلـم غـداة فـوارس الـمـقــداد (4) كنـا ثمـانيـةً وكـانـوا جَـحفـلاً * لـجبـاً فـشكـوا بـالـرمـاح بـداد (5)
____________ 1 ـ يقرَون : يُضيفون . 2 ـ ساية : اسم وادٍ بالحجاز . 3 ـ الحقيقة : ما يحق عليك أن تحميه . 4 ـ وقد اعترض سعيد بن زيد على حسان حيث جعل المقداد هو القائد ـ وسعيد هذا أنصاري ـ والمقداد مهاجري ، فاعتذر إليه حسان . راجع السيرة 3 / 180 والمغازي / 548 . 5 ـ اللجب : الجلبة والصياح . وبداد : يقال جاءت الخيل بَدادِ بَدادِ أي متفرقة .
(114)
كـنا من القـوم الـذيـن يلـونهـم * وَيُقـدمـون عـِنـان كـلِ جـوادِ كلا ورب الراقـصـات إلـى منـىً * يقطعن عـرض مخـارم الأطـواد (1) حتى نبيل الخيل في عـرصـاتكـم * ونـؤوب بـالـملـكـات والأولاد (2) رهواً بـكـل مقـلـصٍ وطـمـرة * في كـل معتـرك عطفـن روادي (3) أفـنى دوابـرها ولاح مـتـونـهـا * يـوم تـقـاد بـه ويـوم طِـرِاد فـكذاك إن جـيـادنـا ملـبـونـة * والحـرب مشعلـة بـريح غـواد (4) وسيوفنـا بيض الحدائـد تجتـلـي * جُنَنَ الحـديـد وهامةَ المـرتـادِ
____________ 1 ـ الراقصات : يقصد بها الإبل . ومخارم الأطواد : شقوق الجبال ، ويقصد بها الطرق . 2 ـ نبيل الخيل : نجعلها تبول في دياركم . 3 ـ الرهو : المشي الهادئ . المقلَّص : المشمر . والطِّمرة : الفرس الجواد . وروادي : سريعة . 4 ـ ملبونة : الملبون : من به كالسِّكر من شرب اللبن . وغواد : من الغادية وهي السحابة . 5 ـ تجتلي : تقطع . جنن الحديد : ما ستره الحديد ، أو المقصود به الترس خاصة . راجع المغازي للواقدي من صفحة 537 إلى 549 للتفصيل ، وكذا السيرة لإبن هشام 3 / 175 الى 181 والكامل 2 / 188 ـ 190 .
(115)
|