متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
علم الامام الحسين بما سيجري في كربلاء
الكتاب : المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره    |    القسم : مكتبة عقائد الشيعة
[ علم الامام الحسين بما سيجري في كربلاء ]

    وكان الحسين ـ بأبي وأمي ـ على يقين من ترتب هذه الاثار الشريفة على قتله ، وانتهاب رحله ، وذبح أطفاله ، وسبي عياله ، بل لم يجد طريقاً لارشاد الخلق إلى الائمة بالحق واستنقاذ الدين من أئمة المنافقين ـ الذين خفي مكرهم وعلا في نفوس العامة أمرهم ـ إلاّ الاستسلام لتلك الرزايا والصبر على هاتيك البلايا.
    وما قصد كربلاء إلاّ لتحمل ذلك البلاء عهد معهود عن


(111)

أخيه عن أبيه عن جدّه عن الله عز وجل.
    ويرشدك الى ذلك ـ مضافاً إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ـ دلائل أقواله وقرائن أفعاله ، فانها نصّ فيما قلناه.
    وحسبك منها جوابه لاُم سلمة ، إذ قالت له ـ كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما ـ : يا بني ، لا تحزن بخروجك إلى العراق ، فاني سمعت جدّك ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء » ، فقال لها : « يا أُماه ، وأنا والله أعلم ذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي منه بدّ ... وقد شاء الله عز وجلّ أن يراني مقتولاً ... ويرى حرمي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين ... » (1).
    وجوابه لاخيه عمر ، إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد : حدثني أخوك أبو محمد عن أبيه ، ثم بكى حتى


1 ـ بحار الانوار 44 / 331.


(112)

علا شهيقه ، فضمّه الحسين إليه وقال ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « حدّثك أني مقتول » ، قال : حوشيت يا ابن رسول الله ، فقال : « بحق أبيك ، بقتلي خبّرك » ؟ قال : نعم ، فلو بايعت ، فقال ( عليه السلام ) : « حدثني أبي : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته ، أتظنّ أنّك علمتَ مالم أعلم » (1).
    والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه ( صلى الله عليه وآله ) ، حين ذهب ليودعه ، وقول النبي له فيها ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ : « بأبي أنت ، كأني أراك مرمّلاً بدمك بين عصابة من هذه الامة يرجون شفاعتي مالهم عند الله من ) خلاق » (2).


1 ـ الملهوف : 99 ـ 100 ، وتكملة الحديث : « وإنّه لا أعطي الدنية من نفسي أبداً ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية مالقيت ذرّيتها من أمّته ، ولا يدخل الجنة أحدٌ آذاها في ذرّيتها ».
2 ـ أمالي الصدوق : 150 المجلس 30.
    وراجع : البحار 44 / 313.


(113)

    وكتابه إلى بني هاشم لمّا فصل من المدينة ، وقوله فيه ـ كما في الملهوف نقلاً عن رسائل ثقة الاسلام ـ : « أمّا بعد ، فان من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح » (1).
    وخطبته ليلة خروجه من مكة ، وقوله فيها ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ... » إلى أن قال : « ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته موطئاً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى » (2).
    وقوله ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « لولا تقارب الاشياء وهبوط الاجل ، لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكني أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم إلا ولدي علي » (3).


1 ـ الملهوف : 129.
2 ـ الملهوف : 126 ـ 127.
3 ـ الملهوف : 126.


(114)

    وجوابه لاخيه محمد بن الحنفية ، إذ قال له ـ كما في الملهوف وغيره ـ : يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : « بلى ، ولكن أتاني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعدما فارقتك ، فقال : يا حسين أخرج ، فان الله قد شاء أن يراك قتيلاً » ، فقال ابن الحنفية : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هذه النسوة وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟ فقال له : « قال لي : إنّ الله شاء أن يراهن سبايا » (1).
    وجوابه لابن عباس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالامساك ، فقال لهما ـ كما في الملهوف وغيره ـ : « إنّ رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه » ، فخرج ابن عباس وهو يقول : واحسيناه (2).
    وجوابه لعبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع ، فأبى وقال لهما ـ كما في تاريخي ابن جرير وابن


1 ـ الملهوف : 128.
2 ـ الملهوف : 101.


(115)

الاثير وغيرهما ـ : « رأيت رؤيا رأيت فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمرت فيها بأمر أنا ماض له » (1).
    وقوله في كلام له مع ابن الزبير ـ كما في تاريخي ابن جرير وابن الاثير وغيرهما ـ : « وأيم الله ، لو كنتُ في حجر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم ، ووالله ليعتُدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت » (2).
    وقوله في مقام آخر ـ كما في كامل ابن الاثير وغيره ـ : « والله لا يَدَعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من فَرْم المرأة » (3) ، يعني : من خرقة الحيض.
    وقوله لابي هرة ـ كما في تاريخ ابن جرير وغيره ـ : « وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ».


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 388 ، الكامل في التاريخ 4 / 40 ـ 41.
2 ـ تاريخ الطبري 5 / 385 ، الكامل في التاريخ 4 / 38.
3 ـ الكامل في التاريخ 5 / 39 ، وراجع : تاريخ الطبري 5 / 394.


(116)

    ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال حين انتبه « إنّا لله وإنّا له راجعون ، والحمد لله رب العالمين » ، قال : ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً ، قال : فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال : يا أبتاه جعلت فداك ممَّ حمدت الله واسترجعت ؟ فقال : « يا بني ، خفقتُ برأسي خفقة فعنّ لي فارس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا » ، فقال : يا أبت ، لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحق؟ قال : « بلى والذي إليه مرجع العباد » ، قال : يا أبت ، إذاً لا نبالي نموت محقين ، فقال له : « جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده » (1).
    وقوله لما أُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) (2) » (3).


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 407 ـ 408.
2 ـ الاحزاب : 23.
3 ـ تاريخ الطبري 5 / 405.


(117)

    إلى غير ذلك من أقواله الصريحة بأنه كان على يقين مما انتهت إليه حاله ، وأنه ما خرج إلاّ ليبذل في سبيل الله نفسه وجميع ما ملكته يده ، ويضحّي في إحياء دين الله : أولاده ، وإخوته ، وأبناء أخيه ، وبني عمومته ، وخاصة أوليائه ، والعقائل الطاهرات من نسائه.

إذ لم ير السبط للدين الحنيف شفا وما سمعنا عليلاً لا علاج له بقتله فاح للاسلام طيب هدى وصان ستر الهدى عن كلّ خائنة إلاّ إذا دمه في نصره سفكا إلاّ بنفس مداويه إذ هلكا فكلّما ذكرته المسلمون ذكا ستر الفواطم يوم الطف إذ هتكا


(118)

نفسي الفداء لفاد شرع والده قد آثر الدين أن يحيى فقحمها

بنفسه وبأهليه وماملكا حيث استقام القنا الخطي واشتبكا (1)

    ( على أنّ الامر الذي انتهت إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لم تخف على أحد ، وقد نهاه عن ذلك الوجه ـ جهلاً بمقاصده السامية ـ كثير من الناس ، وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني أمية وغدر أهل العراق :
    فقال له أخوه محمد بن الحنفية ـ كما في الملهوف وغيره ـ : يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت أن تقيم فانك أعزّ مَن في الحرم


1 ـ هذه الابيات من قصيدة للشريف الفاضل السيد جعفر الحلي ، يرثي بها جدّه ( عليه السلام ) « المؤلّف ».


(119)

وأمنعه ... فان خفت فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ، فانك أمنع الناس به ولا يقدر عليك أحد ، فردّه الحسين ( عليه السلام ) برأفة ورفق ، وقال : « أنظر فيما قلت » (1).
    وأتاه ابن عباس فقال : يا ابن عم قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق ، فبيّن لي ما أنت صانع ؟ قال : « إنّي قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى » ، فقال له ابن عباس ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : فانّي أُعيذك بالله من ذلك ، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم ؟! فان كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم ، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله تجبي بلادهم ، فانهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال ، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك ، فيكونوا أشدّ الناس عليك ، فردّه الحسين ( عليه السلام ) ردّ رحمة وحنان فقال له :


1 ـ الملهوف : 127 ـ 128.


(120)

« أستخير الله وأنظر ما يكون » (1).
    فخرج ابن عباس ثم جاءه مرة أخرى فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : يا ابن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر ، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، إن أهل العراق قوم غُدُر فلا تقربنّهم ، أقم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز ، فان كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثم أقدم عليهم ، فان أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن ، فان بها حصوناً وشعاباً ، وهي أرض طويلة عريضة ، ولابيك بها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة ، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك ، فاني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « يا ابن عم ، إني والله لاعلم أنّك ناصح مشفق ، ولكن قد أزمعت وأجمعت على المسير » (2).


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 383 ، الكامل في التاريخ 4 / 37.
2 ـ تاريخ الطبري 5 / 383 ـ 384 ، الكامل في التاريخ 4 / 38 ـ 39.


(121)

    ودخل عليه عمر بن عبد الرحمن المخزومي فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : إنّي مشفق عليك ، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه ، ومعهم بيوت الاموال ، وإنّما الناس عبيد الدينار والدرهم ، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصرَه ... ، فقال له الحسين : « جزاك الله خيراً يا ابن عم ، فقد والله علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل ، ومهما يُقض من أمر يكن » (1).
    وكتب إليه عبد الله بن جعفر بعد خروجه من مكة ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ : أما بعد ، فاني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا ، فاني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الارض ، فانك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير ، فاني في أثر كتابي ، والسلام.


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 382 ، الكامل في التاريخ 4 / 37.


(122)

    وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد ـ وهو عامل يزيد يومئذ بمكة ـ فقال له : اكتب للحسين كتاباً تجعل له الامان فيه ، وتمنّيه فيه البرّ والصلة واسأله الرجوع ، ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر ، فلحقاه وقرءا عليه الكتاب وجهدا أن يرجع ، فلم يفعل (1).
    وقال له عبد الله بن مطيع إذ إجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمةَ الاسلام أن تنهتك ، أُنشدك الله في حرمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فو الله لئن طلبت مافي أيدي بني أمية ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً ، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ، ولا تأت الكوفة ، ولا تعرَّض لبني أمية ، قال : فأبى إلاّ أن


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 388 ، الكامل في التاريخ 4 / 40.


(123)

يمضي (1) ، إنجازاً لمقاصده السامية.
    ولقيه أحد بني عكرمة ببطن العقبة ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : أُنشدك الله لما انصرفت ، فو الله لا تقدم إلاّ على الاسنة وحدّ السيوف ، فانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الاشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فانّي لا أرى لك أن تفعل ، قال : فقال له : « يا عبد الله ، إنه ليس يخفى عليّ ، الرأيُ ما رأيتَ ، ولكن الله لا يُغْلَب على أمره » (2).
    ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : إرجع ، فإني لم أدع لك خيراً أرجوه.
    وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصفاح ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : قلوب الناس معك


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 395.
2 ـ تاريخ الطبري 5 / 399.


(124)

وسيوفهم مع بني أمية (1).
    وما التقى في الطريق بأحد إلاّ التمسه على الرجوع ، إشفاقاً عليه من لؤم بني أمية وغدر أهل العراق ، وما كان ليخفى عليه ماظهر لاغلب الناس ، لكنه وهؤلاء كما قيل : أنت بواد والعذول بوادي.
    ما نزل بأبي وأمي منزلاً ولا ارتحل منه ـ كما في الارشاد وغيره ـ إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله.
    وقال يوماً : « من هوان الدنيا على الله إن رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ».
    فهل تراه أراد بهذا غير الاشارة إلى أن سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيى ( عليه السلام ) ؟!
    وأخبره الاسديان وهو نازل في الثعلبية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، وأنّهما يجران بأرجلهما في الاسواق بلا نكير (2).


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 386.
2 ـ تاريخ الطبري 5 / 397.


(125)

    فهل يمكن بعد هذا أن يبقى له أمل بنصرة أهل الكوفة ، أو طمع في شيء من خيرهم ؟! والله ما جاءهم إلاّ يائساً منهم ، عالماً بكل ما كان منهم عليه.
    وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قرئ بأمره على الناس وفيه :     

« بسم الله الرحمن الرحيم

    أما بعد ، فانه قد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بُقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذِمام ».
    قال محمد بن جرير الطبري في تاريخ الاُمم والملوك : فتفرق الناس عنه تفرقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً ، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة.
    قال : وإنّما فعل ذلك ، لانه ظنّ إنما اتبعه الاعراب ، لانهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون.
    قال : وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ من يريد


(126)

مواساته والموت معه (1).
    وذكر أهل الاخبار : إن الطرماح بن عدي لما اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : والله إنّي لانظر فما أرى معك أحداً ، ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك ـ يعني : الحر وأصحابه ـ لكان كفى بهم ، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس مالم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم ؟ فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلى حرب الحسين ، فأُنشدك الله إن قدرتَ على أن لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت ، فان أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ، فسر حتى أُنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الاسود والاحمر ، والله ما دخل


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 398 ـ 399.


(127)

علينا فيه ذل قط ، فأسير معك حتّى أنزلك القرية ، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيّئ ، فو الله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيّئ رجالاً وركباناً ، ثم أقم فينا مابدا لك ، فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين الف طائيّ يضربون بين يديك بأسيافهم ، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف ، فقال له : « جزاك الله وقومك خيراً » (1) ، وأبى أن ينصرف عن مقصده.
    وأنت تعلم أنه لو كان له رغبة في غلبة أو ميل إلى سلطان لكان لكلام الطرماح وقع في نفسه ( عليه السلام ) ، ولظهر منه الميل إلى ما عرضه عليه ، لكنه ـ بأبي وأمي ـ أبى إلاّ الفوز بالشهادة ، والموت في إحياء دين الاسلام.
    وقد صرّح بذلك فيما تمثل به ، إذ قال له الحر : أذكرك الله في نفسك فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال ( عليه السلام ) ـ كما


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 406 ، وتكملة الحديث : « إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الامور في عاقبه ».


(128)

في تاريخ الطبري وغيره ـ :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى وآسى الرجال الصالحين بنفسه إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً وفارق مثبوراً يغُشّ ويُرغما (1)

    ( وحسبك في إثبات علمه من أول الامر بما انتهت إليه حاله ما سمعته من :
    إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتله في شاطئ الفرات بموضع يقال له كربلاء.
    وبكائه عليه.
    ونداء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما حاذى نينوى وهو منصرف الى صفين : « صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشاطئ الفرات ».
    وقوله إذ مرّ بكربلاء : « هاهنا مناخ ركابهم ، وهاهنا


1 ـ تاريخ الطبري 5 / 404.


(129)

موضع رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم ».
    وقول الحسين ( عليه السلام ) لاخيه عمر : « حدثني أبي أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته ».
    وقول الحسن للحسين ( عليهما السلام ) ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ من جملة كلام كان بينهما : « ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها يحل الله ببني أمية اللعنة ».
    إلى غير ذلك من الاخبار الدالة على أن قتل الحسين ( عليه السلام ) كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر الله به نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، بل صريح أخبارنا أن ذلك مما أوحي إلى الانبياء السابقين (1) ، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم ( عليهم السلام ).
    ويظهر من بعض الاخبار أن قتل الحسين كان معروفاً


1 ـ راجع : بحار الانوار 44 / 223 ـ 249 الباب 30.


(130)

عند جملة من الصحابة والتابعين ، حتّى أنّهم ليعلمون أن قاتله عمر بن سعد.
    وحسبك ما نقله ابن الاثير ، حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله ، عن عبد الله بن شريك ، قال : أدرك أصحاب الاردية المعلمة وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري ، إذ مرّ بهم عمر بن سعد ، قالوا : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أن يقتله.
    قال : وقال ابن سيرين : قال علي لعمر بن سعد : « كيف أنت إذا قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار » (1).
    أترى الحسين ( عليه السلام ) كان جاهلاً بما عليه أصحاب السواري ؟ كلاّ والله ما علم أصحاب البرانس السود ذلك إلاّ منه ، أو من أخيه ، أو من جدّه ، أو من أبيه.
    وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إذ لم نجد من وفاه حقه وخرج من عهدة التكليف بايضاحه ، والحمد لله على التوفيق لتحرير هذه المسألة ، وتقرير شواهدها وأدلّتها ، على وجه تركن النفس إليه ، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه ، بل لا أظن أحداً يقف على ما تلوناه ثم يرتاب فيما قررناه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


1 ـ الكامل في التاريخ 4 / 242.


(131)

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net